العلوي رشيد
تمثل الفيلسوفة جوديث بتلر أبرز زعماء النظريّة النقديّة المعاصرة (الجيل الثالث)، يهوديّة أمريكيّة ذات أصول روسيّة – مجريّة عانت عائلتها من الاضطهاد النازي وفقدت جزءا من عائلتها في المحرقة النازيّة (حيث أبيدت عائلة جدتها في قرية صغيرة في جنوب بودابست). ازدادت الفيلسوفة يوم 24 فبراير 1956 بكليفلاني بولاية أوهايو. واهتمت بالفلسفة السيّاسيّة والاجتماعيّة ونظريّة الأدب والدراسات الثقافيّة والجنسانيّة والنوع الاجتماعي والهويّة. حصلت سنة 1984 على أطروحة الدكتوراه من جامعة يال حول مفهوم الرّغبة عند هيجل والتي نشرتها سنة 1987 تحت عنوان: “ذواتٌ راغِبَة: تأملات هيجيليّة حول فرنسا القرن العشرين”، والذي طورت فيه فهماً جديداً للعلاقة بين الرغبة والاعتراف (دمجٌ لفكر اسبينوزا وهيجل).
غادرت سنة 1993 جامعة جونس هوبكينز بعد حصولها على كرسي ماكسين إليوت بشعبة البلاغة والأدب المقارن بجامعة بيركلي بكاليفورنيا، وهي السنة التي أصدرت فيها دراستها الشهيرة “هذه الأجساد التي يجب اعتبارها”، كما حصلت سنة 2006 على كرسي حنة ارنت للفلسفة في كلية الدراسات الأوروبيّة العليا بسويسرا. وانتخبت سنة 2009 رئيسة محكمة هوسرل حول فلسطين والتي تجمع المثقفين الأمريكيين حول القضيّة الفلسطينيّة لحشد شروط سلام دائم وعادل بين اسرائيل وفلسطين، وذلك بفضل موقفها الثابت من رفض وشجب عنف الدولة الاسرائيليّة.
تنتمي جودي (كما يحلو لأصدقائها الجامعيين مناداتها) إلى النظريّة النقديّة المعاصرة، بفضل اسهاماتها المتعددة حول قضايا فلسفيّة متنوعة حافظت من خلالها على إرث مدرسة فرانكفورت، لذلك حصلت سنة 2012 على جائزة أدورنو الدائعة الصيت، عن جدارة واستحقاق، رغم هجوم الصهاينة عليها علناً. وهناك العديد من الدراسات التي اهتمت مؤخراً بفكرها الفلسفي والسياسي منها تحديداً: “الفلسفة السيّاسيّة عند جوديث بتلر”، من تأليف بيرجيت شيبرز (2014)، والذي عالجت فيه سيّاسات تشكّل الذات، فلسفة الإنسان السيّاسيّة، مفارقة العنف، نحو مجتمع ما بعد العلمانيّة. إلى جانب الدراسة النقديّة التي أنجزها ستيفان هابر سنة 2006 تحت عنوان: “نقد مناهضة النزعة الطبيعيّة: دراسات حول فوكو وبتلر وهابرماس”، (أنظر الفصل الثاني)، ناهيك عن مئات المقالات وسيرتها التي كتبتها سارة صالح تحت عنوان: “جوديث بتلر” (2002)، وفحصت فيه مفاهيم: الذات، الجنوسة، الجنس، اللغة، والنفس.
