حركة خارج السرب | مختصر حياة وموت الفن التجريدي
مختصر حياة وموت الفن التجريدي
2019-11-26 | 1599 مشاهدة
مقالات

عام 1921 صُعقت موسكو بثلاث لوحات للفنان الروسي ألكسندر رودشينكو حملت عنوان أحمر نقي، أصفر نقي، وأزرق نقي، وكانت، تمامًا كما تشير عناوينها، لوحات من لون واحد. أعلن رودشينكو موت الرسم بحركته المستفزة هذه، والتي دقت ناقوس الخطر كونها لم تأت من العدم بقدر ما شكلت لحظة الصفر المنتظرة منذ أن أخذت تلك الظاهرة المعروفة بالفن «التجريدي» تصبح متفشية.

يطلق وصف «تجريدي» على أي فن متجرد عن الواقع وقائم على تكوينات من الأشكال والألوان الصرفة. وبعكس ما رمت به الأنظمة السلطوية من اتهامات فجة في كل صوب، محاوِلةً عزو تلك الظاهرة إلى مؤامرات يهودية شيوعية (حسب هتلر)، أو إلى مخططات تخريب برجوازية (حسب ستالين)، فإن الأسباب الفعلية لانتقال الرسم من تصوير الزهور والأطفال وما إلى ذلك إلى لوحات من لون واحد، هي أسباب لا يمكن الإحاطة بها إلا بالعودة نصف قرن إلى الوراء، إلى باريس.

بحسب السيرة الرسمية (فالسير تتعدد بتعدد المؤرخين)، توضحت أولى أعراض التجريد للعيان عام 1863، شهادة ولادة اصطلاحية، فعندما عرض الرسام إدوارد مانيه فضيحته غذاء على العشب، بدا وكأن اختلالًا ما، مقصودًا، قد أصاب الفراغ في اللوحة. منذ القرن الخامس عشر، حين اكتشف الإيطاليون قوانين المنظور الرياضي التي سمحت بنقل الواقع ثلاثي الأبعاد على سطح اللوحة ثنائي الأبعاد، صار معظم الفن الغربي قائمًا على تقليد الواقع، أو بالأحرى على محاكاته، أي على خلق واقع موازٍ لواقعنا في اللوحة، يوهم المشاهد بأنه حقيقي، بأن سكانه أناس حية من لحم ودم ومشاعر.

أما في لوحة مانيه، فتبدو المرأة في الخلفية أكبر مما يجب، وكأن مؤخرة اللوحة تقترب من مقدمتها ليختلط البعيد بالقريب، وليمد الرجل على اليمين يده كما ليلمس خط الأفق، الذي صار في مناله. تفقد الشخصيات ماديتها وظلالها لتتحول إلى كائنات ورقية تحدق بنظرات فارغة، وتطفو على الفراغ بدلًا من أن تتموضع فيه. حتى سلة الفواكه تفتح فمها نحونا وكأن عمق اللوحة قد هجم باتجاه المشاهد ودفعها في طريقه. إن كانت اللوحات تاريخيًا نوافذ وهمية على عالم آخر، فإن العالم العشبي لسيران مانيه ينسكب باتجاهنا ليرتطم بزجاج النافذة، يأبى أن يمنح المشاهد فراغًا رحبًا ومقنعًا ينقل نظره فيه أو تفاصيل واقعية يتأملها. تتوقف قوانين الجاذبية والظل والمنظور عن العمل، ويشعر المشاهد أنه أمام صور مسطحة.

