الجسد هو ” التجلِّي الحي ” بما يشحن طاقاتَّه صوبَ ما هو مرغوب أو ممنوع. واستعماله في الممارسات العامة يوضح إلى أي مدى تصبح علاماته خطاباً له أبعاد تأويلية. بهذا الإطار يعدُّ الصيام إدارةً ميتافيزيقيةً للجسد تحقيقاً لاعتقاد في أصل الحياة. صحيح هي إدارةُ ترتبط بالمقدس، لكنها تبلغ درجة الفعل الوجودي في الأديان بدوافع وغايات متفرقة. لأنَّ منها ما هو ماضٍ وما هو مستقبل، خلال لحظةٍ لا تحتملُ التقاءهما (الآن) إلاَّ بضرورة تأويل مقولات الإله والإنسان والحقيقة (من قبل). أي لن يلتقي الماضي بالمستقبل دون كشف معاني المقولات المذكورة وتحولاتها.
إذن بوجود الصيام واختلاف طُقوسه في الأديان الإبراهيمية وقبلها(الزرادشتية والبوذية والهندوسية وحتى الديانة الفرعونية…)، هل يمكن أنْ يُمثل– ارتباطاً بالجسد- مشكلةً فلسفيةً؟ أي.. هل تُقدم الفلسفةُ قولاً حول ( كائن صائم ) يُعلِّق بعضاً من رغباته في شكل طقسٍ يومي؟! بحيث تفتح مساراً فكرياً عاماً للإنسان تجاه نفسه، وتعطي دلالة لفعل الصيام ضمن التاريخ الإنساني…على الأقل تجاه ما هو وارد بالدين والسياسة من رؤى بالنسبة لأحداثه وآثاره ( التاريخ – السلطة – المجتمع ).
حساب الجسد
فيما يبدو أنَّ حال الكائن الإنساني يثيرُ جدلاً بالمعنى السابق، لأنَّ كائناً إنسانياً– بمجرد ذكر اسمه- ينخرط بالمقام الأول في وجوده الحي، فلا يفتأ مستغرقاً في أوجه حياته المختلطة بالرغبات والغرائز والأهواء، لدرجة أنَّ جميع أفعاله هي نتاج مباشر لذلك التكوين. بالمقابل قد لا نتصور أنْ يُسقِط الإنسان جزءاً من كينونته لصالح قوة أخرى(سلطة عليا) إلاَّ إذا استطاعت القوة تعويض الجزء المرفُوع من الكينونة. ولا يُنظر إليها دون حسابٍ ميتافيزيقيٍّ metaphysical calculation يدَّخر وجوداً مغايراً، ثم يغدو متحولاً إلى جانب الإيمان والاعتقاد. وهي أشياء تُحرِّك( تُغري – تُوهم) من زاوية الكائن قُوى أخرى ( مترقبة – متلصصة ) في إطار سياسات الجسد.
المسألة تحديداً أنَّ الكائن الإنساني يشكل “مجالَ إغراء”[1] field of seduction ليس من جهة غرائزه فقط، تلك المستعملة في أداء الصيام والتفاعل الاجتماعي، إنما أيضاً من كونَّه جسداً محاطاً بصراعٍ لكيفية إدارته مرتهناً بعملية الخلق ضمن أفقها اللاهوتي، إضافة إلى محاولات اشغال هذه المساحة بواسطة الأنظمة السياسية والأهداف الساعية إليها.
يحدد الصيامُ – موروثاته وآفاقه – اقتصاداً سياسياً من نوع خاصٍ، الجانب الادخاري فيه ينطوي على تراكم لاهوتي تستثمره الحداثة عندما يصبح جسدُ الصائم سلعةً وسُوقاً ورمزاً تزيح القوى الرأسمالية- باسم الليبرالية- دلالاتها الميتافيزيقية جانباً كي تستعرض حضورها المهيمن. والكينونة عندئذ تغدو كالدودة المنهمكة في عبور غصن ملتف الأوراق معتبرة ًإياه كلَّ عالمها، بينما تغفل أنَّ الغصن هو لشجرة عملاقة داخل غابات تخبو خلالها الأضواء.