تَشكَّل الفكر الفلسفي لبتلر منذ مراحل مبكرة من حياتها وقد جالت في الفكر الحديث وساجلت اسبينوزا وروسو وهيجل وكانط، وطورت فلسفة فوكو وفرويد والتوسير وجاك لاكان وهابرماس وجاك دريدا وسيمون دي بوفوار… حيث تصرح في حوارها مع مجلة الفلسفة (العدد 66) أن علاقتها بالفلسفة بدأت من قبو منزلها العائلي حيث وضع أبويها كتابات فلسفيّة مختلفة: “هناك قرأت اسبينوزا (كتاب الإثيقا) وكيركغارد وآخرون…”. وبعد اطلاعها على هيجل ستتبنى مفهوم الاعتراف الذي أثر في حياتها السيّاسيّة والفلسفيّة فيما بعد بالنظر الى التصاقه بوضعها الذاتي. فالرغبة في العيش كما تحدث عنها اسبينوزا غير ممكنة في نظرها إلا من خلال الاعتراف الهيجيلي. بحيث لا يرتبط الاعتراف بتحقيق الرغبة في العيش فقط وإنما العيش بطريقة حرة ومختارة، أي أنه يطرح سؤال الهويّة تحديداً والتي لا تنظر إليها أو كشيء ثابت ومحنط بل كهويّة تتشكل بحسب الظروف التي ينمو فيها الفرد وبفضل تنشئته الاجتماعيّة التي يخضع لها. وهكذا فمعرفة الذات لا تتم من خلال الغير، ولا ترتبط به، لأنها قد تكون هويّة غير اجتماعيّة، أو خاضعة لمعيّاريّة اجتماعيّة هي بمثابة أحكام قبليّة غير صحيحة. لذلك نقرأ لها في كتابها “الذات تصف نفسها”:
“بينما نحن نطلب معرفة الآخر، أو نطالب الآخر أن يعرّف نفسه على نحو نهائي ومؤكد، فإن من المهم لنا ألا ننتظر جواباً شافياً بأي حال. إننا بامتناعنا عن السعي إلى القناعة وبإبقائنا السؤال مفتوحاً بل حتى ثابتاً، نمنح الآخر فرصة أن يعيش ما دام بالإمكان فهم الحياة بوصفها على وجه الدقة ذلك الذي يتجاوز أي وصف قد نقدمه له… إذا كان في السؤال رغبة في الاعتراف فعلى هذه الرغبة أن تبقي نفسها حيّة بوصفها رغبة وألا تحلّ نفسها… إن الرغبة يجب أن تدوم. في الواقع، يكون الإشباع نفسه أحيانًا الوسيلة التي يتخلى بها المرء عن الرغبة، الوسيلة التي ينقلب المرء بها ضدها، ويرتب لموتها السريع”.
من المعلوم أن سؤال الرغبة والحاجة الى الاعتراف عند جودي ليس أمراً معزولاً عن العلاقة مع الغير كما أنه لا ينفصل كليّاً عن سؤال الهويّة وعلاقتها بالذات، فالهوية ليست سابقة على الوجود الاجتماعي بالقدر الذي يكون فيه هذا الوجود هو أساس الهويّة، وقد استعارت هنا عبارة سيمون دي بوفوار: “المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك”، وهو ما يقود إلى التساؤل حول الهوية (وأساساً الهويّة الجنسيّة) التي تتميز اليوم بالتعدد والتنوع: كيف يمكن الاعتراف برغبتي؟ وكيف تؤسس المعايير لهذه الرغبة؟ وهل يمكنك الاعتراف برغبتي لأتصرف كراغبة في شيء ما ولربما ما يحلو لي؟ لذلك تصرح: “عندما أطرح السؤال الأخلاقي: كيف يتوجب على أن أعامِل الآخر؟ أنا أقع مباشرة في قبضة مملكة من المعيّاريّة الاجتماعيّة، ما دام الآخر لا يظهر، ولا يشتغل بوصفه آخر بالنسبة لي، إلا ضمن إطار أستطيع أن أراه وأفهمه في انفصاله وخارجيّته. وهكذا، فبالرغم من أني قد أفكر في العلاقة الأخلاقيّة بوصفها ثنائيّة، أو بالأحرى سابقة على الاجتماعي، فإني لا أقع في قبضة مجال المعيّاريّة حسب ولكن في إشكاليّة القوة… فالقواعد لا تعمل على توجيه سلوكي حسب ولكنها تقرر النشوء الممكن للقاء بيني وبين الآخر” (الذات تصف نفسها 69).
