مراجعة لكتاب “كلّ البشر أخوة” المهاتما غاندي، نشر أوّل مرّة 1958، ترجمة: أنطوان أبو زيد 1997، وكتاب “نعم للمقاومة لا للعنف” للدكتور وليد صليبي، لبنان 2005، النّاشر: حركة حقوق النّاس.
سنتكلّم عن هذين الكتابين بشكل مختصر في محاولة للبحث في تعريف النّضال فيهما، حيث أنّهما يشتركان في نقطة أساسيّة وهي اللاّعنف، ولكن كلّ من الكتابين ينتمي إلى حقبة زمنيّة وجغرافيا وتجارب ولغة بعيدة ومختلفة عن الأخرى، وجلّ ما يشترك أيضا في الكتابين هي أصول مؤلّفيها الشرقيّة.
كتاب كلّ البشر أخوة:
اختصر غاندي في هذا الكتاب فلسفته في الدّين والقيم والاقتصاد والسّياسة وفي العنف واللاّعنف، ومرتكزاتها في الوجود الإنسانيّ، وهي الّتي تشكّل هواجسنا الكبرى كأفراد ومجتمعات وأنظمة.
“اللاّعنف أعظم قوّة في حوزة البشريّة”
أعتقد أنّه من المناسب أن نبدأ بقول المهاتما غاندي هذا، للتّعرف على فلسفة ورأي غاندي في كتابه، اللاّعنف هو طريق الحبّ، يجب على الانسان تحمل مسؤوليته المفروضة عليه من هدفه في تحقيق العدالة ورفع الظّلم، عن طريق البحث في نفسه وليس عن طريق الآخر، يجب بذل الجهد لنعطي لأنفسنا، وللإنسان سمو معناه ونبالته، اللاّعنف كفعل لا يستخدم الجسد للانتقام بل هو تخطي له، هو سمو الانسان بحبّه عن تسبب الأذى والعذاب للآخر.
كتاب” كلّ البشر أخوة” يتكلّم عن الدّين وعن الحياة الاجتماعيّة والأخلاق وكيف أنّ من الممكن تطبيق الأخلاق والفلسفة على الواقع في حياتنا، ونضالنا تجاه أنفسنا أوّلا وتجاه الآخر.
هذا الكتاب يعرف المواجهة السّياسيّة وكأنّها لا تنفصل عن الأخلاق، فهي مواجهة نبيلة، هو بذلك يعاكس المعروف والمعمول به، ويربط العنف بجهل الانسان قوّته الحقيقيّة، وخسارته لإنسانيته، يؤكّد المهاتما غاندي على اكتشاف طاقة وقوّة اللاّعنف الكامنة، ومن ثمّ اكتشاف فشل العنف ومعنى قوّته على الصّعيد الانسانيّ والاجتماعيّ والدينيّ.
حيث يميّز المهاتما غاندي بين الإنسان وفعله، فيجب أن نوجّه الصّراع باتّجاه الظّلم وإيقافه، وليس تجاه من يقوم به، حتّى لا نكسّر القدرات الكامنة داخلنا وداخل خصومنا ونبتعد عن الهدف الأساسيّ من صراعاتنا، وسيتطلّب هذا التضحيّة بذواتنا وتحمّل عذابها، أمام أن نقوم بفعل منافي للضّمير ومنافي للاّعنف.
يقول غاندي: “إنّ جوهر فلسفة اللاّعنف يكمن في المجاهدة للتّخلّص من الأحقاد لا الحاقدين” وبذلك نكون قد خطونا نحو جعل قوّة الرّوح هي الفاعلة الحقيقيّة بعيدا عن عنف الجسد.
فالآهيمسا هي قوّة الحبّ والتّحرر من الخوف والهروب إلى العنف، قوّة الحبّ هذه لا بدّ لها من التّخلص والابتعاد عن أي عمل قد يكون “جريمة في حقّ البشريّة جمعاء” حيث أنّ أيّ نوع من المساس بالفرد مهما كان دوره هو جريمة كبرى كما يقول المهاتما غاندي في كتابه، هكذا يستطيع الإنسان السّمو بنفسه باتّجاه قدرات الحبّ إلى حبّ العدوّ كإنسان يحتاج إلى احتوائه.
