توجد أنواع كثيرة للسجون، منها ما بصب في صالح الحاكم وسلطته وتثبيت عرشه، ومنها ما يحمي النظام الاجتماعي ويحارب الجريمة ويحد من انتشارها، ومنها السجون الإصلاحية المخصصة للأحداث دون سن الاستقلالية، قرأنا عن سجون الطغاة في كل الأمم، يُقال أن الحجاج بن يوسف الثقفي، كانت لديه سجون يترك فيها معارضيه بلا طعام ولا ماء حتى الموت، ولابد أنك قرأت عن سجن الباستيل في فرنسا، أو سجون محاكم التفتيش، ولكن ربما لم تسمع بنوع من السجون يسمى بـ السجن الذاتي!.
ولو حاولنا تفكيك الجملة المتكونة من مفردتي السجن الذاتي، فإن المفردة الأولى السجن يعرَّف بأنه المكان الذي يوضع فيه من يراد سلب حريته، أما الذات فتمثل حصيلة تجربة المرء للظواهر المختلفة التي تشكل إدراكه، وعواطفه، وأفكاره، وهي تختلف عن النفس، وهذا يعني أن أفكار ومشاعر ومدركات الفرد عن نفسه هي ذاته، ومن هنا نشأ علم تطوير الذات وعلم إدارة الذات وغيره، وفي الغالب تترك البيئة الثقافية للفرد، مع حصيلة خبراته الحياتية أثرا كبيرا في بناء شخصيته، أو بمعنى آخر هويته، فالطفل منذ وقت مبكر يبدأ في تكوين هويته متشبّهاً بالأشخاص المهمين في البيئة من حوله، ففي الوقت الواحد يتشبه بأمه وأبيه أو أحد إخوته أو معلمه، إلا أن هذا الخلط يفرز شخصية متشعبة ذات أدوار مختلفة، مفككة الأوصال.
وهذا ما يقود بالنتيجة إلى تأسيس السجن الذاتي الذي يحدّ من قدرة الفرد على الانطلاق في عالم العبقرية والتميز، ويزرع في كيانه حالة من الكسل والعجز تشل قدراته المعنوية والمادية معا، فيذهب إلى وضع نفسه حبيسا في سجنه الذاتي مما يجعل منه رقما جامدا وأحيانا يُسمى صفرا على المال في إشارة إلى أنه فاقد لأي دور حيوي، على الرغم من أن فكرة الفرد عن نفسه تتميز بالتفرد، ولكنها عرضة للتعديل بتأثير الظروف البيئية والاجتماعية التي تحيط به، وبوجهة نظر الآخرين عنه، فالفرد قد يرى ذاته بصورة ايجابية أحياناً، وبصورة سلبية أخرى، إلا أنه بصفة عامة له تصور شبه ثابت عن ذاته، تبعا لتخلصه من سجن الذات أو بقائه حبيسا مشلولا في داخله.
نحن نقف إزاء معضلة يشترك في صناعتها قطبان:
الأول: الذات.
الثاني: البيئة الثقافية والتربوية.
فكيف تتم عملية التعاضد بين القطبين في أعلاه، الذات والبيئة، ومن يسبق الآخر في تكوين هذه المعضلة، أسهب علماء النفس والاجتماع في تمحيص هذه الثنائية المتداخلة، ولكن كان الاتفاق واضحا على أن البيئة التربوية تسبق الذات في حث الفرد على البقاء قانطا في سجنه الداخلي، بدءا من الحاضنة الأولى، فالعائلة هي التي تضع اللبنة الأساسية لشخصيات أفرادها، والمدرسة والمحيط المجتمعي، ثم يأتي دور الفرد الذي قد يسعى في تكبيل نفسه بسلاسل العجز والكسل الذاتي.
لكن هناك حالات نادرة لا تخضع لهذه التحليلات النفسية الاجتماعية، فهناك أفراد (عباقرة) أو أناس متميزون وُلدوا وترعرعوا في بيئة محفزة للكسل والعجز ومنتجة للفشل، ودافعة للفرد على أن يلبث في سجنه الذاتي، إلا أنه نفر من هذه التحديدات وفرَّ بعيدا عن سجنه وكسر الأغلال وانطلق في عالم مناقض بدرجة تامة، فدخل عالم الإنجاز بجدارة، لكننا لسنا هنا بصدد تفوق فردي ضئيل، نحن نبحث عن بناء قواعد اجتماعية تساعد الأفراد على الخروج من سجونهم الشخصية، ولفظ الكسل بعيدا، وتدشين بنية جماعية متحررة لا يمكن أن يحد الكسل والعجز الذاتي من حيويتها وحراكها.
