حركة خارج السرب | «أنا أوسيلفي إذن أنا موجود»: كوجيتو العصر الرقمي
«أنا أوسيلفي إذن أنا موجود»: كوجيتو العصر الرقمي
2019-11-27 | 1878 مشاهدة
مقالات

تحوّل كوجيتو الديكارتي «أنا أفكر إذن أنا موجود» إلى شعار لمرحلة جديدة في التاريخ البشري، يبسطُ فيها الإنسان سلطته بفضل التفكير والتأمّل العقلي، ومهّد ذلك لانطلاقة مشروع التنوير بوصفه خروجاً من القصور العقلي على حدّ تعريف «كانط»، وبذلك حصلت القطيعة مع العصور المُظلمة التي سادت فيها التفسيرات غير العقلانية لظواهر الكون.
يبدو أنّ التاريخ يشهدُ انعطافات مستمرّة منذ اللحظة الديكارتية بحيثُ تقترنُ ماهية الإنسان بوظائف جديدة، إضافة إلى إعمال العقل والانعتاق من الخرافة وصناعة المصير، فإنّ كثيراً من الرغبات والنوازع الكامنة قد وجدت القنوات لصرفها والتعبير عنها.

وبالتالي، لم يعد الإنسان كائناً مفكّراً فحسب، بل اكتسب صفات وهويات جديدة، ويجمعُ بين كينونته الواقعية وسلوكياته الافتراضية كما تصاعد نهمه الاستهلاكي لدرجة تسبقُ تلك النزعة جميع الخصائص الماهوية الأخرى في توصيف الإنسان المُعاصِر.

لذا، أرادت الفيلسوفة الفرنسية «إلزا غودار» الإشارة إلى التحوّلات الجذرية في العصر الإفتراضي من خلال نحت كوجيتو مُعارض لما قدّمه مواطنها في القرن السابع عشر، فالإنسانُ في الألفية الثالثة وفقَ ما يفيدُ به عنوان كتابها «أنا أوسيلفي إذن أنا موجود» يقيم العلاقة مع ذاته بناءً على المُعطيات الرقمية وما يلبّي الرغبة أكثر من ذلك، فإنّ هذه الوسائل كما يقول سعيد بنكراد قد ضيّقت في كثير من الحالات من دائرة الذات وحدّت من رغبتها في الذهاب إلى ما هو أبعد من التمثيل البصري، ما يعني أنّ التواصل مع محتويات الإفتراضي لن يكون إلّا عابراً مع تفريغ المتخايل من فاعليته التأمّلية. ممّا يذكرهُ بنكراد في المقدمة أنّ الذات الحقيقية لا قيمة لها خارج بدائلها المقيمة في الصور والتعليقات.

الإدمان

لا يصحّ تجاهل فوائد وسائل التواصل الإجتماعي ودورها في فتح آفاق أمام الفرد، ما زادَ من مساحة حريّته وتعميق وعيه بالواقع، ومن الواضح أنّ حراك المجتمعات العربية كان وليد التكنولوجيا الجديدة، ولولا المنصّات الرقمية والثورة المعلوماتية لما امتدّت موجة الغضب إلى كلّ الأنحاء.

غير أنّ ذلك لا يحجبُ مخاطر ما سُمّيت بظاهرة الإدمان على الكلام في الفايسبوك، إذ أصبح الكلامُ نشاطاً تقاسُ مردوديته بـ«الثرثرة» على حد وصف سعيد بنكراد. الأمر الذي يعطّلُ التفكير والتأمّل والعمل في الوقت نفسه، والحال هذه لا يمكن التغافل عن التحوّلات المرافقة للثورة الرقمية ورصد تمظهراتها المتنوّعة، لأنَّ ذلك كلّه يلقي بثقله على نمط الحياة، ويكون له انعكاس واضح على المستوى النفسي.

لذا، تعتقد غودار أنّ السيلفي من خلال تبدياته التافهة والمتعدّدة رمز لمجتمع في عزّ تحوّلاته، ويأخذ الشباب بناصيته نظراً لتمكّنهم في التكنولوجيا الحديثة.

تتساءلُ الفيلسوفة الفرنسية عن الشكل الذي تتّخذه علاقة الإنسان بنفسه في ظلّ انقياد الأفراد خلف رغبة التقاط الصوَر ونشرها في وسائل التواصل الإجتماعي. فالمجتمعُ حسب رأيها تحوّل إلى حلبة لعرض أنواتنا، وذلك يتعلّق بغريزة حياتية «إيروس»، وهي تعبّر عن ثورة إيروسية، لكنّ الإيروس لا ينفصل عن نقيضه «تاناتوس»، وهذا ما يذكّر بفرويد الذي ذهب إلى وجود ارتباط بين الغريزتين التدميرية والجنسية.

أضف إلى ما ورد سابقاً، فإنّ إلزا غودار لا تنكر البعد الجمالي في السيلفي وما تعنيه مشاركته مع الآخر، لكن ما يبدو تواصلاً مع غيرك عبر النت قد يثقل عليك الشعور بالوحدة.

يوتوبيا

الحلم الذي قد راود جمع من الفلاسفة والعلماء بانعتاق الإنسان من مشروطية الجغرافيا والامتداد خارج بيئات مُغلقة قد تحقّق في العصر المعلوماتي، عندما تمّ إيجاد شبكات عابرة للحواجز القومية والمُجتمعية. لكنّ هذا التطوّر لا يعلي فعلاً من شأن حقيقة الروابط الإنسانية بقدر ما تُمثّل تلك الشبكات يوتوبيا الفضاء السبيراني.