ثمة مستويات لخلفية الصراع على الجسد كالتالي:
اللاهوت: إذ كانت عملية خلقْ الإنسان عملية جسديةً( الخلق من أديم الأرض، طين الأرض). وما تبع ذلك من زمن الخلق ومستقبله اللذين سينتجان إمكانية الحياة بأغلب ملابساتها تعويضاً عن الأصل، وسيمثلان ذاكرةً حيةً ترمي إلى الأزمنة الآتية بفعل الماضي السحيق.
الميتافيزيقا: أي المبادئ التي تشدُ كيانَ الإنسان إلى أعلى تجاه قيم تندرج خلف الفكرة السالفة. وبالتالي سيكُّون الجسد” وشماً انطولوجيا ” في الحياة حاملاً لبصمات المقدس والمبادئ المفسرة للطبيعة والعالم.
الاجتماع: فالجسد ليس فردياً، لكنه في لحظات السلطة والقوة والهيمنة هو جسد اجتماعي. تغمره الثقافة من أعلاه إلى أدناه، الوجوه والوشوم والهيئة والأزياء والحركات وحتى السمات العامة تعد بمثابة بورتريهات ثقافية حتى النخاع.
السياسة: الجسد كتلة سياسية متحركة، أنفاسه ورغباته وآثاره لا تخلو برهة واحدة من تسييس المضامين. حتى أن أشكال الأجساد وأنماطها وعلاقاتها الحيوية في الفضاء العام هي موضوعات لم تفلتها السلطة هباءً.
العلامات: الصوم يصبغ الجسد مبدياً ذلك على معالمه وحركته، وهو في المجتمعات العربية يتخذ كنقش للتدين أمام الآخرين( إذ يتفرس الأشخاص في وجوه الآخرين بحثاً عما إذا كانوا صائمين أم لا). وقد عبر الموروث الإسلامي عن تغيرات الصائم بعبارة رمزية كما جاء في أحد الأحاديث( لخلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك).
التأويل: الجسد هو الصورة المؤولة لوضعيات الإيمان والفكر، ليس ينفصل هذا عن ذاك إلاَّ بقدر ما يكون الشكلُّ هو المعنى لما يؤول إليه الأصل المرتهن بقصة الخلق اللاهوتي. لأنَّ الجسد هو مادة الاتصال التاريخي بين عملية الخلق القديمة وحضور المعاني العميقة الآن ضامناً استمراريتها إلى الغد.
لأنَّ الصيام كما أشرت يومئ إلى الأثر الرجعي الكامن فيه كبناء نحو الأمام لحل لغز المعصية التي قام بها آدم قديماً وأكله من الشجرة المحرمة. وبما أنَّ الجسد هو آدم (العاصي لأمر الرب) فإن جسد آدم هو المسؤول عن الصيام الآن وأي آن. وهذا يضمر افتراضاً أنَّ اجساد أبناء آدم( البشر جميعاً) يؤولون جسد أبيهم بطقوس الصيام وعلاماته.
التاريخ: يثبت الصوم أن الجسد وسيلة تصفية لتاريخ العالم، لكونه عائداً إلى مصدره الخالق طالما لم يتدارك أدم خطيئته فعلياً، وهو وسيلة اعتراف وخطاب جسدي وروحي يطلب الغفران عن تاريخ قديم وقع بطريقة ما ونحن جزء من مسؤولياته. والصيام من ثم مشاركة بالجسد في محاولة لرتق الانقطاع الزمني عن الأمر الإلهي، لكنه يلجأ إلى مصالحة مع الذات حتى يصالح الآخر وكل آخر سواه.
مَحْبرة الحروف
أمَّا الإيماءة الثرية، فلا تنقطع عن كون وحدة الجسد البشري احتمالاً قائماً، فالبَون شاسع جداً بما يصعب تخيله بين بداية الخلق والحال الراهن. لكن تكرار الصيام يمثل عودة وانطلاقاً في الوقت نفسه، تكرار حفري على سطح الأيام بما يتيحه الجسد من توثيق الخلفية بشكل جمعي. وكأنَّ أجسادنا هي حصيلة جسد تاريخي كان به حوار أنطولوجي على مستوى الحياة الأولى ثم له تحولاته، وكما لو أنَّ الجسد التاريخي متوزع كشيء مشترك على صعيد قصتنا التي نعيشها( في الحب – التعلق بالآخر- التفاعل والتواصل اليومي).