في عينة مأخوذة من شبابنا العراقي حاضرا، تم رصد حالات فراغ وهدر للوقت مع ميول للكسل والدعة والإفراط في النوم أو البقاء في حالة صحو حتى ساعات متأخرة من الليل، وبالتالي نهوض متأخر في نهار اليوم التالي قد يتجاوز الظهيرة، مع شعور مزمن بالاكتئاب والقنوط وحتى الفشل الذي يشل بدوره التفكير بتهيئة خطوة نحو الأمام، لذلك نحن نعاني في العراق من ظاهرة الكسل والشعور بالفشل، كنتيجة حتمية لتكبيل الشاب العراقي نفسه بفعل طوعي والهروب إلى سجنه الذاتي الذي سوف يمنحه جميع سمات الفشل، كالعجز والتردد وكراهية قوية للعمل أو الإنجاز بأنواعه المختلفة.
كيف نخرج من سجوننا الذاتية؟، سؤال لابد أن ننشغل به جميعا، ليس الفرد وحده، ولا الحكومة وحدها، ولا العلماء المختصون الذين لا ينبغي أن يعملوا في غرف أو مراكز أو مختبرات مغلقة، إن الحلول ذات طابع جمعي تشترك فيه كل العناوين سابقة الذكر، الفرد، العلماء المختصون، المنظمات الشبابية الرسمية والمدنية، الأسرة، المدرسة بمراحلها المتعددة، نضيف إليها الإعلام (فضائيات، تلفاز، إذاعات، صحف ورقية وإلكترونية، وسائل الشوسيال ميديا)، كل هذه المسميات يجب أن تنسّق فيما بينها بشكل دقيق، مع أهمية المنجز الفردي، فالفرد ليس خارج قوس، وقد يكون نشاطه وسعيه لتخليص نفسه من سجنه الشخصي باكورة الجهود الهادفة إلى تحويل بيئة الكسل والتردد والعجز إلى بيئة تنبض بالنشاط والحيوية والإنجاز.
ولابد أن تكون الجهود الجمعية منسقة جيدا، وليست ارتجالية، تحقيقاً لأهداف كبيرة تنتشل الشباب بوجه أخص والمجتمع بشكل أعم من الإفراط باللجوء إلى السجون الذاتية تهرّبا من العمل والإنجاز، وهناك خطوات يمكن تبنيها في هذا المدار:
- تهيئة بيئة مشجعة للتميّز والنشاط من خلال حزمة محفزات مادية ومعنوية، كأن تأتي بصيغة مكافآت مالية أو سفرات ترويحية أو وعود أكيدة بمراكز وظيفية جيدة في القطاع الخاص.
- غلق نوافذ العجز والكسل من خلال نشر ثقافة حب العمل والإنتاج والتفرد.
- معالجة مشكلة البطالة والفراغ بطرق عملية وليست وعود براقة مسكنة.
- استثمار الطاقات الهائلة للشباب، وفتح قاعات ومراكز وأماكن ترفيه تجدد حيويتهم وتمنحهم تفاعلات عقلية ديناميكية مستدامة.
- تنشئة الطفل بعيدا عن ثقافة الكسل وتخليصه مبكرا من سجنه الذاتي.
- وضع خطط عملية غير آنية ولا مرحلية لردع وباء الكسل المنتشر بين الشباب وغيرهم، ويتم من خلال تطوير بيئة تشجيعية فردية وجمعية تنحو إلى الإنجاز وترفض العجز كأمر واقع.
بالنهاية علينا جميعا، أفراد وجماعات، أن نفهم بالدقة الواقعية خطورة سجوننا الذاتية، وأن نحد من خطورتها، ونواصل جهودنا في مساعٍ وأفعال ونشاطات منظمة، الخروج إلى عالم الإنجاز وفق الخطط العلمية المتخصصة.