عند المهاتما غاندي الحبّ لا يقتضي سهولة تقديمه وإنّما يتطلّب ذكاء ومعرفة وتدريب وقدرة على الشّعور بالمعاناة الإنسانيّة، هذا ما على الإنسان القيام به إن رَغِب أن يكون لاعنفيّاً حقّاً.
الدّمار لم يستطع أَنْ يزيل الحياة. فمن المؤكّد أنّ ثمّة قانون أسمى من قانون الهدم. وحدَهُ اللاّعنف يمكن أن يهبَ للإنسان وحياته معنىً.
باختيار اللاّعنف نستطيع أن نعتمد القانون الأسمى الواهب للحياة معناها الحقيقي والّذي يمنع الهدم والتّدمير والانتقام من أن يكون النّتيجة والأثر الباقي للإنسان، فإنّ التمسّك بهذه الحقيقة وقوّتها هي الأساس الّذي تستند إليه طرق المقاومة اللاّعنفيّة وحلّ النّزاعات.
حيث يقول المهاتما غاندي” اللاّعنف وحده يتيح للحقيقة أن تعبِّر عن نفسها ملءَ التّعبير” الحقيقة تسهّل لنا اختيار هدفنا وتقودنا إلى اللاّعنف، واللاّعنف كفعل وفكر يقودنا إلى الحقيقة، حيث فضّل غاندي في كتابه الرّغبة بالانتقام على الجبن والخضوع للظّلم باعتبار الجبن ضعف وهو أسوء حالة يمكن أن يصل إليها الانسان، الجبن الّذي يؤدّي بالنّاس إلى القبول برحمة الظّالم والاستسلام إلى سلطته بدلاً من المواجهة والوقوف في وجه الظّلم، رافضاً أن يحتمي الجبان الّذي يمتلئ قلبه بالحقد والعنف والاستتار خلف صفات اللاّعنف النّبيلة حيث أنّ اللاّعنف قوّة ومواجهة لا تعرف الخوف ولا التّخفي.
ليست الحرب هي قانون البشر ولا ضرورة ملحة ولا أسلوبا للحل السّياسيّ أو الاجتماعيّ، إنّ العذاب عند غاندي هو سمة الحياة الأساسيّة وقانونها الطّبيعي لذلك فإنّ فعاليّة اللاّعنف تكون عند وجود رغبة وإرادة لقبول العذاب لأجل الهدف اللاّعنفي الأسمى ولأجل العدالة، أن نصل بقوّة الرّوح إلى التّرفع عن الانتقام واختيار الحبّ والمسامحة، فلا يستطيع العنف أن يكون ردّا على العنف دون الخوض في دوامة مستمرّة لا تنتهي من الكراهيّة والأذى، وحده اللاّعنف هو الوسيلة لإيقاف العنف بشكل قاطع وغير مؤقّت.
بالحبّ وبإعلاء شأن الرّوح والمعاناة نستطيع أن نحيي الإنسان ونهدي خصمنا يجب أن نقنع داخله أوّلا، أن نعيد له إنسانيته بتقبّلنا عذابنا ورفضنا لظلمه، هَدَف اللاّعنف هو الإصلاح وإحياء الضّمير داخل الفرد واعتراض الظّلم الاجتماعيّ، أي الترفّع بذلك عن الفرد بشخصه فقط، فعندما نستطيع تقديم الحياة لا يبقى هناك أي مبرّرات للعدائيّة ونكون قد وصلنا بذلك إلى الآخر ومهّدنا الطّريق للتّواصل معه، فعلينا مواجهة الآخر وليس تجنّب هذه المواجهة بإلغائه وإيذائه، حيث يقول المهاتما غاندي: “والحال أَنَّ القلبَ الأقسى والجهل الأشدّ فظاظةً عاجزان أمام العذاب المنزّه والطوعيّ.”