هناك سؤال وجيه: هل يعدُّ الصيام إرادةً أم أمراً أم قضاءً وقدراً أم طقساً بُناءً على حضور المتعالي؟ لتُّوضح الفلسفة بأيَّة دلالة يمتنع الكائن عن ألته الجسدية(وملحقاتها) لصالح معانٍ داخل ذاته وخارجها. الامتناع نفسه الذي لا يتم دون وجود صراع حقيقي حول الألة العتيقة(الجسد) منذ المدونات القديمة والأساطير وأنظمة السلطة والمِلْكيَّة وأدبيات المتعة واللذة والجوع والألم والموت والحياة. وبالتالي فالإجابة عن السؤال بالأعلى منذ سطور ليست محسومةً، لكن ستظل موضوعاً للتفكير كعمليةٍ متواصلةٍ لها تداعياتها غير المنتهية، ومن الصعوبة بمكان إقرار كل ما في جوفها إلاَّ بتتبع التحول داخلها على نطاق بعيد.
ليس الأمر بسيطاً كما نظن، فالخطيئة التي وردت في نصوص الكتب السماوية (التوراة والعهد الجديد والقرآن) استندت إلى قضية الخلق من جهةٍ، وإلى أمر الخالق بعدم الاقتراب من الشجرة المحرمة ثم الخطيئة التي اقترفها آدم وحواء من جهةٍ أخرى. فجميع ذلك يعتمد على الجسد كسردٍ منصوص عليه خلال المدونات الدينية، لأنَّه المادة الخام ليس لكائن جديد اسمُه الإنسان، لكن لمستقبل الكينونة ولوجود عالم تالٍّ(جميع الديانات الإبراهيمية تشمل فكرة: الإله + الإنسان× الشيطان/ الخطيئة). أي سيناريو الدراما الكونية التي يلعب فيها جسد الإنسان دور البطولة، سواء أكان خَلْقاً أم معصيةً أم خُروجاً من الجنة وهبوطاً إلى الأرض أم ثواباً وعقاباً. كل ذلك يعني إمكانية الصوم فوق هذه المعالم التاريخية وداخل أجوائها. إنَّه عملية لا تتم إلاَّ بتحريك وجودها الساري في تاريخ الإنسانية.
لقد كان الجسد ” محبرة الحروف” التي ستكتب بها الأحداث اللاحقة للخلْق الأول. فالخلْق كان مصدره من تراب كما ورد سواء برمزيته في اليهودية والمسيحية أو بأطواره في الإسلام. وكيف مثل إمكانية حسية مليئة بالرغبات والشهوات( العُري والرغبة والسوءة: فبدت لهما سواءتهما بتعبير القرآن) أو حضور الآخر غريزياً كشكل مماثل لجسد نظيره. وحين يحجب الإنسان رغباته طعاماً وشراباً وجنساً وفحشاً، فهو مازال يعزف على الآلة الطينية المخلوقة (كما تُوصف). وعلية لم لا نقول إنَّ الامتناع عن ذلك كان متعلقاً بسرد عملية الخلق في النصوص المقدسة وهو عودة تأويلية نحو الجذور البعيدة؟!
إنَّ الصيام هو جملة اعتراضية مستقبلية تعود إلى الأصل على نحو مزدوج، والنهي عن الرغبة تجاه الشجرة المحرمة مازال نهياً متصلاً حتى الآن وبعده. لكن ذلك في صورة طقس وجودي وديني يرد الاعتبار للنهي الأول ويعيد تأويله تطبيقاً لطاعة الفريضة.
إثباتاً لذلك كان الصيامُ في اليهودية مُرتبطاً بأيام معينة ومناسبات خاصة تعبيراً عن الاستغفار والخطيئة أكثر منه ارتباطاً بمواعيد محددة. ومن الأيام المشهور صيامها عند اليهود يوم الغفران[2]وهو صيام خمسة وعشرين ساعة متواصلة. فيبدأ الصائم قبل غروب الشمس بحوالي الربع ساعة وينتهي في يوم الغفران بعد غروب الشمس بربع ساعة. وهذا يدلل على كون الصيام اليهودي نوع من التكفير عن ذنوب ليست وليدة اللحظة. فالصيام كان ارتباطاً بتاريخ من الجسد الجمعي في موروثات اليهود، ليس هو الخطيئة بمعناها الفردي فقط، لأن يوم الغفران يتم التعامل كطقس جماعي، ثم يستعمل كفترة زمنيةٍ يشعرُ شعب الرب بقدرتهم على ممارسة العلاقة اللاهوتية السياسية معه.
