حركة خارج السرب | هل الهويّة مفتوحة أم مغلقة!؟
هل الهويّة مفتوحة أم مغلقة!؟
2019-07-08 | 1374 مشاهدة
د. عبد الحسين شعبان
مقالات

ربّ سائل يسأل، كيف تتشكّل الهويّة؟ هل هي ثابتة وكاملة وبالتالي مقفلة غير قابلة للتطوّر أم أنها متغيّرة ومتحوّلة ومفتوحة وقابلة للإضافة والحذف!؟ واستكمالاً لهذا السؤال يلوح دور الإرادة للفعل أو للمعطى التاريخي الذي يقبل التطور والتراكم والتفاعل مع غيره، حيث تتمثل الهويّة في عناصر معرفية ونسق معتقدات وقيم ومعايير، وعلى الرغم من محاولات العولمة تحويل الثقافة إلى سلعة يتم تداولها على نطاق واسع، وخاضعة لسوق العرض والطلب والاحتكار، فإنه يمكن القول إن هناك ثلاث مستويات لتشكيل الهوية، فهناك:

المستوى الأول – الفردي، فلكل فرد هويته وخصوصيته.

وهناك المستوى الثاني – الجماعي أو المجتمعي أو الجمعي "الجمعوي" كما تسمى مغاربياً، وهي تمثّل المشترك للجماعة الإنسانية.

أما على المستوى الثالث فهو المستوى الوطني والقومي.

وفي كل الأحوال فان هذه المستويات الثلاث تتحدّد بنوع المواجهة، اتفاقا أو اختلافاً مع الآخر، لا سيّما الذي تواجهه قرباً أو بعداً، وهو ما يذهب إليه محمد عابد الجابري .

نجم صراع الهوّيات عن نزاعات اجتماعية – اقتصادية، لا سيّما في إطار العلاقات الدولية، خصوصاً علاقة البلدان المتقدمة صناعياً بالدول النامية، حيث تحاول الأولى ترويضها وتطويعها ونهب مواردها، وأحياناً يتخذ احتدام الهوّيات شكل صراع متنوّع، فيما يتعلق بنمط الحياة والسلوك ومنظومة القيم، حتى وإنْ اتّخذ شكلاً دينياً أو لغوياً أو قومياً، لكنه يُمثّل من حيث الجوهر محاولات لفرض الاستتباع وإملاء الإرادة من جانب القوى الكبرى، ومقاومة وممانعة من القوى الصغرى.

وهناك نوع آخر من الاحتدام في الهوّيات، ينجم عن نزاعات إثنية أو دينية، وأحياناً تتداخل هذه النزاعات التي تكاد تكون سائدة حالياً في المجتمعات المتخلفة أو البلدان النامية أو ما يمكن أن يطلق عليه مجتمعات الأطراف أو بلدان الجنوب الفقير، بسبب ضعف الدولة المركزية من جهة وشحّ الحقوق والحرّيات وعدم تحقيق المساواة التامة والمواطنة الكاملة من جهة أخرى، لا سيّما في دول متعدّدة الأعراق والقوميات والإثنيات والأديان والطوائف، فسرعان ما تندلع الصراعات بين من يدعي تمثيل القومية الكبرى أو الدين السائد أو النافذ أو الطائفة الأكبر من موقع السلطة ومن خارجها أحياناً، وبين "أقليات" أو فئات مُستبعدة أو مهمّشة، فيستعين كل طرف بثقافته السائدة، عندها يندلع العنف ويحتدم الصراع وتتباعد الكيانات وتكبر الهوّات.