أطلق مؤرخو الفن على تلك الظاهرة إسم «التسطيح»، وهي ظاهرة كانت في بداياتها لدى مانيه، والذي طور تقنيات ذكية لتصفية البعد الثالث وخنق أي إحساس بالعمق، مثل تغبيش عمق اللوحة بدخان قطار مثلًا، أو تعتيم الخلفية بحيث تصد المشاهد عن تخيل أي امتداد. تدريجيًا، بدأ الفراغ في اللوحات الغربية بالانطباق على ذاته لتصبح اللوحات ثنائية الأبعاد. لكن أليست اللوحة ثنائية الأبعاد تعريفًا؟ ولماذا على الفنان أصلًا الالتفاف على تلك الحقيقة لإيهام المشاهد بعمق وهمي؟

في جملة شهيرة من نهاية القرن، يقول الفنان موريس دنيس أن اللوحة «قبل أن تكون حصان معركة أو امرأة عارية أو حكاية من أي نوع، هي في جوهرها سطح أملس تغطيه ألوان مصففة بترتيب ما». حقيقة سهلة وواضحة، لكن نتائجها خطيرة، فسرعان ما بدأ الرسامون يعون أن رسمهم لطالما قام على إنكار ذاته: بتمويه ضربات الفرشاة، بجعل الألوان الصناعية تقلد الألوان الطبيعية للسماء والشمس والأغراض اليومية، باستخدام خدع رياضية لمحاكاة عمق كاذب.

كان اختراع التصوير المنبه الأول في عملية اليقظة الأخلاقية والجمالية تلك، فالكاميرا تركت الرسم في موقف حرج، يحاول إعادة تعريف دوره في وقت تستطيع فيه بثوان نقل أي واقع على سطح ثنائي الأبعاد، وبدقة أكبر. هكذا بدأ الانطباعيون بتفكيك الواقع إلى انطباعات لونية وضوئية، بينما قام سيزان باختزال الأشياء إلى حدها الأدنى، بـ«تجريدها»، فتظهر لوحاته الشهيرة المتتالية لذات الجبل كيف تفقد الأشجار والبيوت تفاصيلها شيئًا فشيئًا، للتتحول في النهاية إلى أشكال غائمة، ومن ثم إلى لطخات لونية.

يتابع بيكاسو ثورة سيزان، حيث يتحول كل شيء في لوحة الشاعر من عام 1911 مثلًا إلى سطوح هندسية متداخلة ومكعبة (ومنه لقب الأسلوب «التكعيبي»). لم يعد من الواضح ما إذا كان الأسود ظلالًا يلقيها ضوء لم يعد موحدًا ولا منطقيًا أساسًا، أو انه مجرد لون، تُغرق الألوان القريب والبعيد ولا تبقي إلا على ملامح وداعية من الواقع، خط ملتف في الأسفل يدل على ورقة، وبنية هرمية تشير إلى شخص يمسكها.

أمّا التجريد بشكله المكتمل فسيولد في الحقبة الحماسية بين عامي 1910 و1920، حين بدا وكأن وحيًا ما قد نزل في الوقت ذاته على مجموعة فنانين في أماكن متباعدة، حرضهم للدفع بالفن نحو تسارع غير مسبوق في تاريخه. فانتقل كازمير ماليفيتش في روسيا مثلًا من أسلوب تكعيبي قريب من بيكاسو إلى لوحات تجريدية قائمة على أشكال هندسية ديناميكية وحيوية، بينما أخذت المناظر الطبيعية للفنان الهولندي موندريان بالتكعب أكثر، فأكثر، حتى تحولت إلى الأسطح الشهيرة القائمة على الخطوط المستقيمة والألوان الأساسية الثلاثة. بموازاة ذلك، عاش كاندينسكي في ألمانيا نقلةً مشابهة من المشاهد الطبيعية إلى تشكيلات لونية تخضع فقط لما سماه بالـ«الحاجة الداخلية»، وتتشبه بالموسيقى بعناوين مثل «ارتجال» و«تأليف»، كون الموسيقى الفن الوحيد غير القائم على محاكاة الواقع.

توصل أولئك الفنانون إلى النتيجة ذاتها: أن الواقع دخيل على الفن، وأن موضوع اللوحة الوحيد يجب أن يكون ذاتها، ألوانها وأشكالها، أن وظيفة الفن يجب أن تكون بالتعبير الفني النقي من شوائب تخرج عن منطقه، وأن التجريد هي وسيلة الرسم للتصالح مع طبيعته كمجرد ألوان على قماش مسطح.