لقد اصبح الغفران تقنية جسدية سياسية قائمة على الجذور اللاهوتية، ومع وجود الدولة جاء الجسد كجزء من الخريطة المحددة لوجود الشعب. إنَّ خريطة اسرائيل هي خريطة الجسد اليهودي مع تفاصيل الشتات والتيه والعودة والدولة أخيراً. وفي قلب المعادلة تقع فكرة الخلق وارتباطها بالرب على الأرض، ولذلك كان الجسد (وصيامه) ذاكرة جيوسياسية تسرد علاقة السماء والأرض. بكلمات أخرى، يعد الصيام منشطاً لذاكرة تحافظ على حدود شعب ما.
لقد تعامل شعب بني إسرائيل مع الرب تعاملاً جسدياً، فهو على ارتباط مباشر معه، وللرب كل السلطة والاختيار في تكوينهم وتفريقهم وعقابهم وإرشادهم، يراهم ويقابلهم وجهاً لوجه، يتجلى ويتجسد لهم دون سواهم من البشر. يحارب معهم ويعد جيوشهم من عصر إلى آخر لدحر الأعداء ساهراً على تمكينهم من الأرض وتاركاً آثاراً حيث وطأتها أقدامهم.
المدهش أنَّ الدولة الإسرائيلية تعاملت مع حدود جغرافيتها باعتبارها جسداً حياً، غير قابل للمس ولا للضرر المباشر. حتى إذا تمَّ المساس بها كأنَّ الجسد كله قد وقع عليه مكروه، لتجند الدولة له جميع القوات دفاعاً عن جسدها. لدرجة أنَّ الأموات اليهود في دول متفرقة ينظر إليهم اليهود باعتبارهم جزءاً من جسدهم الذي يشعر ويقوى ويدافع عن نفسه.
أيضاً يصوم اليهود في ذكري هيكل سليمان، ويصومون في يوم وفاة نبي الله موسى، وكذلك صيام الأسابيع الثلاث الحداد والتي قام فيها الرومان بهدم الهيكل واحتلال أورشليم من السابع عشر من تموز وحتى التاسع من آب. كما كان اليهود يصومون قبل الحروب والقتال. والمماثلة لا تخطئها العين، فالصوم تراث يحضر عن طريق الجسد، أو هو الجسد موروثاً بطريقة سياسية. إنَّ كل ما ينتمي إلى طقوس الديانة اليهودية لا تغيب عنه السياسة، حتى مصطلح بني اسرائيل، والعبرانيين، اسرائيل، اليهود،.. جميعها لا تخلو مما هو سياسي. فالعبور يحتوي على الحدود التي هي جسد الواقع والموروث معاً.
وفي المسيحية يمثل الصيام خضوعاً للرب، ولا يوجد موعد بعينه للصيام لدى المسيحيين وإنْ كانت تقاليد الكنسية قد قالت بالصيام قبل أربعين يوماً من عيد الفصح ثم زيدت لتصبح ستة أسابيع بما يسمى الصيام الأكبر. لكن اللافت أنَّ الصيام يمنع أكل لحوم الحيوان ومنتجاته كالألبان ومشتقاتها. بيد أنَّ الأمر يرتهن بتعاليم الكنيسة، فالكنيسة الروسية تمنع أكل اللحوم والسمك، أما الكنيسة الكاثوليكية في انجلترا فسمحت بأكل اللحوم والأسماك أثناء أيام الصيام بخلاف أيام معدودة مثل الأربعاء والخميس والجمعة، بينما الأرثوذوكس يمتنعون عن اللحوم والألبان ومنتجاتها مع السماح بأكل الأسماك.
ليس يخفى علينا أن الصيام يؤكد على إبقاء الحياة في شكل الامتناع عن أكل اللحوم. ونعرف أنَّ اللحم هو الجانب الذي يشكل الجسد الذي هو الحيوان فينا، وبالتوازي ستقول المسيحية يجب النظر إلى الحيوان خارجنا. إذن لن يحافظ على الحياة إلاَّ صوم الحيوان البشري(الآثم) داخلنا عن التهام الحيوان بالخارج. والحيوانان لا يأتيان اعتباطاً، لأنهما جزء من منظومة الخَلْق لاستمرارية العالم، فالخضوع للرب ليس وليد اللحظة ولا بناء على إدراك هذا الحيوان أو ذاك لأهمية نظيره، بل لأن هناك خطيئة أصلية سابقة بنيت عليها الحياة.
