حركة خارج السرب | في ضرورة الفلسفة عند أرسطو
في ضرورة الفلسفة عند أرسطو
2019-07-26 | 2468 مشاهدة
إسماعيل الموساوي
مقالات

إذا  ما نظرنا في كتاب أرسطو الموسوم بـ“دعوة إلى الفلسفة” الذي هو كتاب مفقود، فإننا سنجد بأن الرهان الأكبر الذي حمله فيلسوفنا في هذا الكتاب هو تبيين ضرورة الفلسفة وأهميتها، وفي الوقت الذي لازالت فيه صورة الفلسفة وتمثلنا لها في الوطن العربي والإسلامي محتشماً،  ارتأينا نحن أيضاً، كمحسوبين عن الفلسفة، إلى أن  نسجل موقفاً فكرياً حول ضرورة الفلسفة في هذه الورقة، ولم نجد أحسن من موقف خلاصة الفكر الإغريقي “أرسطو” الذي خصص حيزاً مهماً في كتابه “دعوة إلى الفلسفة” لما وضعناه عنوانا لهذه الورقة. فما دور الفلسفة في الحياة؟ وهل يمكن اعتبار فعل التفلسف ضرورة ملحة؟  وبأي معنى يمكن اعتبار الفلسفة ضرورة؟


إذا ما رجعنا إلى كتاب “دعوة إلى الفلسفة” لأرسطو فإننا سنجده  يقف في البداية على تحديد معنى التفلسف، إذ تدل كلمة التفلسف حسبه من ناحية على السؤال عما إذا كان الإنسان يتفلسف، وتدل من ناحية أخرى على أن نَهِب أنفسنا ونكرس حياتنا للفلسفة، وعليه، نفهم،  بأن التفلسف ضروري في الحياة السياسية والعملية، فكل ما يقع تحث تصرفنا لتسيير شؤون الحياة، كالجسد وما يخدمه، فإنه يقع تحت تصرفنا على اعتباره كنوع من الأداة، وحتى لا يكون هذا الاستعمال خطيراً علينا وعلى وجودنا “يجب علينا أن نسعى إلى معرفة تُعيننا على استخدام كل هذه الأدوات على الوجه الصحيح، كما يجب علينا أن نسعى إلى تحصيل هذه المعرفة وتطبيقها بطريقة ملائمة”. ومن هنا يجب علينا أن نصبح فلاسفة إذا أردنا أن نصرف شؤون الدولة بصورة صحيحة، ونشكل حياتنا الخاصة بطريقة جيدة ونافعة. فالفلسفة من هذا المنطلق، ليست ضرورة فقط لكونها ضرب من التأمل يسعى إلى التحصيل سعادة الفرد وحسب، وإنما ضرورة أيضا لكونها ضرورية للحاكم الذي يريد تدبير شؤون الدولة بطريقة صحيحة، وهذا ما يمكن أن نستشفه من خلال استهلال أرسطو كتابه هذا بإهداء لملك قبرص وأميرها المجهول “ثيميسون”، من خلال دعوته وتحريضه إلى الإنفاق من أجل تعلم الفلسفة، مبينا له بأن السعادة لا تعتمد على امتلاك الخيرات الخارجية، “ولا تقوم على امتلاك الثروة الكبيرة، وإنما تعتمد على الحالة النفسية الطيبة”، فلا يمكن أن يصف الإنسان نفسا بأنها سعيدة إلا إذا كانت مثقفة ومهذبة، ومن هنا يكون امتلاك الخيرات الخارجية بغير مبادئ أخلاقية عقلية بمثابة الشر بعينه.

إن أرسطو يقسم المعرفة في هذا الكتاب إلى ضربين وهما:  المعرفة التي تخدم وتطيع و المعرفة التي تأمر ويقصد بهذا النوع الأخير أعلى درجة وفيه يكمن الخير بمعناه الحقيقي، عن طريق استخدام العقل،  فيكون الخير نصب عينه، وهذا ما تعنيه الفلسفة، “فهو الذي يستطيع الانتفاع بسائر أنواع المعرفة وتوجيهها وفق قوانين الطبيعة”[5] ، ومن هنا فالسياسي يجب عليه ضرورةً الإلمام ببعض المعالم والمعايير التي يستمدها من الطبيعة ومن الحقيقة، ويستعين منها في الحكم على ما هو عدل وحق وجمال، فمعرفة هذه المعايير غير كافية، وإنما يجب عن يحول هذه المعايير إلى أفعال، و إخراجها من القوة إلى الفعل، لأن النظر في الحقيقة فعل لا مجرد نظر وتأمل، لأن الفلسفة تحصيل للحكمة وتطبيقها، وليس هذا بغريب عن فلسفة أرسطو العملية التي حاولت قدر الإمكان أن تكسر قيود التأمل من أجل التأمل، وإنما التأمل يعقبه فعل، فيصبح التأمل متبوع بالفعل وهذا جوهر اختلافه مع سابقيه.