قراءة الماضي مستقبلياً، كان الاعتقاد السائد حتى وقت قريب وقبل الموجة الأخيرة لانبعاث الهوّيات في الثمانينات بأن الصراع بين الهوّيات يكاد يختفي في المجتمعات المتقدّمة، وخصوصاً الذي اتّخذ بُعداً (استئصالياً وإقصائياً) عنفياً وعسكرياً ومسلحاً، وحتى لو بقيت بعض ظلاله أو استحضر تاريخه، فإنما يتم ذلك على صعيد الفكرة والسياسة والتاريخ والمصالح الاقتصادية، لا سيّما بعد إسدال الستار على جوانبه المأسوية، حيث شهدت أوروبا، اتحاداً متميزاً ونافذاً أساسه المصالح الاقتصادية والمنافع المتبادلة وثقافة التسامح والتعايش والتعاون، بعد اعتماد مبادئ المواطنة واحترام حقوق الإنسان، لكن هذا الصراع ما زال مستمراً ومتصاعداً في البلدان النامية، وبعض بلدان الكتلة الاشتراكية سابقاً، وإنْ لم يختفِ كلّياً في البلدان المتقدمة، بما فيه دول الاتحاد الأوروبي ذاتها، وهو ما جرى التعبير عنه بأشكال جديدة وما حاولنا أن نعرضه كمدخل لهذه الدراسة.

ولعلّ مثال كندا ومطالبات إقليم الكيبك بالانفصال خير دليل على ذلك، علماً بأنه أكبر المقاطعات الكندية مساحة وثاني مقاطعة من حيث عدد السكان وعاصمتها مدينة كيبك وأهم مدنها مونتريال ولغتها الفرنسية وقد جرت محاولات الانفصال منذ العام 1980، في استفتاء عام، لكنها لم تحرز النتائج المرجوة.

أما إسبانيا فإن إقليم الباسك المؤلف من 17 منطقة للحكم الذاتي، والتي تؤلف ثلاث مقاطعات، والذي يقع في شمال إسبانيا فإنه يطالب بالانفصال، هو الآخر. والأمر يشمل كاتالونيا التي قرّرت إجراء استفتاء للاستقلال في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 وعاصمته برشلونة ويضم نحو سبعة ملايين ونصف المليون إنسان على الرغم من اعتراض مدريد وعدم اعترافها بشرعية ودستورية ما تقوم به .

ويمتدّ الأمر إلى فرنسا، حيث تطالب جزيرة كورسيكا بالاستقلال (وهي رابع أكبر جزيرة في البحر المتوسط). وفي العام 1960 كانت قد تشكلت حركة مسلحة انفصالية وقامت بمهاجمة مباني حكومية، لكنها تخلّت عن ذلك في العام 2013 وتوجهت للمطالبة بالانفصال سلمياً ومدنياً وفقاً للقانون.

وفي إيطاليا يطالب إقليم فينيتو بالانفصال وتعتبر مدينة البندقية "فنيسيا" أكبر مدنه وأسباب الانفصال اقتصادية، لكن الدستور الإيطالي يقف حجر عثرة حتى الآن أمام هذه المطالبات. ومشاكل أوروبا ولا سيّما منطقة البلقان تعجّ بالتنوّع الثقافي والإثني والديني والسلالي واللغوي.

وفي بلجيكا التي تتألف من قوميتين رئيسيتين هما الجماعة الفلمنكية والجماعة الوالونية، فالأولى تدعو إلى توسيع الفيدرالية القائمة منذ العام 1993 إلى كونفدرالية تمهيداً للانفصال، ويعيش الفلمنكيون في الشمال في حين أن الوالونيين يعيشون في الجنوب، وفي حين أن لغة الفلامكيين هي الهولندية، فإن لغة الوالوانيين هي الفرنسية، أما إقليم بروكسل العاصمة فهو مختلط ومزدوج اللغة، وللعاصمة بروكسل ثقل ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي (الناتو).

يؤلف الوالونيون (الفرانكفونيون) نحو 4 ملايين نسمة في حين أن الفلمنكيين يؤلفون نحو 6 ملايين نسمة ويبلغ معدل الدخل السنوي للفلامنكيين 34 ألف يورو سنوياً، في حين يقابله للوالونيين نحو 25 ألف يورو سنوياً، ونسبة البطالة لدى الفلامنكيين أقل منها لدى الوالونيين. وبهذا المعنى يصبح هدف الأغلبية تحقيق الاستقلال، خصوصاً وأن الأسباب الاقتصادية تقف إلى جانب الاختلافات الثقافية، حيث أن معظم الثروات الاقتصادية تأتي من إقليم الفلامند، وقد تتعرض الوحدة البلجيكية الحالية إلى التصدّع، وهي الآن مهدّدة بالتقسيم إلى دولتين، وقد يكون بينهما طلاق بائن.

