إن السؤال عن المثقف وفتح حلقة النقاش حول وظيفته لا بُدَّ أن يتجددَ ويتمُ النظرُ إلى حدود إمكانياته ومفاعيله على مًختلف الأصعدة، لأنَّ مسؤولية المثقف قد تختلفُ وفقاً لمُتطلبات المرحلة وتحولات العصر. لذا فإن الكاتب الفرنسي جوليان بندا الذي رأي بأن المثقف يواجه واقعية الجمهور بالمثالية ويتعالي عن الدخول إلى المعترك السياسي والإجتماعي، ما يلبثُ إلا أن يُقدمُ رؤية جديدة بعد مراجعة أطروحته حيث يؤكدُ على ضرورة انخراط رجل الفكر في الميدان العَمَلي ومناقشة آرائه في الوسط الإجتماعي ما يعني التواصل مع الواقع بدلاً من المواجهة.
ولا يخسرُ المثقفُ بذلك مُثله ومبدأَه بل ما تغيرَ هو تعاظم المسؤولية. ولم يعدْ المجالُ مُتاحاً للمُراوغةِ فيجبُ على المثقف اختيار موقفه إما بالإنضمام إلى الضعفاء والأقل تمثيلاً في المُجتمع، أو الإنحياز إلى صفوف الأقوياء حسب رأي إدوارد سعيد.
قبل تناول واقع المثقف وتضخيم حضوره الشكلى مقابل ضمور تأثيره الفكري وتَفَكُك مشاريعه لا بُدَّ من الإشارة إلى صورة المثقف في بعض المحطات التاريخية خصوصاً أصبح رجال الفكر والمثقفين في الواجهة بفعل ثورات فكرية وسياسية وإجتماعية إذ حلَّ المثقفُ مكان الكاهن، لأنَّ قيام الأنظمة الديموقراطية كان يتطلبُ وجود من يدعمُ مفهوم سيادة الشعب، وذلك ما نهض به المثقفون الذين غذت طروحاتهم الفكرية الأمل بإمكانية بناء نظام سياسي وإجتماعي يتمتعُ فيه الإنسانُ بحقوقه ويبحثُ عن تطلعاته الفردية.
وهنا ما يجدرُ بالذكر هو رأي السياسي الفرنسي جورج كليمنصو الذي جاءَ تعقيباً على المطالبة بإعادة مُحاكمة الضابط دريفوس بشأن دور المثقف الذي وصفه بأنَّه رجل قضية يؤثر على الرأي العام ويعزز الأمل بالمستقبل.
طبعاً ما يقدمه المفكر الفلسطينى إدوارد سعيد لا يختلفُ كثيراً عن توصيف كليمنصو للمثقف حيث يرفض صاحب "الإستشراق" الفصل بين العام والخاص في صورة المثقف لأنَّ الأخير يحملُ رسالةً يعبرُ عنها بوسائط مُتعددة، ولا يهربُ من إلتزاماته المُتَمَثِلة في محاربة ظاهرة الكسل الفكري وميل السياسيين إلى تكريس همينة اللغة المُتخشبة.
وما يهمنا في منطوق أفكار إدوارد سعيد هو إيمانه بحتمية الترابط بين المثقف وأفكاره. ما يعني أن المواقف تُعطي القيمة للأفكار، ولولا هذا التماهي بين الفكر والموقف تتهاوى صورة المثقف، وبدلا من أن يكون فاعلاً في تحريك الراكد وينفض سخام الزيف على المظاهر يتحولُ إلى عامل في كتيبة المدجنين للرأي العام عبر المنصات التي تحددها السلطة القائمة. كما هو عليه الحال في الوقت الراهن إذ يتمترسُ المثقف وراء المؤسسات التي تسحبُ منه القدرة على التفكير المُناقض للوضع القائم وأصبح وفاضه خالياً إلا من المُصطلحات والعبارات المُتكلسة.
عليه ليست المُناهضة ضد الوضع القائم ضمن برنامجه ومخططه بقدر ما يريدُ تبرير تقلباته المُتسارعة ومواقفه المتناقضة بجملة من عناوين ذات طابع غوغائي تكشف عن القصور في التفكير والعطب في العقلية، وإذا كان المثقف بهذا البؤس والضحالة في الفهم فمن المؤكد أنَّه يفقدُ إعتباره.
صناعة المُقدس
قد يذهبُ البعضُ إلى أن من عدم الإنصاف أن يُحملَ المثقفَ مسؤولية الخيبات على المستوى السياسي والإجتماعي والفكري لأنَّ دوره في نهاية المطاف هو مراقبة الواقع وإضاءة ما هو معتم لدى الرأي العام، بالطبع إن هذا القول لا يجانب الصواب لكن جوهر الأزمة يتمثلُ في رغبة النخبة المُثقفة للتعملق وغزو الفضائيات، ومن ثًمَّ يصطدمُ الجمهور بأنَّ هؤلاء ينتهكون مبادئهم المُعلنة.