إن صياماً مسيحياً عن اللحوم الحية هو تذكير متواصل بماهية الحياة التي تحددت مبكراً بصورة آثمة( خطيئة آدم – الإنسان)، وبالتالي سيكون الصيام في المسيحية حفاظاً على الحياة تحديداً والإشارة إليها. في وضع يحتاج إليه الإنسان من جهة أنَّ الحياة لا ينبغي أن تكون قرباناً لشيء أخر. وإذا كانت الحيوانات قرابين قديمة للآلهة، فإن الامتناع عن أكلها هو قربان بالمثل. وتلك إشارة لطيفة إلى وجود قرابين بالمعنى المقصود هنا وهي تصفية للاعتقاد بأن الحياة قائمة على إراقة الدماء.
وهذا أعطى المسيحية فرصة للتحدث غير اليهودي عن الحب، فالصيام هو محبة بلا عنف إزاء الطبيعة. وليس أقرب من كون المسيح كابن الرب هو الجسد المتألم لغفران خطايا البشر. غفران مقلوب، فالآلهة منذ القدم كانت تفرض التألُّم على البشر من أجل غفران خطاياهم في حين أنَّ ابن الرب في المسيحية هو من يصلب ويتوجع لغفران خطايا البشر.
بصيغة أخرى يتحول الجسد إلى حب، فلا الإله يترك البشر كما هم وكذلك لا تسري الآلام في أجسادهم وأجساد الحيوانات المُضَّحى بها. من ثم كان الصيام من جنس الحياة طالما يحول دون النيل منها داخل كائنات أخرى. والطبيعة تعود إلى جسد المخلوق الأول وقدرتنا على الشعور به رغم زمنه السحيق وقدرته على السريان في الأجساد. ولذلك سيظل طقس أكل الخبز المقدس ورمزية لحم المسيح ودمائه طقساً في ماهية الحياة.
ولأن الجسد واحد، فلا يتم فقط التنكر لما يكون عليه الحيوان داخلنا – خارجنا، بل بمعرفة المتصل الذي يقع عنده جسد المسيح الحي داخل الاثنين. والتوحيد في طقس كهذا نوع من شعور الإنسانية بوجودها الممتد.
أما الإسلام فقد قال صراحة: ( كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)، وقد أشار القرآن بهذا إلى طبيعة المداد( الحبر) الذي كتب به. فالوضع معروف منذ آدم والرسالات السابقة توحيدية وسردياتها تتشابه في قصة الخطيئة واستعجال الغفران. والكتابة تبدو بموجب الجسد في ضوء العلاقة التاريخية بين الرغبة والوجود والحياة. وسيكون الصيام مطلوباً بالطريقة نفسها رغم وجود درجات له ترتبط النقطة السابقة( مثل صوم الجوارح وصوم الخاطر وصوم النفس عن الاشتهاء والكلام كما يقول المتصوفة).
كما يرتبط الصيام في الإسلام بالخالق رأساً، حتى جاء بالأثر على لسان الله:” أنَّ جميع عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”، لأن قضايا الخلق تخص الله في الإسلام ومن باب اثبات تلك الخصوصية، فالجزاء من جنس العمل إعمالاً لوثيقة الجسد منذ وجودها. وعقب الصيام بنهاية شهر رمضان، قيل إنه سيظل معلقاً غير مقبول إلا بإخراج زكاة الفطر، والشيء الدال أنها تسمى” زكاة الأبدان”، مصيرها وعلاقتها بالخالق وصحتها وخلاصها من العذاب الأخروي. وكأن نهاية فترة الصيام اعتراف واضح بتلك المسؤولية التاريخية غير المباشرة بين آدم وأبنائه.