ما هي الغاية إذن، التي أوجدنا الله من أجل تحقيقها؟

 يتساءل أرسطو عن أي موضوع من موضوعات الفكر قد أوجدنا الله؟ فيستحضر أجوبة كل من فيتاغوراس و أنكساغوراس، فالأول يجيب عن السؤال بقوله “لكي نتأمل السماء”، لأنه عود نفسه بأنه إنسان يتأمل السماء وأنه  جاء إلى هذه الحياة من أجل هذا الغرض. أما الثاني فقد سئل عن الهدف الذي يمكن أن يبتغيه الإنسان من مولده وحياته كذلك، فأجاب أنكساغوراس بقوله “لكي يتأمل السماء والنجوم (الطالعة) فيها والقمر والشمس، وكأن كل ما عدا ذلك لا يستحق عناء الجهد”.

يقر إذن، كل من  فيتاغوراس وأنكساغوراس، بأن الغاية التي أوجد الله عليها الإنسان تكمن بالأساس في النظر والتأمل في السماء، سواء أكان موضوع هذه المعرفة هو نظام الكون أم أي طبيعة أخرى، لأن أعظم شيء يمكن أن نقرأ به الطبيعة هو “التأمل والنظر”، ومعرفة الإنسان لهذه الأمور حسب أرسطو يجب أن تكون من أجل الخير الكامل في الإنسان نفسه عن طريق تملك الإنسان لمكلة العقل وحسن استخدامها. ومن يريد أن يكون سعيدا فلا بد له أن يتفلسف، فالطبيعة/الله حسب أرسطو لا تصنع شيئا من باب الصدفة، وإنما وجود أي شيء محدد بهدف معين.

 

ما مهمة الفلسفة عند أرسطو؟ وهل هي ضرورة ملحة؟


تساءل أرسطو في كتابه هذا عن مهمة الفلسفة، وعن السبب الذي يجعلنا نسعى إلى بلوغها، من خلال طرحه للسؤال التالي: لماذا كان بلوغ الحكمة هي غاية الإنسان القصوى في هذه الحياة؟

يجيب أرسطو عن هذا السؤال من خلال إقراره بأن الإنسان يتألف من نفس وجسم؛ الجزء منها يسيطر والجزء الآخر يُسَيطَر عليه، أحدهما يستخدم والأخر وجوده كأداة، وفي النفس يوجد العقل من ناحية، وهو الذي يسيطر ويسود بحكم طبيعته ويقرر شؤونها، وهذا هو ما عبر عنه أفلاطون بالعقل (النوس)، فهو المعبر الأول عن ذاتنا الحقيقية، وبلوغ هذه الغاية هو الخير، ولما كان الإنسان كائناً حيا ًبسيطاً وكانت تحدد طبيعته بالفكر والعقل، فإن مهمته الأساسية واحدة تكمن بالأساس في بلوغ الحقيقة المتناهية في الدقة، أي المعرفة الحقة بالموجودات.

 وبعد هذا ينتقل أرسطو إلى الحديث عن العلاقة بين العلم والرأي، فالعلم تحققه أفضل وجه من الرأي كلما ازدادت قيمة العلم، وأسمى غاية للعلم هي المعرفة الفلسفية/ البصيرة الفلسفية التي ليس ثمة شيء أجدر و أسمى منها، ومنها تكون  المعرفة والنظر الفلسفي هما المهمتان الحقيقيتان للنفس، إنهما أجدر الأشياء جميعا باختيارنا نحن البشر.


الحياة العقلية/ الفلسفية غنية بالفرح وتعد ثمرتها السعادة:


يقول أرسطو “إن أولئك الذين يختارون الحياة العقلية قادرون على أن يعيشوا أهنأ حياة ممكنة”. وعليه، يقسم أرسطو الحياة إلى معنيين: الحياة من جهة القوة، والحياة من جهة الفعل  فما مقصود هذا الكلام؟.   يظهر إذن، أن أرسطو هنا، يبسط نظريته المعروفة عن القوة والفعل طرحاً سلساً وهو ما أوضحه من خلال ضربه لأمثلة التالية: بين المستيقظ والنائم، وبين المبصر بالفعل والقادر على الإبصار، و بين العارف بالإمكان ومن يستخدم معرفته ويطبقها، ليقر في الأخير بأن الفعل أعلى قيمة من الانفعال، وأسمى أفعال النفس هو التفكير، وأعلى درجاته هو التفلسف. وعليه، تكون الحياة الكاملة عند أولائك الدين يتفلسفون، وبالتالي فهم من يبلغون الغاية القصوى/السعادة، لأنها حياة الفاعلية أي الحياة العقلية هي التي تحضر فيها ملكة التفكير باعتبارها أقدر الأشياء الباعثة للفرح والسرور، حتى ولو زعم أحد أن كل هذه الأمور تجلب السعادة (في الحياة) لوجب تعريفها، بأنها هي القدرة على التفكير والتعقل.

إن للفلسفة إذن ضرورة، لا سواء في علاقتها بحياة الفرد وسعادته العقلية التي يكون مصدرها فعل تفلسفه، أو في علاقتها بمسألة تدبير الجماعة ومصالحها، إن للفلسفة فضائل ومزايا أدركها الأولين من الفلاسفة بدايةً من سقراط ومرورا بتلميذه أفلاطون ووصولاً إلى أرسطو خلاصة الفكر الإغريقي، وقد زكى هذا الطرح كذلك فلاسفة الإسلام بدايةً من كندي والفارابي وابن اسينا في المشرق الإسلامي وصولاً إلى ابن باجة وابن طفيل وابن رشد في الغرب الإسلامي.

عن العربي الجديد