وكان أول تغيير سلمي قد حصل بعد حركة التغيير التي شملت أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات بين التشيك والسلوفاك، ولكنه كان طلاقاً مخملياً وبالتراضي والسلم. ففي العام 1993 قرر ممثلو التشيك والسلوفاك فكّ الارتباط الذي كان قائماً تحت اسم جمهورية تشيكوسلوفاكيا، واختاروا الحل السلمي بالتفاهم، ثم إنهاء الفيدرالية القائمة بينهما وإعلانهما كجمهوريتين مستقلتين (جمهورية التشيك وجمهورية السلوفاك).

ولكن الأمر يختلف عن التجربة اليوغسلافية والتجربة السوفيتيية اللتان كانتا مأسويتين ودمويتين بامتياز وجاءتا بعد حروب طاحنة وتركتا مرارات وعذابات لا حدود لها على الجماعات المتنازعة بغضّ النظر عن حقوق الأطراف وتجاوز البعض عليها ومحاولة هضمها. وقد انقسم الاتحاد السوفييتي السابق إلى 15 جمهورية لا تزال تداعياتها وآثارها تبرز بين الحين والآخر، ولعلّ الأزمة الأوكرانية حالياً مشكلة جزيرة القرم ذات الكثافة السكانية من أصول روسية ليست بعيدة عنها، إضافة إلى حروب جورجيا وجمهوريات آسيا السوفيتيية السابقة.

أما يوغسلافيا السابقة فقد تمزقت إلى 6 كيانات وجرت بينها حروب وصراعات بعضها لم يتدخل على صعيد العلاقات التاريخية بين مكوّناتها الثقافية والدينية والإثنية والاجتماعية أو تداخلاتها الدولية، ناهيك عن هدر حقوق الإنسان وأعمال إبادة جماعية كما حصل في كوسوفو، إضافة إلى البوسنة والهرسك.

أما تجربة اسكتلندا في إطار المملكة المتحدة، فقد كانت رغبة أقسام كبيرة من سكان اسكتلندا الانفصال، لكن الاستفتاء الذي جرى في 18 أيلول (سبتمبر) 2014 كانت نتائجه 55% لصالح البقاء ضمن المملكة المتحدة، الأمر الذي بسببه استقال الزعيم القومي الاستكلندي أليكس سالموند من قيادة الحزب الذي يدعو للانفصال، وهناك في العديد من البلدان المتقدمة مطالب انفصالية أو استقلالية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة الهويّة والخصوصية، لكن طريقة معالجتها كما رأينا تختلف عن معالجة البلدان النامية التي غالباً ما لجأت إلى الحروب والنزاعات المسلحة والرغبة في الاستئصال والإقصاء، ناهيك عن اتهامات متبادلة وارتكابات وتجاوزات بلا حدود.

وبشكل عام كان ديدن الأنظمة اللاّديمقراطية وبخاصة في البلدان النامية هو اللجوء إلى الحلول العنفية أو العسكرية أو المسلحة في معالجة موضوع انبعاث الهوّيات، حيث شهدت احتدامات حادة ومعارك كبرى تحت راية الهويّة وهو ما حدث في أمريكا اللاتينية ويحدث في آسيا وأفريقيا، واستمرّ على نحو حاد في العراق والسودان الذي انفصل جنوبه في العام 2010 في استفتاء شعبي صوّت سكان الجنوب لصالحه بنسبة زادت على 98% بعد صراع مرير ودموي وخسائر مادية ومعنوية وبالأخص في الجانب البشري وتعطيل التنمية، كما تشكل إقليم تيمور الشرقية بقرار دولي قضى بانفصاله عن إندونيسيا لاعتبارات تتعلّق بالهوّية أيضاً وارتباطاتها بالمواطنة وهكذا يستمر الأمر في الصومال وأفغانستان وغيرها حيث تتقدّم الهوّيات الفرعية على الهويّة الجامعة.