إلى هذا النقطة يرتبط الوضع بأسئلة أخرى: هل وجود المقدس خلف الصيام يحُول دون التساؤل حول جانبه الإنساني؟ هل التقوى( لعلَّكم تتقون: غاية الصوم) في الديانة الاسلامية بمثابة التعلق بما هو آت( الآخرة) فقط؟ أي هل التقوى فاعل لصائم ما أم هي مفعول لشيء آخر( سلطة المقدس)؟ وبالتالي: أليست الرغبات تنقسم ما بين الخوف والإقبال طلباً للمزيد؟ ولماذا يتم ترجمة الجانبين اجتماعياً في صورة شهوات، انكشاف، نهم؟
جُوع العين
الفرضية المفصلية أنَّه لا يوجد انقسام شهوي إلاَّ وتسكنه السلطة وتحاول إدارته لأجل التحكم في الجسد ( الفردي– الاجتماعي ). خاصة أنَّ الصوم– في المجتمعات الإسلامية- ليس فاعلاً على المستوى الفردي، أي بالنسبة لجسد هذا أو ذاك من المؤمنين، لكنه يتعامل مع الاجساد كـ” شاشة عرضٍ” بصيغة الجمع (كُتب عليكم الصيام) و( لعلكم). فهناك هاجس الجمع وهو المتصل الذي يمارس فيه الإيمان زمناً معيناً. إذن الصوم كتابة من سلطة إلهية بناء على أقدار تخص عمومية الناس. وتلك النقطة تُفرِّغ مجال الكتابة من العقلانية بحكم أن الوازع يعتمد الإيمان معياراً وليس ثمة مرجعية عقلانية أخرى.
ربما الامتناع عن الطعام كان ديدن النساك والزهاد والفلاسفة. لم يكن ثمة فيلسوف يرى بطنه أكثر مما يتسع إدراكه للعالم. وإلاَّ لكان البطن هو مقبرة العقل ولضاع منطق الفكر لصالح منطق النهم الحسي. وربما كانت الفلسفة تاريخياً نوع من النحافة المقصودة لرغبات عليا تركزت على ما هو ضروري في الحياة. وربما قبل الأديان لم تكن المعدة حاوية لرغبات منتقاة، بل كانت ” بيت الداء ” و” بيت القصيد”، فالمعنى كان في بطن الشاعر – كما يقال- كمجال لخفاء من نوع ما. وهي تستطيع أن تهضم أية مرجعية وتعيد إفرازها. والبِطنَّة( السمنة وظهور البطن) تُذهِب الفطنة لكنها تجمع الشهوات، أي هي القوة المرغوبة التي تراكمت تحت جلد الكائن، وتقوده بالوقت نفسه نحو مصيره، نحو حياته.
هكذا إذا كان الصيام كفاً عن الطعام( شهوات الجسد)، فماذا لو كان امتناعاً عن التفكير؟ وهل صيغة السؤال تواصل دلالتها بهذا المعنى؟ كيف يتحول الصيام من تقشف الكائن إلى اطلاق غرائز القطيع( النهم الجسدي)؟
تبدو السلطة هاهنا والجسد هناك… تلك هي المسافة التي تتلاشى عبر تاريخ المجتمعات وأنظمتها السياسية. السلطة تعاملت تاريخياً مع مواطنيها بمنطق الوجود الواقع بين الرهبة والرغبة. والجانبان تتحكم فيهما بطريقة الخلق اللاهوتي القديم كما أسلفت. لقد كانت هي الوريث غير الشرعي لكل دلالات الإله وحضوره وغيابه الحداثي أيضاً. وبالتالي كان منطقاً أن تعيد السلطة تشكيل أجساد البشر وفقاً لمعطياتها الثقافية السائدة.
كأنَّ السلطة تكتسب المعادلة التاريخية من اللاهوت: الإله – الخلْق – الإنسان (المخلوق) –الجسد- الخطيئة). وتفسيرها كالتالي: أنَّ السلطة هي التحول الأخير للمكانة الإله في أفق الحداثة الغربية ومنها إلى المجتمعات التي تنشد تُزامنها. وليس أمراً عارضاً أن تنبني مفاهيم السلطة وحالاتها على اشاعة ثقافة الخوف. ورغم وجودها الواضح إلا أنها تكمن لدى مستويات الصمت اللامفكر فيه. كل سلطة تهجس داخل المجتمع بحضورها دون أن تظهر وجها لوجه، غايتها المثلى أنْ تتخفى بقدر ما تتجلى. هي ثنائية استعارية تسبق السلطة بمعناها الحداثي في يد دولة مركزية إزاء مواطنين لهم مواصفات عمومية.