والأدهي في هذا السياق هو ما يمتهنه المثقف اليوم من صناعة المقدس والرموز ودائما تكون هذه النماذج من خارج الحقل الفكري يخلع عليها المثقفُ رداءً أسطورياً ومن المعلوم أنَّ عملية التقديس تتغذى على واقع مُتخلفٍ وبائس لذلك فإنَّ المُجتمعات المُتخلفة تتناسل فيها الرموز السياسية المُقدسة ويتواطأُ المثقفُ في هذا المشروع العبثي، فبالتالي يكونُ عاملاً في تثبيت أركان الأجهزة التوتاليتارية وبرمجة مشروع تبخيس القيم الإنسانية وتعظيم الأيدولوجيا من خلال القنوات الإعلامية وتدبيجه لخطابات تعبوية. ومن المفارقة أن يكون موقف بعض الفقهاء القدامي أكثر حداثويةً مما عليه المثقفون المعاصرون.
إنَّ رفض أغلبية رجال الدين من المذاهب المُختلفة على الإقرار بفتوى التفكير الصادرة من جهاز السلطة بحق الحلاج مؤشرُ على صحوة الضمير الإنساني في ذاك الوقت.
إذن لم ينجح المثقفون في إستلهام هذه المواقف الجريئة من التراث وفاتهم البناء على الإرث التنويري لبعض أقطاب التصوف الذين كانوا داعمين للمقهورين بآرائهم المُستنيرة، وأعلنوا مُعارضتهم لسلطة جائرة تُقيد حرية الإنسان وتسلبه الحقوق تحت مظلة الشريعة والدين. لذا يصحُ توصيف هؤلاء المتصوفة بالمثقفين المُلتزمين أو أصحاب القضية. وإذا تحولنا إلى محاولة مُحاكاة نخبة الإنتجلنسيا الغربية فإنَّ ما يقعُ عليه النظر هو صورة كاريكاتيرية في واقعنا. إذ من أراد أن يكونَ معبراً عن ضمير الفئات المُهمشة أو يدعي مُناهضة مشاريع شمولية صار مُلحقاً بالكيانات والتيارات المُتشبعة بأفكار فاشية وقروسطية بخلاف المُثقفين الذين غادروا إنتماءات أيدولوجية وقومية وفضلوا الإصطفاف إلى جانب من تحملوا وزر حركة التاريخ على حد تعبير ألبركامو ودشنوا عملية تحرير أنفسهم والآخرين من ربقة الإكراهات المُلفعة بشعارات خادعة.
ومن الواضح أنَّ هذا النوع من المثقف يستمدُ مصداقيته من زهده للمال والسلطة ولاتثنيه فداحة الثمن عن المضي قدماً في تعرية المُتدلسين. وذلك ما يفرق بينه وبين الواعظ الذي يساندُ الوضع القائم بمواقفه الإنتهازية حتى ولو خالفه ظاهرياً ونقصدُ بالواعظ كل من يهمهُ الحضور الشكلي الذي يحفظ له مصالحه.
قد تختلف الظروف والتحديات لكن ثمةَ مباديء وقيما تضيفُ إلى حياة الإنسان يستحيل تجاهلها أو إنوجاد بديلٍ لها. فإنَّ مهمة المثقف بالدرجة الأولى هي الدفاع عن تلك المباديء وكشف القناع عن المساعي الرامية لتسطيح الوعي الجمعي من خلال النفخ بالشعارات القومية أو الجهوية أو الدينية.
إستنادا إلى ما سلف ذكره عن خصائص المثقف ودوره من الضروري أن نطرح سؤالاً محورياً عن موقع المثقف في هذا التوقيت الحساس والمنفتح على شتى الإحتمالات هل يتمكن المثقفون من نحت أسئلة ومفاهيم جديدة أو أن النمطية التي فرضتها الرأسمالية في التفكير وأنماط المعيشة ستؤدي إلى تعليب الأفكار وقولبة دور النخبة المُثقفة لدرجة لن يكون هناك مجال للتبصر المعرفي والإدراك الذهني لما يتطلبه واقعنا من المعالجات الجريئة.
إلى الآن فإنَّ مؤشرات واقعنا تؤكدُ شحة الأفكار المخالفة للسائد على المستوى الفكري والسياسي وإختزال الأدوار في المظهر، وغياب اليوتوبيا لدى المثقفين وإنغماسهم في الفذلكات، كما أنَّ عاهات السياسة من الإصطفاف والشيطنة قد تسربت إلى الفضاء الثقافي فصار موبوءاً.
عن ميدل ايست اونلاين