ولعلّ الحديث عن أكثر من "عراق" أصبح مبحثاً يكاد يكون دائماً على طاولة التشريح الدولي وفي الكثير من مراكز الأبحاث والدراسات السياسية والاستراتيجية والأمنية منذ عقود من الزمان، وخصوصاً خلال الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 وما بعدها ولاسيّما بعد غزو الكويت العام 1990 وحرب قوات التحالف ضد العراق العام 1991، وتعاظم الأمر بعد الاحتلال العام 2003، لاسيما وكان نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن قد طرح "مشروع تقسيم العراق" وحاز على موافقة من الكونغرس العام 2007.وعلى الرغم من الدثار السميك من القوة والقمع الذي تغلّف به الصراع في السابق، لكنه سرعان ما انفجر، خصوصاً بإقرار صيغة المحاصصة الإثنية- الطائفية التي كرسها بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي منذ تشكيل مجلس الحكم الانتقالي 2003 وما أعقبه من توزيع للمناصب والامتيازات.

واتّخذت تلك المشاريع ذرائع جديدة فتارة باسم "الواقعية السياسية" وأخرى لضرورات "إنهاء العنف"، وثالثة اتّشحت "بالرداء الإثني أو المذهبي"، وفي كل الأحوال فهذه وتلك، كانت تهدف إلى تقريب فكرة التقسيم من الواقع، وجعلها فكرة مقبولة واقعياً، باعتبارها "أحسن الحلول السيئة"، لا سيّما في ظل التشظّي والاحتراب وأعمال الإرهاب والعنف، وعادت المشاريع إلى الواجهة بعد احتلال تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" للموصل في 10 حزيران (يونيو) العام 2014، حيث ظهرت مرّة أخرى وبقوّة فكرة الأقاليم التي هي أقرب إلى مشاريع التقسيم منها إلى مفهوم الفيدرالية المعروف دولياً، وكان التعبير الأكثر وضوحاً هو استفتاء إقليم كردستان للاستقلال عن العراق (25 أيلول/سبتمبر 2017) وردود الأفعال التي رافقته وأعقبته.

والأمر مطروح اليوم بحدّة في سوريا من جانب الأوساط الدولية المتنفّذة بغض النظر عن أهداف حركة الاحتجاج والمطالب الشعبية العادلة والمشروعة التي ابتدأت سلمية في 15 آذار (مارس) العام 2011، والتي دخلت عليها عناصر مختلفة، بما فيها قوى إرهابية مثل "تنظيم القاعدة" ووليدها "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) و"جبهة النصرة"(جبهة أحرار الشام لاحقاً) وتسميات مختلفة، بحيث تحوّل الصراع عنفياً ودموياً، وبدت الحرب التي تستمر منذ ذلك التاريخ وحتى كتابة هذه الدراسة، وكأنها "مصارعة على الطريقة الرومانية"، لا تنتهي إلاّ بمقتل أحد الفريقين المتصارعين، ووصول الفريق الآخر إلى درجة من الإعياء تقترب من الموت. وترافق ذلك بصراعات وجدل، تعكّز على هويّات ما قبل الدولة، مثل: هويّات فرعية :سنّية وعلوية ودرزية ومسيحية وكردية وغيرها، الأمر الذي ينذر عند تفجرّها بانهيار الدولة السورية وتبدّد وحدتها.

ويحتدم موضوع الهوّية في اليمن على نحو شديد، خصوصاً بارتفاع رصيد الهويّات الفرعية على حساب الهويّة الوطنية العامة، حتى بدت الهويّة المذهبية للحوثيين "أنصار الله" والهويّة الجهوية للحراك الجنوبي الداعي لإعادة القديم إلى قدمه (ما قبل الوحدة العام 1990) الأساس في التعامل، خصوصاً بإضعاف الدولة وضعف المواطنة بالأساس، وزاد الأمر تعقيداً بعد التدخّلات الإقليمية، وخصوصاً ببدء الحرب واستمرارها طيلة أشهر طويلة وقاسية.