الفارق أنَّ سردية الإله معروفة وحياً، بينما تؤسس السلطة وجودها بين السماء والأرض بواسطة ” ميتافيزيقا الجسد”. فالواضح أن كل سلطة لها تصورات بعينها حول ما هيته وقوالبه وتنظيمه وإعادة تخطيطه وهذا ميراث لا هوت الخلق بينما عبر خفائها تخزن (تراكم) تصورات حول نمطه الممتثل لأوامرها كما تراه. ومن خلال العنف المضمر في هذه الأوامر ينشط الخوف الضمني كألية ضبط جماعي إزاء السياسات.
تحل الأنماط العامة للحياة في ذهنية المواطن محل اللاهوت بمضمون الاعتقاد الديني تجاه إله مفارق. إذ ظلت هذه السمة سارية المعنى حتى اللحظة وليس بين المواطن والسلطة سوى خوف يجسد فكرة الموت بكل ثقلها. وأيُّ بناءٍ على السلطة يضرب جذوره في تلك الميتافيزيقا، لأنَّ ميتافيزيقا السياسة هي الافتراض المتضخم إلى حد التجاوز بالنسبة لهيمنة السلطة.
وإذا كانت السلطة السياسية قد ورثت أفق الإله بشكل مدني، فلا تنسى من حين لآخر أن تمارس وثنيتها بمنطق القوة والعنف. حاولت – في الأنظمة الاستبدادية- ادعاء الألوهية ومارست قدرات تنتهك كل ميتافيزيقا ممكنة.
لكن الجانب الآخر أنَّ السلطة تتناسى موقعها الإنساني لتعيد ممارسة اللاهوت بقضايا الجسد. فهي تؤكد بواسطة هندسة المجتمع ضرورة التزام الناس أفراداً وجماعات بالصور الرسمية لحركة الشوارع والميادين والمؤسسات. فإذا خرج المواطنون عن لوائح العمل بهذه الصور، وقعوا تحت طائلة القانون. الجسد هو آخر معاقل اللاهوت السياسي بالنسبة لتحرر المجتمعات. وقد رأينا في حراك الربيع العربي كيف شكل الجسد مسرحاً سياسياً لنفض غبار الديكتاتوريات ومجابهة الأنظمة المستبدة. شعرت تلك الأنظمة بأنها مؤقتة على قارعة الحياة بمجرد تمرد الأجساد في مظاهرات حاشدة. وربما لم يكن الجسد سوى سكين حي لقطع أوردة السلطة بميتافيزيقاها المورثة. وقد تقلصت الأخيرة مع هتاف الجماهير(الشعب يريد اسقاط النظام) إلى درجة التبخُر.
ولذلك فإنَّ حركة السلطة تتكيف تماماً مع حركة الجسد، إدارته هي آليات الدولة الحديثة مثل: الاعتقال، الحجز، التتبُع، السجن، المنع، الحجر، والتعذيب والسحل والعقاب… وهي ممارسات مقررة وفق تكوين الجسد الإنساني. فالاعتقال يفترض تزمين أوقات الجسد ووضعه داخل حدود مكانية بعينها، أي استغلال الحركة الملموسة في النيل منه ومساءلته بطريقة حياتية، وما يجري على الاعتقال والسجن يجري على باقي الأشياء.
بالتبعية تحركت الثقافة الشائعة نحو استهلاك الجسد (الشهوات)، فالسلطة لا تغفل انهاكه وتخييل وجوده لاستنفاد الطاقات الحيوية واعادة توجيه ميتافيزيقاه. دوماً بالمجتمعات التي تنخفض فيها إنسانية الإنسان، تشتغل السلطة على فضح الجسد. في إشارة إلى التناظر القديم بين الخالق والمخلوق، فعقاب السلطة هو نبذ مواطنيها من جنة الدولة واقعين تحت المراقّبة!!
اللافت للنظر أنَّ فترات الصيام (شهر رمضان) في المجتمعات الإسلامية هي زمن الاحتفاء بالجسد حتى الثمالة. شهر الهوس بالطعام لا الحرمان المؤقت وتوزيع الوجبات بشكل متباعد. والإيعاز لا يحتاج تفسيراً في زيادة النهم المادي وتقليص التطلع نحو غد أفضل وإقرار حقوق المواطنة. خلال هذا الشهر يكون الإنسان معروضاً في الأسواق حيث ركضه المتواصل نحو سد احتياجاته البسيطة من طعام وشراب وملبس. وتفريغ الجسد من روحه الآخذة في رفعه نحو السماء.