فقد استطاع المهاتما غاندي أن يشرح كيف أنّ اللاّعنف هو حلّ وأسلوب حياة وهو قابل للتّحقيق فبالوصول إلى قلب الخصم والتماسه ومواجهته نَصل إلى العدالة ورفع الظّلم دون أن نضحّي بالآخر وإيذائه لننجي أنفسنا من الأذيّة، حيث أن شعورنا بالحاجة إلى الانتقام شعور يسيطر عليه خوفنا من الألم، علينا نحن كبشر الوصول إلى قوّتنا الحقيقيّة عبر رفض الظّلم والمواجهة والمسامحة، حيث أنّ قوّة الرّوح وهي فعل وفاعليّة يجب علينا تحمل مسؤوليّة وعذاب قرارنا هذا واستخدام هذه القوّة لرفع الظّلم عن نفسنا وعن الآخر. حيث نكون قد رفضنا أن نقف موقف اللاّمبالاة فقط إذا تغلبنا من الخوف على الحياة واتّخذنا القرار بالقطع مع العنف ومفاهيمه.
لننتقل إلى كتاب “نعم للمقاومة لا للعنف”:
وهو كتاب يستعرض بطريقة مبسطة أسئلة الشبّان والمناضلين حول جدوى اللاّعنف وأسسه الفكريّة والاستراتيجيّة، وتتّخذ الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى نموذجا رائدا في المنطقة.
في مفهوم النّضال أعتقد أنّ المؤلّف ركّز على أنّ الصّراع يتمحور حول الغايات، أيّ غايةٍ هي الأصلح؟ وهل الغاية تنشئ فاعليتها أم العكس؟ وكيف نستطيع حسب غاياتنا تقييم الفعاليّة؟
يقول أنّ هناك معادلة ثلاثيّة بين الغاية والوسيلة والفعاليّة في مفهوم النّضال، وهي الّتي تعرّف او تفرّق النّضال ومفهومه عن أيّ فعل آخر مشابه، فبعد النّقاش الدّائر في الكتاب أستطيع أن أحذف كلمة لا عنف من النّضال اللاّعنفي لتندمج في أصل كلمة نضال، النّضال في هذا الكتاب كالتربية والفنّ من غير الممكن أن يكون عنفيّا وذلك التّعريف مرتبط بالفاعليّة عنده.
أي يجب تحديد فاعليتنا، ما هي؟ هل هي الانتصار أم تحقيق غاياتنا الرّاقية؟
فإنّ النّضال من غير الممكن أن يكون ردّة فعل، إنّ النّضال لا يمكن أن ينتظر حالة من الظّلم لينتفض، إنّنا نحتاج إلى طلاّب عدالة وحقّ لتكون الفاعليّة حقيقيّة.
يقول د. وليد:”إنّ القضيّة الفلسطينيّة قضيّة عادلة وأخلاقيّة. وتتطلّب بالتّالي وسيلة عادلة وأخلاقيّة.. “.
حيث أنّ التّنظير للانتفاضة الأولى والدّعوة لاستكمالها بانتفاضة الزّهور في كتابه هذا، هو استكمال لفاعليّة الإنسان الفلسطيني أمام الظّلم الإسرائيلي وتحقيقا لغاياته، الزّهرة هنا تجدد الفاعليّة وتطوّرها ليصبح النّضال اللاّعنفي تعريفا واقعيا للفاعليّة المرجوة ومرتبطا بالقضيّة الأساسيّة، وهي رفع الظّلم.
يقول في الكتاب “ليست سياسة الخصم هي الّتي تحدِّد سياستنا، عن طريق التّقليد. لسنا ببغاوات سياسيّة”. فهل نبني سياستنا على أساس ردّة فعل!
حيث أنّ العنف فخّ ينصبه الظّالم ويقع فيه المظلوم، فإنّ عنف الظّالم يخدم قضيّة الظّالم. أمّا عنف المظلوم فيخدم أيضاً قضيّة الظّالم.
ويتساءل عن الذّكاء والإبداع البشريّ وارتباطه بالعدالة والإنسانيّة من حيث الفعاليّة، فإنّ الغاية شجرة وبذرتها هي الوسيلة، حيث يركّز على أهميّة التّلازم بين الغاية ووسيلتها وأنّها مسألة رئيسيّة، أي الرّبط بين العمل السّياسيّ والأخلاق، فهذا التّرابط ضروري من أجل الفاعليّة، إنّ القضاء على الخصم ليست غاية ولا فاعليّة وإنّما تحقيق العدالة هي الغاية، أي تقاس الفاعليّة بمدى قدرتها على إزالة الظّلم.