وفي ليبيا حيث الانفلات الأمني وغياب الدولة والتمترس بالهويّات المناطقية، تعود الرغبة إلى نظام الفيدراليات الثلاثي، ولاسيّما حين يكثر الحديث عن توزيع الثروة والسلطة، بما يقترب من دويلات، بجيوش وعلاقات خارجية ومحاولة بيع للنفط والاستحواذ على بعض مصادر الثروة.

وعلى هذه الشاكلة تعرّضت الدولة الوطنية وبسبب سياسات الاستبداد إلى التمزق والتشظّي، وصعود هويّات فرعية، خصوصاً بضعف المواطنة والمساواة، والأمر يشمل لدرجة أقل مصر وتونس، حيث كان دور الجيش بارزاً في إنجاز عملية التغيير وحافظ ذلك إلى حدود كبيرة على الدولة وصان أجهزتها ومرافقها ومؤسساتها.

وباستثناء ما حصل من معارك البوسنة والهرسك والصراع بين الصرب والكروات والمسلمين والمسيحيين، وما حصل بين روسيا والشيشان وفي جورجيا وألبانيا وأوكرانيا وهي كلّها خرجت من عباءة الأنظمة الشمولية، فإن تعايش الهوّيات أمرٌ معترف به ومصان قانوناً وممارسة، وأخذ يشكل جزءًا من الثقافة المشتركة ذات الأبعاد الإنسانية، حتى وإن ظهرت مشكلات جديدة إثر الهجرة الواسعة وبعض الأعمال الإرهابية، التي شهدها الغرب وصعود تيارات يمينية متطرّفة وتوجهات شعبوية لا تعترف بخصوصية الهويّات الفرعية، وخصوصاً فيما يتعلّق بـ: اللاجئين والمهاجرين المتحدّرين من أصول وثقافات أخرى.

وإذا كانت ظاهرة الهويّات الفرعية والتنوّع الثقافي قد انتعشت في العالم وفي أوروبا أيضاً، فإنه يمكنني أن أسجّل ظاهرة مختلفة ومتميّزة، بل معاكسة للمسار السائد الذي يقود إلى التشظي والتفتّت، وهي ظاهرة الوحدة حيث توجّه الألمان نحو الوحدة بالتحاق ألمانيا الديمقراطية بألمانيا الاتحادية بعد الإطاحة بجدار برلين، على عكس الدول الموحّدة التي تشظّت وانشطرت وتصارعت هويّاتها، وربّما نشهد في وقت لاحق مثل هذا الميل الكوري، لاسيّما بعد التقارب والتفاهم الأولي الذي حصل في لقاء القمة بين الزعيمين الشمالي والجنوبي كيم جونغ أون ومون جاي-إن.

الهويّة إذاً وعي الإنسان وإحساسه بذاته وانتمائه إلى جماعة بشرية قومية أو دينية، مجتمعاً أو أمة أو طائفة أو جماعة في إطار الانتماء الإنساني العام، وحسب حليم بركات "إنها معرفتنا.. بما، وأين، ونحن، ومن أين أتينا، وإلى أين نمضي، وبما نريد لأنفسنا وللآخرين، وبموقفنا في خريطة العلاقات والتناقضات والصراعات القائمة"!؟ .

الهويّة بهذا المعنى هي مجموعة السمات الثقافية التي تمثّل الحد الأدنى المشترك بين جميع الذين ينتمون إليها، والتي تجعلهم يُعرفون ويتميّزون بصفاتهم تلك عمّا سواهم من أفراد الأمم والجماعات الأخرى. وقد تتطور الهويّة بالانفتاح على الغير، وقد تنكمش، تتحدد أو تتقلص، تنحصر أو تنتشر، لكنها دون أدنى شك تغتني بتجارب الناس ومعاناتهم وانتصاراتهم وآمالهم، وهذه المسألة تتأثر سلباً وإيجاباً بالعلاقة مع الآخر .