الأمر مرتهن بفكرة الخطيئة، لأنَّ الامتلاء بأفكار التراث الإبراهيمي جعل آلة الخطيئة (الجسد) تستنفد قدراتها حين تتعرى جمعياً(الكل يرغب فيما يسد جوعه اللامتناهي وشرابه اللامتوقف والعودة إلى الظهور المرغوب). لنتأمل اعلام الطهي والبرامج التي تقدمه في صور فائقة الجودة والاشتهاء، نجدها لوناً من التعرية اللاواعية للروح وحصرها بملذات تستنفد طاقات الإنسان. وفي مداها البعيد تقلل من أي اهتمام آخر. المجتمعات الإسلامية أكثر المجتمعات استهلاكاً في شهر الصيام للمواد الشهوية (التي تثير الغرائز).
ليس هذا فقط بل تنتشر الأفعال الخارجة عن القوانين تحت ضغط استهلاك الجسد، ولا سيما أن استهلاكاً كهذا يجعل الرغبات ملتهبة، فالرغبة بحسب جاك لا كان دالٌ يواصل دلالته دون توقف. قد تبدأ بالشهوة المادية المتمثلة في الطعام (الإشباع الحسي) لكنها تطلق العنان للخيال بما لا يَشبع. ويغدو المزيد هو النطاق المؤجل الذي يلتهم كل مجهود آخر. حتى أن السلطة – في البلاد العربية- تجعل المجال العام نطاقاً للتعري الجسدي، لكنها بالوقت نفسه نطاقاً لغلق تطلعات الشعوب للحرية والعدالة والمساواة. هذه لا تنفصل عن تلك: لماذا زيادة الرغبات الحسية، بينما الحياة الكريمة وممارسة الحرية تكاد تكون معدومة؟!
الجشع هو ممارسة الإفراغ والامتلاء الجسدي في هذا السياق[3]. لأن حرمان الصائم من جوانب إنسانيته يجعله أداة للأنظمة السياسية، ويلتقي بجوانب حياته في السياسة والدين تبعاً لعلاقة الأعلى بالأدنى. ويغدو الجسد مشوهاً لأنه لا يلبي متطلباته التي تزيد بوقت تعاق فيه حركته سياسياً.
الحاصل هو ” صوم البطن وإطعام العين ” دون رحمةٍ، أي إثارة النظر إلى مداه الأخير. من يشاهد الإعلانات (الإشهار) في رمضان سيجدها ذات سمات تمثيلية تلتزم بالأداء المُنجز سلفاً. وهو أداء يشتغل على اشعال الغرائز الهامشية، أي نتيجة الجوع قد يمتلئ البطن، لكن لابد للنظر من إثارة لا تُبقي ولا تذر. إنَّ الاعلانات التليفزيونية هي جوع العيون التي تصبح بحجم المجتمعات المحرومة إنسانياً. والانفصام يكشف الهوة السحيقة بين الواقع المعيش والمأمول، تحول الواقع إلى مادة وهمية قابلة للإدمان والاجترار. على حين يكون الأفق غير متطور محصوراً على الغرائز المباشرة.
ويمثل السقوط من الجنة بخلفياته اللاهوتية هو المعنى الخفي للسقوط من الحياة العامة باسم الإشباع الحسي المباشر. من ثمَّ كانت سيطرة الأنظمة السياسية على الجسد وإلهاب طاقاته الغرائزية هو إعلان التأله المزعوم لحاكم لا يمل من تقزيم المجتمعات وإضاعة فرص الحياة الحقيقية.
ينبغي على أي فكر فلسفي ينظر للجسد أنْ يعطِّل شقي الرحى بين اللاهوت والسياسة، لا بد من قطيعة نقدية تدعم الفعل الإنساني وتؤكد تجارب الحرية بموجب إبداع الحياة السياسية والاجتماعية بثرائها المفترض إلى مالا نهاية. أي ضرورة إنتاج تاريخ جديد لا يأخذ مراحله المتقدمة فقط، بل عليه أنْ يشكل الماضي- رغم انقضاءه- واعياً بمصادره وتحولاته غير المرئية. فالجسد هي الوثيقة الكونية التي تعكس ما كتب عليها، ومع ذلك تبقي مفاجئات التكوين والآثار أكثر إدهاشاً.
عن شبكة الاوان