لكن الرسم لم يكن الوحيد في التوصل إلى تلك النتيجة، فإحدى الخصائص الأساسية لما نسميه بالحداثة هي الإيمان بواجب الفصل بين المجالات المختلفة وحث كل منها على البحث عن حقيقته في إمكاناته التقنية، لا خارجها، كي يتطور باتجاه تحقيق ذاته. تتوقف الآلات الموسيقية عن تقليد الغناء البشري لدى ديبوسي، واللغة لدى وولف وجويس عن محاكاة السرد الزمني للواقع، وبينما تبتعد العمارة الحداثية عن تقليد النباتات والمنحوتات بزخارفها وبنيتها. التجريد هو اللغة الأم التي نطقت بها الحداثة عند نضجها.

مع بدء حملات التضييق على الفن التجريدي في الثلاثينيات، استشعر ألفريد بار، مؤسس متحف الفن الحديث في نيويورك، أن تلك التجارب تشير إلى لحظة تاريخية يجب تعريفها، فأخذ على عاتقه ترتيب الحركات التجريدية في مخطط يوضح علاقاتها المعقدة، والأهم من ذلك، جذورها البعيدة: الفنون الأجنبية التي دخلت أوروبا عبر المستعمرات وأبهرت الفنانين سريعًا، من الفن الياباني الذي ترك أثره في لوحات جوجان وبونار، حتى الأقنعة الإفريقية في لوحات بيكاسو.

بالرغم من أهميته، يبسط مخطط بار تاريخًا في الحقيقة أعقد بكثير، بجعله كل تلك الحركات والفنون تصب في إحدى علبتين هما الفن التجريدي الهندسي واللاهندسي، وكأن الفن الآسيوي وسيزان ومانيه هم مجرد خطوات عابرة لتحقيق حتمية تاريخية كامنة في حاجة الفن بالتطور. أما في الحقيقة، فمن المدهش رؤية تفاوت الأجندات التي يدعيها الفنانون لأعمال في النهاية تكاد تكون متطابقة، فبينما يتبنى ماليفيتش خطابًا روحانيًا يبرر التجريد بـ«تفوق الإحساس النقي» على العالم المادي الزائل، تدعي لوحات الهنجاري موهولي-ناج المعنى المناقض تمامًا، متبنية جماليات العالم الصناعي الحديث لوضع الفن في خدمة التصميم والحاجات العملية للإنسان.

لكن سواء أكانت أجندات الفنانين التجريديين روحية أو اجتماعية أو سياسية، فقد أصبح معظمهم واعين للخطر الأساسي الذي يهدد التجريد: أن تتحول اللوحات إلى مجرد زينة. ففكرة استخدام الألوان والأشكال لخلق تكوينات مجردة عن الواقع ليست اختراعًا غربيًا ولا حديثًا، منذ العصور البرونزية ومرورًا بالجداريات الرومانية والزخارف الإسلامية والتطريز الهندي، ابتكر الحرفيون مفردات بصرية معقدة وعلى درجة عالية من التجريد، لكن وظيفتها ظلت تجميلية، والهدف منها ليس إيصال رسائل أو تحريك قدرة فكرية. يجب إذًا إيجاد طريقة للحيلولة دون تحوّل اللوحة التجريدية إلى ورق جدران، دون تحول الفن إلى زينة.