تحاول جودي الجواب عن سؤال طرحته في خطابها بمناسبة نيلها لجائزة أدورنو (خطاب تحت عنوان: “أخلاق لعصر هش”) : كيف يمكن أن نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟ بحيث يقر أدورنو أنه “لا توجد حياة حقيقيّة ضمن حياة زائفة”، حياة حقيقية داخل عالم مبني بشكل واسع على اللامساواة والاستغلال والاقصاء. إنه سؤال مركب يطرح من خلاله أدورنو العلاقة بين الاخلاق والشروط الاجتماعيّة أو بصيغة أعم العلاقة بين الاخلاق والنظريّة الاجتماعيّة. تصرح بتلر: “أحبذ أن أظهر أنه لا يمكننا أن نناضل من أجل حياة جيّدة، حياة تستحق العيش، دون الاستجابة للحاجيات التي تسمح للجسم بضمان الاستمراريّة”. لذا فكيف يمكن التفكير في حياة قابلة للعيش دون افتراض تصور / مثال واحد أو موحد لهذه الحياة؟
فحصت جودي في خطابها ذاك سؤال الحياة الجيّدة عند حنا آرنت وتقول: “ميّزت حنة آرنت بشكلٍ حاسم في كتابها “حياة الذهن” (1971) بين الرغبة في العيش والرغبة في العيش الكريم، أو بالأحرى الرغبة في حياة جيّدة. لم يكن البقاء بالنسبة لحنة آرنت ولن يكون هدفاً في ذاته، ما دام أن الحياة لم تكن أصلاً جيّدة. فالحياة الجيّدة وحدها تستحق أن تعاش. لقد وضعت بسهولة حلاً لهذه المشكلة السقراطيّة، ولكن – كما يبدو على الأقل – بشكل متسرع جداً. لست متأكدة من أن إجابتها ستنقذنا في إغاثة، كما أني لست مقتنعة أنه ذات يوم ستكون إجابة فعّالة”. فأرنت “تفصل أساساً حياة الجسد عن حياة الذهن، وبموجب هذا أقامت في كتابها “شرط الإنسان الحديث”، تمييزاً بين الفضاء العمومي والفضاء الخاص. يضم الفضاء الخاص عالم الضرورة، إعادة إنتاج الحياة المادية، الجنسية، الحياة، الموت، والطابع الانتقالي للحياة… كانت تعتبر بشكل واضح أن الفضاء الخاص يدعم الفضاء العمومي للفعل والفكر، ولكن وفي تصورها فالسيّاسة تتحدد بالفعل، في الاحساس الفعّال بالكلام. كما يصير أيضاً العمل اللّفظي فعلاً سيّاسيّاً في الفضاء التداولي والعمومي. مما يجعل دخوله للفضاء العمومي ينطلق من الفضاء الخاص، وبالتالي فالفضاء السيّاسي يعتمد أساساً على اعادة انتاج الخصوصي كجسرٍ واضح، من الخاص الى العام”.
هكذا تصل بتلر إلى أن التحرك السيّاسي في الفضاء العمومي لا يتم وفقط عبر الجسد رغم أن طرق التجمع والغناء أو الهتاف، أو حتى الصمت في الشارع هو جزء لا يتجزأ من البعد الأدائي للسيّاسة، حيث يتحدد الخطاب كفعل جسدي من ضمن أفعال جسديّة أخرى. تتصرف الأجساد حينما تتكلم، وهذا مؤكد، ولكن الكلام ليس وحده طريقة للفعل بالنسبة للأجساد – ومن المؤكد أنه ليس وحده شكلاً للتّحرك السيّاسي.