فيقول أنّ الأخلاق وارتباطها بالفاعليّة هو الّذي يميّز العمل اللاّعنفي، ويركّز على مفهوم الضّمير بدءا من النّزاعات الفرديّة إلى النّزاعات ذات الطّابع العام فبالضّمير يصبح اللاّعنف لاءان:
لا لعنف الذّات ولا لعنف الآخرين، أي لا للظّلم كيفما كان.
حيث العمل اللاّعنفي يسعى حسب المؤلّف إلى عودة العمل السّياسي والفاعليّة السّياسيّة إلى جوهرها الأساسيّ وبالتّالي تعزيز الأمل بالنّتائج.
أريد أن أختم بمقطع من كتاب “قاموس اللاّعنف” لجان ماري مولر:
“ليس بمستطاع اللاّعنف، شأنه شأن العنف المضادّ، أن يستأصلَ كلَّ شرّ، كلَّ “الّشر. فمن قبيل الوهم أن نتوقّع من اللاّعنف أن يمحو مأساويّة أنّ الإنسان آيل إلى الموت حتمًا. ثمّة في كلِّ موقف نزاعي، “بقيّة” عنف ليس بمقدور اللاّعنف أن يحلَّها. لكنْ عندما يبلغ اللاّعنف حدودَه، تخطئ إيديولوجياتُ العنف فادح الخطأ إذ تباهي بالظّفر مؤكّدة أنّها هي وحدها صاحبة الحلّ! فحيث لم ينجح اللاّعنف في دحر الشّر، ليس العنف المضاد، هو الآخر، بأوفر حظًّا من النّجاح”.
فعدم فعاليّة اللاّعنف ليس برهانًا على فعاليّة العنف. غير أنّه حين تبدو كلّ مقاومة لاعنفيّة آيلةً إلى الفشل، إذا بدا اللّجوءُ المحدود إلى وسائل عنيفة فعالاً لتحييد فاعلين مسلَّحين يهدّدون سواهم، قد يكون إعمالُ هذه الوسائل ضروريًّا بصفتها أهون الشرَّين.
****
تعريفات في الهامش مختصرة لابدّ منها:
تجدون التّعريفات كاملة في كتاب قاموس اللاّعنف، جان ماري مولر، ترجمة: محمد علي عبد الجليل، معابر للنّشر، دمشق،2007.
العنف: “العنف جزء لا يتجزأ من الحياة” – هذا ما درج القولُ به على سبيل التّبرير. قطعًا، في معزل عن الحياة ليس هناك من عنف! فالإنسان كائن هوائي بقدر ما هو كائن عقلاني؛ والإنسان الخاضع لهواه إنسان عنيف: ففي كلِّ لحظة، يمكن له أن يغذّي مشاعرَلاإنسانيّة قويّة تؤهِّبه لتجريح إنسانيّة الإنسان الآخر. لذا يجب عليه، للسّيطرة على عنفه، أن يتعلّم كيف يصبح عاقلاً، أي قادرًا على التّعقُّل. إذا كان العنف يستقي مصدره من صنيع الحياة، فإنّ صنيع العنف هو الموت. إنّ طاقة العنف، حالما يتمّ قبولُها وتطويعها وتصريفها وتقنينها والسّيطرة عليها وإزاحتها وتحويلها وتصعيدها، هي الّتي تُعبِّر عن الحركة البنَّاءة للحياة، وليس العنف المتفجّر، الهمجي، القاسي. فهذا الأخير ليس في الواقع سوى انحرافا للعدوانيّة. إنّ العدوانيّة تتيح تأكيد الذّات في المجابهة مع الآخر؛ أمّا العنف فيؤدّي إلى نفي الآخر، وفي الوقت نفسه، إلى تعريض حياة المعنِّف للخطر. وفي المحصلة، في الأصل من هذا العنف الأهوج، لا توجد الحياة، بل الاغتصاب، اغتصاب الحياة، الموت.
كلّ “عنف” violence يمارَس على الإنسان إنّما هو “اغتصاب” viol: اغتصاب لهويّته، لشخصيّته، لحقوقه، لكرامته، لإنسانيته. العمل العنيف هو، بأدقّ المعاني، فعل “غَصْب”. إنّ صورة كائن إنساني مشوَّه الوجه بإرادة إنسان آخر تُظهِر فظاعةَ العنف: فالعنف هو تشويه لوجه الإنسان. ويمثِّل هذا التّشويهُ مأساة الإنسانيّة، إذْ يجرِّد الوجودَ من المعنى ويحطِّم الرّجاء. العنف يبعث على اليأس حقًّا! إنّ مأساويّة الوجود ليست في كون الإنسان فانيًا، بل في إمكانه أن يكون قاتلاً.