بحسب كليمنت جرينبرج، الناقد الفني المشهور بدفاعه الشرس عن التجريد، يكمن الحل بإبقاء اللوحة «في عدم توازن درامي».[1] يتوضح ذلك في لوحة كاندينسكي أصفر أحمر أزرق من عام 1925 مثلًا، حيث لا تمتثل الأشكال إلى وحدات متكررة ومتناظرة كما في الزخرفة التقليدية، بل تدخل في صراع يقضي على استقرارها. تستقطب التدرجات اللونية بعضها، فتتكتل تدرجات الأزرق والبنفسجي في أشكال عضوية ضد الأصفر الذي يتصلب في كتلة هندسية متوهجة، وتطوف دوائر وخطوط أخرى حول الكتلتين لتساهم بتلك المعركة اللونية. في كتاباته، يشير كاندينسكي إلى أن اللون الأصفر يتحرك نحو المشاهد كلما أطيل النظر إليه، بينما يقوم الأزرق، اللون الروحي بامتياز، بالابتعاد أكثر والانطواء على ذاته. يربط كاندينسكي تلك الظواهر اللونية بأحاسيس داخلية ذات طابع روحي وكوني، معتبرًا اللوحة مخلوقًا حيًا يتلوى وتنفس، كاشفًا عن تعقيداته وتناقضاته كلما أطلنا النظر إليه، وتختلف بذلك عن أي زخرفة أوتوماتيكية تسعى إلى أثر تخديري أو نوع من المتعة السهلة.

وصل التجريد ذروة عالميته في الخمسينيات، وعرف انتشارًا واسعًا في الوطن العربي مع رسامين مثل عبد الله بن عنتر في الجزائر وسلوى روضة شقير في لبنان، ومن ثم محمود حماد في سورية وكمال بلاطة في فلسطين، وغيرهم الكثيرين ممن تعيش أسمائهم اليوم في الزوايا المغبّرة للذاكرة العربية، دون الحديث عن أعمالهم التي تفتقد بشدة للتوثيق والدراسة اللازمتين.

لا شيء يعبر عن النهاية الحزينة للتجريد أكثر من لوحةٍ للفنان دي كونينج تظهر بشكل عابر مزينةً أحدى أروقة شركة ما في فيلم هوليودي. شكّل دي كونينج مع بولوك وروثكو وغيرهم آخر جيل بطولي للرسم التجريدي، سميت مدرستهم بالتعبيرية التجريدية، واعتبرت ذروة الفن الحديث ورمز الديمقراطية والفردية الأميركية أثناء الحرب الباردة. معهم يقارب المقال نهاية رحلته شبه المستحيلة باختصار قصة التجريد في بضع فقرات، مفضلًا -لضيق المساحة- الرسم على حساب فنون تجريدية لا تقل عنه أهمية كالنحت والسينما.

ومن باب التناظر مع المقدمة، يبدو من المناسب الانتهاء بتاريخ رمزي لوفاة التجريد. من بين كل الخيارات، ربما لا تاريخ أفضل من عام 1955، حين قام راوشنبرج بعرض سرير ملطّخ بالألوان عُلق أفقيًا على الحائط، معلنًا بشكل رسمي (وحرفي) عودة الواقع إلى الفن من جديد. يرقد التجريد في مثواه هذا على شكل ألوان عشوائية تلمح بسخرية، وبشيء من الحزن، إلى التعبيرية التجريدية المذكورة. أمّا غطاء السرير المزين بأشكال فولكلورية محلية فهو دعابة قاسية أخرى تلعب على رعب التجريديين من تحول فنهم إلى زينة، وكأن أي ملحفة بمربعات ملونة يمكن أن تكون فنًا تجريديًا إذا ما علقت في صالة عرض.

يعيد سرير راوشنبرج إلى الأذهان مشهدًا من إحدى روايات توماس بينشون (الذي أعلن بدوره موت الحداثة في الأدب): «الحشوة النهمة لفرشة نوم تحفظ آثار كل تعرق ولده كابوس، كل مثانة عاجزة أو احتلام جرى إرضاءه بشراسة وبدموع، كذاكرة حاسوب للضائعين».[2] على سرير راوشنبرج تغفو اليوتوبيا الأخيرة للحداثة، زاهية ومرهقة، في نوم بلا عمق.