وتضيف إلزا في هذا السياق موضحة أنّ الشبكات هي عامل لإفقار الطابع الإجتماعي عوض أن تدعمه، ومن المظاهر التراجي - كوميدية للعصر الرقمي هو عصا السيلفي التي قد أودت بحياة عدد من مُستعمليها كما حصل لسائح من بلاد الغال، إذ ضربته صاعقة أثارتها المادة الحديدية في العصا.

والمُلفت برأي إلزا أنّ عصا السيلفي قد حلّت بديلاً لليد الأداة أكثر نفعاً، وهي امتداد للعقل والذكاء البشري. ويطالُ التغييرُ أيضاً علاقتنا بمفهومي الزمان والمكان، مع الشاشة يكون الإنسان مُتصلاً بالاستمرار وينكفىء كل من الزمان والمكان أحدهما على الآخر، وتُطلق إلزا عبارة «الهنا الآن» على هذا الطور الوجودي، إذ يتميزُ بسقوط البناءات الإرادية للمستقبل مقابل توثين المعايير الاستهلاكية، هنا تستشهدُ صاحبة الكتاب بمقولة نيكول أوبير «الفرد يتحركُ استناداً إلى الغلو» ولن يكون الاقتصاد واجهة وحيدة لهذه الصفة، بل يمكن معاينة الغلو والبالغ الامتلاء وفق طرق مُتعددة.

ما يكسبُ مفهوم الغلو دلالة جديدة هو تحرك الإنسان خارج المجال وخارج المكان، فالغلو أصبح عبارة عن التصاعد الدائم لا يمكن أن يتوقف كما يؤكد صحة هذا الرأي التبذير، وتناول المنشطات والرياضات المغامرة والقتل المُتسلسل.

من الفلاسفة الذين تتواردُ آراؤهم في طيات هذا المؤلف هو جان فرانسو ليوتار الذي يرى أنّ ما يسود من القلق في الوسط الفلسفي بشأن مفهوم التواصل لا علاقة له إطلاقاً بالقضايا الفلسفية والسياسية الكلاسكية التي تهتمُ بمعطيات مؤسسة لعيش مشترك، كما أنّ التعاطي مع الزمن في ظل تغلغل التكنولوجيا إلى مسامات الحياة أصبح مُختلفاً، فالفضاء الزمني مع الإنترنت يختصر إلى الشاشة التي تجمع بين المتواصلين عبر بعدين مُفرغاً من العمق.

ومن الواضح أنّ هذا التطور له انعكاسات في النماذج الثقافية، ويتمثّل ذلك في انهيار المحكيات التاريخية الكبرى، والأخطر في هذا السياق هو الأيقونات الخاصة بالتواصل في المنصات الرقمية، وقد تصبحُ تلك العلامات والصور لغة بديلة للغة قوامها الكلمات، وهذا يعني أنّ المجتمع الصورة الهَشة قد حل مكان رؤية العالم التي تستندُ إلى الخطاب العقلاني. إذاً، تلعبُ الشاشة دوراً مركزياً في تحديد السلوكيات والتصورات.

ولا يفوت الفيلسوفة الفرنسية تناولُ معادلة النخبة والعامة في العالم اليوم، فبرأيها خسرت النخبة وظيفتها المرجعية، ينساقُ أفراد النخبة العامة في تصرفاتهم ويقلد النجمُ المواطن العادي، وتتجلى وقائع هذا التحول في السيلفي أكثر.

اللذة

أخذ مفهوم اللذة باهتمام المدارس الفلسفية والمُعالجين النفسيين، كما شغل الإنسان العادي أيضاً، وما برح الكائن البشري يبحثُ عن مصادر اللذة، غير أنّ ما يثير الرغبة مع الغزو التكنولوجي هو الالتذاذ الذي يكون حصراً بالشق الجنسي.

لا يخلو السيلفي من التذاذ إستنمائي حسب نظرة إلزا غودار، فتصبح الذات متهيّجة بعدد اللايكات التي تتوالى، والأغرب هو تشجيع بعض المواقع لالتقاط الصورة لحظة النشوة الجنسية للإبانة عن دور تعبيرات الوجه في العملية الإيروسية وتفوقها على دور الجسد.

تنصرف إلزا في جزء آخر من الكتاب إلى مُناقشة تأثير النت في تحويل حالة الانتحار إلى العدوى، قبل ذلك تعود إلى رواية «آلام فارتر» التي كانت وراء تصاعد موجة الإنتحارات الرومانسية في أوروبا، ومن ثمّ تلمّح إلى دور الإعلام التقليدي وتغطيته لأخبار الانتحار. أضف إلى ذلك تعجّ وسائل التواصل بسلوكيات عنيفة وإقصائية، وما تسميه إلزا بتصفية رقمية.

يُشار إلى أنّ كلمة السيلفي أبصرت النور في سنة 2002، غير أنّ انتشارها الحقيقي كان في سنة 2013. ينزلُ هذا الكتاب ضمن محاولات أنثبرولوجية هادفة لكشف وضعية الإنسان في المجتمع الرقمي.