تعتبر جودي من دعاة الحل الثالث للقضيّة الفلسطينيّة: البحث عن الاعتراف المتبادل بين الشعبين أي تسويّة للعيش المشترك حيث الأمن والاستقرار، غير أن هذا الأمر يرتبط بالفلسطينين وبقرارهم الذي تعتبره القرار الحاسم، وقد تذكرت موقف إدوارد سعيد الذي تراجع عن حل الدولتين حيث تقول: “من وجهة نظري أن شعوب هذه الأراضي، يهوداً وفلسطينيين، يجب أن يجدوا طريقة للعيش سويّة على أساس المساواة. ومثل الكثيرين، أتطلع إلى كيان ديمقراطي على هذه الأراضي وأؤيد مبدأ تقرير المصير والعيش المشترك لكلا الشعبين، وفي الواقع، لكل الشعوب. وأمنيتي، كما هي أمنية عدد متزايد من اليهود وغير اليهود، أن ينتهي الاحتلال، ويتوقف العنف بكافة أشكاله، وأن يتم ضمان الحقوق السيّاسيّة الأساسيّة لكافة الشعوب في (هذه) الأرض عبر تركيبة سيّاسيّة جديدة”، ويعود ذلك إلى اكتشافها الفكر اليهودي في سن الرابعة عشرة من عمرها كما تقول (مجلة الفلسفة العدد 66) “تابعت الدروس حول الدين والعبريّة في معبدي بمدينة كليفلاند، كما اطلعت أيضا على الروايات والكتب حول اسرائيل والهولوكوست. لقد شغلتني هذه المسألة منذ مدة طويلة وتحضر في العديد من كتبي”، منها على سبيل المثال: “الخطاب المثير: سيّاسات الأداء” (1997)، و”الحياة النفسيّة للقوة: نظريّات في الإخضاع”. وتشكل جودي مثال “المثقفة الجريئة المتعاطفة” كما وصفها البيان التضامني للمثقفين الفلسطينيين بعد الهجوم الذي تعرضت له سنة 2012 إبان توشيحها في ألمانيا. فهي عضو في الهيئة الاستشاريّة لـ”الصوت اليهودي من أجل السلام”، وممثلة في اللجنة التنفيذية لـ”أساتذة من أجل السلام الفلسطيني-الإسرائيلي، في الولايات المتحدة الأمريكيّة”، وفي “مؤسسة مسرح الحريّة في جنين”.
تطرح بتلر دوماً السؤال (مجلة ف ع 66) هل ينبغي لزوم الصمت؟ هل ينبغي إنكار الوضع اليهودي تحت ذريعة أننا لا نقبل سياسة اسرائيل؟ لا، فإسرائيل لا تمثل كل اليهود، والصهيونية ليس زعيمة اليهودية. لأنه “لا يمكنني شخصيًّا أن أكون يوماً مناهضة للساميّة. كنت ساذجة! وصرخة أولاً في وجه هذه الاتهامات في ألمانيا سنة 2012 حينما حصلت على جائزة أدورنو، بأن هذا ليس إلا لغواً، ولكن ليس الأمر كذلك، إنه حقاً أمر جدي… كانت هذه التجربة صادمة، ومؤلمة جداً. بالنسبة لليهودي، لا يوجد أسوأ امتحان. وبالنسبة لي كيهوديّة لا يوجد ما هو أسوأ من الاتهام”، وهي ترفض العنف تحت أي مبرر حيث صرحت في محاضرتها سنة 2010 في الجامعة الأمريكية بالقاهرة في ذكرى ادوارد سعيد “كنت دوماً ميَّالة إلى الفعل السيّاسي اللاعنفي” و”إنه لصحيح أنني لا أؤيد ممارسة المقاومة العنفية، كما لا أؤيد عنف الدولة، ولا يمكنني تأييد ذلك، ولم أفعل ذلك يوماً”، وهو ما تؤكده كتاباتها في هذا المضمار: “حياة قلقة – مستباحة: قوى العنف والعزاء”؛ و”أطر الحرب: متى يؤسى على الحياة؟”؛ و”طرق متفرقة: اليهودية ونقد الصهيونية”؛ “حياة هشة”: حول سلط العنف والمآثم بعد أحداث 11 شتنبر 2001.
عن موقع كوة