الهويّة حسب أدونيس ليست معطىً جاهزاً ونهائياً، وإنما هي عمل يجب إكماله دائماً ، والتغيير هو الذي يطبع الهويّة وليس الثبات، والتفاعل بحكم علاقة الإنسان بالآخر، وليس الانعزال، ولا يتعلّق الأمر بالقضايا السياسية حسب، بما فيها المواطنة وحقوقها، بل إن المسألة تمسّ بالصميم الجانب الثقافي، وهذا الأخير بقدر كونه معطىً مرتبطاً بالماضي والمستقبل، فإن الجانب السياسي له علاقة بالحاضر، الراهن، القائم، أما جوانب الهويّة الخصوصية الثلاث فلها علاقة بالأرض والتاريخ والجغرافيا (الزمان والمكان) مثل علاقتها بالثقافة المشتركة السائدة في الأمة، وأخيراً علاقتها بالكيان القانوني لوحدة الوطن والأمة (اتحادهما في دولة مثلاً).

إن جدل الهوّيات لا يعني بالضرورة الصراع بينها، بقدر ما هو حالة صراع واتحاد، احتدام واحتواء، وعلاقة تمثل وتعلّم، رغم المغايرة وعدم التجانس والاختلاف، إنها حالة نفور وتكامل أحياناً، ومثل هذا التنوّع في العلاقة، لا سيّما الاختلاف، يؤكد التلازم بين الثقافة من جهة، والتعدّدية والتنوّع من جهة أخرى، فهويّة طالبان مثلاً وفقاً لمنطقه حسب أدونيس: ليس إمكاناً وإنّما هو المتحقق، وهويّـته إذن جاهزة مسبقاً، مكتملة، ومغلقة، كأنه شيء بين الأشياء: حجر، أو فأس أو سيف... هكذا تريد القوى المتعصبة أن تضع هويّة الإنسان وراءه وليس أمامه، هويّة مغلقة وليست مفتوحة، متكوّنة وكاملة، وليست قابلة للإضافة والحذف، أي أنها أقرب إلى الثبات وعدم التغيير، فلا وجود للتراكم والتطور ووفقاً لهذا المنطق، فإن الآخر لا وجود له، غائب، عدو .

يمكن القول إن لا ذات بلا آخر، فلا ذات دون تأثير وتأثّر، وحين تكون الهويّة من القوة والفاعلية تكون أكثر ثقة بالنفس، وأكثر استعداداً للانفتاح على الآخر وأكثر حيوية في التعاطي والتلاقح معه .

الثقافة تشمل طريقة حياتنا كلها، وأخلاقنا، ومؤسساتنا، وأساليب عيشنا، وتقاليدنا، حيث لا حدود لتفسير العالم، وإنما سعي لإعطائه شكلاً خاصاً به .

العالم، لا سيّما في ظل العولمة أرخبيل مفتوح تتلاقى فيه الشعوب وتتمازج، فمثلاً رغم السمة الغالبة للمجتمع العربي لغوياً وإثنياً ودينياً (العربية – الإسلامية) لكنه كان ملتقى القوميات والإثنيات والثقافات مثل: البابلية، والأشورية، والفينيقية، والفارسية، والهندية، والتركية، والكردية والزنجية، وإضافة إلى الإسلام هناك المسيحية واليهودية، وتمازجت هذه الثقافات والأديان المتنوعة في كلِّ إنساني وثقافي واحد، لكنه متعدّد، وتآخت اللغة العربية مع اللغات الأخرى وتفاعلت واقتبست منها، فناً وأدباً وفكراً، إذ كان "العقل اليوناني" أحد مرتكزات الفكر الفلسفي العربي زائداً "النقل الإسلامي"، ولعبت الترجمة دوراً مهما في توسيع دائرة الثقافة العربية، المتعددة، محل الواحدية، وكانت الأندلس امتداداً خلاّقاً لبغداد .