السّلْميّة: موقف أخلاقي “وعظي”. فهي تدين الحرب – كلَّ حرب والحروب جميعًا – لأنّها محض لاأخلاقيّة. وبهذا فإنّ الخطاب السّلْمي، بتقديمه الحربَ سلفًا بوصفها الشرَّ المطلق، يحُول دونه ومعرفةَ السّيرورة التاريخيّة المعقَّدة الّتي تجعل الحربَ ممكنةً وفهمَها. لم تفهم السّلْميّة أن الحرب لا تستحق إدانةً وحسب، الحرب نهج عمل، وغايتُها عادلة إذا كانت تهدف فعليًّا إلى حماية حقّ المضطهدين أو إلى استعادته. النّهج مكروه قطعًا، لكن هذا لا ينتقص من ضرورة العمل. إذا كانت إدانة النّهج تؤدّي إلى التّقاعس عن العمل، فهناك خللٌ في مكان مّا من الإجراء. والواقع أنّ السّلْميَّ ينطلق من رؤية مثاليّة إلى التّاريخ: فالخطابُ السّلْمي مسمَّر في مكان لا تاريخي حيث تغيب مقتضيات العمل. وتلتمس السّلْميّة فضائلَ في زمن تحدِّد القوّة وحدَها العلاقاتِ بين البشر، فيظلّ مسعاه إذ ذاك عديمَ التّأثير. إنّ ما يميِّز السّياسيَّ هو بالتّحديد كونه محكومًا بالقوّة، لا بالحقّ. فالخطاب السّلْمي، سواءٌ كان قانونيًّا أم روحانيَّ النّزعة، يرتكب خطأ حاسمًا عندما يَصِمُ النّزاعَ بالعار، متذرعًا بالدّفاع عن الحقّ والثّقة والأُخوَّة والمصالحة والمحبّة. وهاهنا أيضًا يغادر التّاريخ هاربًا إلى اليوطوپيا.
اللاّعنف: عندما يتمّ التّطرقُ إلى “اللاّعنف”، ينبغي إجراءُ تمييز يسبِّب إغفالُه التباساتٍ كثيرةً والإصرار على هذا التّمييز: التّمييز بين فريضة اللاّعنف الفلسفيّة وبين استراتيجيّة العمل اللاّعنفي. فهذه وتلك تموضعان على صعيدين مختلفين يجدر التّمييز بينهما، لا للفصل بينهما، بل لتفادي الخلط. فاللاّعنف، كمبدأ فلسفي، هو طلب المعنى؛ أمّا كمنهاج عمل، فهو البحث عن الفعاليّة. إنّ مَن يختار اللاّعنف هو إنسان مدهوش، يجعله العنفُ مشدوهًا بالمعنى الحرفي للكلمة، سواء كان العنف عنفه هو أو عنف سواه. فمن يصمِّم على اللاّعنف إنسانٌ يجرِّحه العنف، يظهر له تشويهُ الوجه بالعنف بوصفه ذروة “الخساسة ويحرض فيه التّمرد إنّه يخرج على رتابات العنف الّتي تستولي على العالم. فليس الموت هو الّذي يبدو له خسيسًا، بل القتل. إنّه يرى في عار العنف بداهة اللاّعنف.
الأهيمسا(Ahimsa): مصطلح سنسكريتي، والمألوف في نصوص الأدبيات الهندوسيّة والجَينيّة والبوذيّة. وهو يتألّف من بادئة النّفيa- ومن اسم himsa الّذي يعني الرّغبة في إيقاع الأذى بكائن حيّ، في تعنيفه”. الأهِمْشا” هي الاعترافُ برغبة العنف الكامنة في الإنسان – تلك الرّغبة الّتي تقوده إلى إرادة إبعاد الآخر وإقصائه وإلغائه والتّبريح به – واستئناسُ هذه الرّغبة والسّيطرةُ عليها وتحويلُها.