لقد تغيّرت خصائص الثقافة اليوم بفعل المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، خصوصاً في ظل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فالتلفزيون والكومبيوتر والانترنيت ساهمت مساهمة كبيرة في هذا التغيير، ولعلّه بقدر التقارب الذي أحدثه، فقد جعلت التمايز والخصوصيات، سمة مميزة للهويات والثقافات المختلفة، حيث تسعى الشعوب لاكتشاف أساطيرها ورموزها وترسيخ ذاكرتها وتعزيز لغتها الخاصة، وبالخصوص عندما تخشى من التذويب أو الإقصاء، وقد حفّزت العولمة مثل هذا التهديد، خصوصاً عندما جعلت العالم كله "قرية واحدة" هي أقرب إلى "سوق" واحدة، فالهوّيات الطرفية (العالمثالثية) وقفت ضد هويات الهيمنة، والهوّيات الفرعية في الدولة الواحدة، سعت للتشبث بخصوصياتها إزاء محاولات الإقصاء والتهميش.

يتعذّر الحفاظ على الهويّة والتنوّع الثقافي بأساليب القمع والطغيان والانعزال، فهذه الممارسات تؤدي إلى تصحير الهوّيات، وبدلاً من الانفتاح والتواصل والتعدد، تؤدي إلى الانغلاق والانكفاء والتوقع، ومثلما لكل إنسان لغته، فله هوّيته التي تتعزّز بالانفتاح مع الآخر، فردياً أو جماعة، وقد يكون الإنسان يحمل أكثر من هويّة، بمعنى أنه عربي أو كردي أو تركماني، مسلم أو مسيحي أو غير ذلك، لكن هويّته العامة عراقية، وكذا الحال لمن عاش في المنفى، فرغم احتفاظه بهوّيته، فقد يكون قد أضاف إليها هويّة مكتسبة.

وهنا يُثار تساؤل مشروع: هل المكان هو الذي يحدد الهويّة؟ أم أن الهويّة التي تكوّنت وترسّخت واكتسبت كيانية مستقرة تظهر على نحو جلي في بيئتها الحقيقية، حيث المكان والاستمرار والتفاعل، وحيث اللّغة والدين وغيرهما من العناصر التي هي أقرب إلى الثبات، في حين أن العناصر الأخرى تتعزّز وتغتني باستمرار بالإضافة والحذف والتواصل بين الحضارات والتلاقح بين الثقافات فردياً أو مجتمعياً!

الثقافة العليا التي تمحو الثقافات الأدنى أو تهّمشها هي ثقافات غير إنسانية، ولا هويّة خارج الإنسان، حيث يتحدّد أفق الهويّة بالانفتاح والتقدم بلا حدود أو نهايات، وهو أفقٌ مفتوح للتحرر من قيود الواقع. إنه أفقٌ رمزي، يوحّد بين البشر، على أساس المشترك الإنساني.

وإذا كان الإلحاح على الهويّة العمودية في ظروف تاريخية معيّنة أمراً مشروعاً، وضمن حدود التحرّر من الاستعمار والهيمنة الخارجية، إلاّ أن الاستمرار في هذا الإلحاح خارج تلك الظروف، يصبح خطراً على الهويّة ذاتها، حيث يؤدي إلى الانكماش والانكفاء والانزواء، فالتعدّدية والتآلف من سمات الهوّيات المفتوحة التي ترفض الصهر والاستتباع مثلما ترفض الهيمنة والتسيّد، وتتشبث بالمعرفة وليس الهيمنة، بالموضوعية والعقلانية، وليس الانعزالية والانغلاقية، هي التي ينبغي أن تطبع سجال الهويّات، وهو ما استهدفه الباحث عندما شرع بكتابة كتابه "جدل الهوّيات في العراق" ، حيث وضع الواقع أمامه وحاول نقدياً ومن خلال قراءة جدلية للمكوّنات والكيانات الموحدة، المتعددة، العامة والفرعية، صياغة علاقة أساسها المشترك الإنساني، باقتراح حلول حقوقية – إنسانية، من خلال فـكرة المواطنة ونبذ الطائفية.

عن حبر