جعل العالم "قرية صغيرة" لم يعد هدف "فيسبوك" الوحيد، فمع السنين، صار الموقع الأشهر سلاحاً ذا حدين؛ يسمح بحرية التعبير، ولكنه يثير مخاوف خاصة فيما يخص البيانات الشخصية التي بات اختراقها ممكناً وتحويلها إلى أداة قمع وارداً.
ظلت وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما "فيسبوك"، وسيلة لإثراء الديمقراطية والمجتمع المدني، وصعدت أسهمها في ضوء دورها الفاعل خلال "الثورات الملونة" و"الربيع العربي"، غير أنها تحولت مؤخراً إلى أداة للراغبين في التضليل السياسي، ونشر لغة العنصرية والكراهية.
فهل انتقل فيسبوك من أداة للتواصل الاجتماعي بين الناس إلى أداة لنشر الأخبار المزيفة تستخدمها أنظمة سلطوية؟ المعلومات التي كشفها فيسبوك مؤخرا تؤكد كيف باتت أنظمة عربية تستغل هذه المواقع لتوجيه الرأي العام. فكيف فعلت ذلك؟
لا يُخفِ فيسبوك أنه يتلّقى بشكل دوري طلبات من الحكومات للحصول على بيانات بعض المستخدمين، وينشر الموقع تقارير دورية عن حجم هذه الطلبات. آخر هذه التقارير بيّنت ارتفاع حجم الطلب من حكومات كثيرة منها الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية مقارنة بالأعوام الماضية، كما أوضحت أن نسبة مهمة من الطلبات تشدّد على ضرورة عدم إشعار المستخدم بوجود رغبة رسمية في الوصول إلى بياناته. يقول فيسبوك إن غالبية الطلبات التي يتلقاها تتعلّق بحالات جرائم كالسرقة والاختطاف، وإنه يقوم بفحص صارم لهذه الطلبات ويتأكد جيداً من قانونية التجاوب معها قبل اتخاذ أيّ قرار بشأنها.
غير أن استخدام الحكومات لفيسبوك لا يتمركز فقط في مطالب رسمية تُوجه لإدارته، بل باتت الحكومات تستخدم الموقع للدعاية لها وللتأثير على الرأي العام. في وثيقة نشرتها وسائل إعلام عن القسم التقني في فيسبوك عام 2017، يتحدث هذا القسم عن تقنيات تستخدم من حكومات ومنظمات لأجل نشر معلومات مضلّلة لأهداف سياسية، منها الأخبار الكاذبة، وتعميم المحتوى المضلل، واستخدام حسابات وهمية. ووفق الوثيقة ذاتها، ففيسبوك يحاول توسيع مجال الحماية عبر محاربة مثل هذه الطرق التضليلية، وقام لأجل ذلك بتوقيف 30 ألفا حساب في فرنسا قبل الانتخابات الرئاسية هناك.
عززت فضيحة "كامبريدج أناليتيكا" حيّز الشك حول مصير بيانات مستخدمي فيبسبوك. القضية لا تنحصر فقط في استغلال مُحتمل لبيانات الأمريكيين، بل تصل إلى قدرات السلطة على اختراق الخصوصية، واستخدام الشبكات الاجتماعية لخدمة مصالحها.
يمرّ فيسبوك بواحدة من أحلك فترات تاريخه منذ إنشائه عام 2004، فهو اليوم متهم بالتوّرط في استغلال سياسي لبيانات 50 مليون من مستخدميه. لا تتوقف تداعيات القضية التي تفجرّت عند اتهامات باستخدام البيانات المذكورة لغرض التأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، بل تفتح النقاش من جديد حول مدى احترام فيسبوك لخصوصية مستخدميه، ومدى إمكانية وصول بياناتهم إلى جهات سياسية، ممّا يتجاوز انتهاك الخصوصية، ويصل إلى خلق أشكال جديدة من الرقابة وترويج الدعاية المضلّلة.
من أيادي الطلبة إلى أداة للأنظمة
البداية من هارفارد، لم تكن نية مارك زوكربرغ ورفاقه في أول الأمر سوى إطلاق شبكة اجتماعية خاصة بتبادل المعلومات والصور والآراء بين طلاب جامعتهم هارفارد. أطلقوا على تلك الشبكة اسم: فيسبوك. وفي الرابع من فبراير/ شباط 2004 تم تأسيس الشبكة رسمياً، ليتوافد عليها طلبة من جامعات أخرى وتلقى رواجاً ونجاحاً مهمين. هذا النجاح دفع مؤسسي "فيسبوك" إلى فتح باب العضوية للجميع ابتداءً من نهاية عام 2006.
إقبال متزايد، كان لـ"فيسبوك" قدرة خارقة على اختصار المسافات والربط بين أطراف العالم بضغطة زر، حيث زاد المقبلون على استخدامه إلى الملايين منذ إنشائه. وقد تجاوز مستخدموه الآن ربع سكان العالم، كان مارك زوكربرغ قد كتب في تدوينة له السنة الماضية (2017) على "فيسبوك" أن عدد المشتركين وصل إلى ملياري شخص، في حين كان عددهم مليون شخص عام تأسيسه (2004).
كوكب مواز، اختراق "فيسبوك" للعالم وحيازته لمساحة مهمة من حياة الناس لم يكن بمحض الصدفة. فقد أتاح لمستخدميه فرصة التواصل مع العالم الخارجي والتعارف كما التعرف على أشخاص وأماكن جديدة، بالإضافة إلى الانفتاح وتبادل المعلومات والإدلاء بالآراء والمواقف الشخصية، سواءً عن طريق نشر تدوينات أو صور أو حتى مقاطع فيديو. هذه الميزات والتقدم الذي عرفه الموقع جعل كثيرين يطلقون عليه "الكوكب الموازي".
استحواذ وشراكات، استطاع "فيسبوك" أن يكتسب شهرة عالمية ويعقد بذلك شراكات مع مؤسسات معروفة. كما مكنته الأموال التي حصل عليها عن طريق الإعلانات من "الاستحواذ" على برامج أخرى. وتعتبر شركة "مايكروسوفت" من بين الذين قدموا عرضاً لشراء "فيسبوك" عام 2007 بشراء حوالي خمسة في المائة من أسهم "فيسبوك". أما بالنسبة للمواقع التي ضمها إليه، فقد كان تطبيق "إنستغرام" أولها عام 2012، تلاها "واتساب" عام 2014.
نافذة للرقابة والقمع، اعترفت بعض المحاكم بـ"فيسبوك" منذ 2008. كما عوقب كثيرون بسبب نشرهم لمحتوى "لم يرق" لدولهم أو جهات أخرى. وكانت وزارة الداخلية المصرية عام 2014، مثلاً، قد ألقت القبض على سبعة أشخاص يستخدمون موقع "فيسبوك" "للتحريض" ضد قوات الأمن، حسب ما نقلت رويترز آنذاك. كما حُظر الموقع في بعض الدول كسوريا وإيران. لكن سرعان ما رُفع هذا الحظر. المنع لا يخص الدول، بل يشمل بعض الإدارات التي منعت موظفيها من استعماله.
أفيون الثورات؟، شكل "فيسبوك" مساحة للإدلاء بوجهات النظر دون أي قيد قد يواجه المستخدم على أرض الواقع. الثورة في مصر عرفت طريقها نحو الواقع من "فيسبوك"، الذي لعب دوراً مهماً في تحويل قضية الشاب خالد سعيد إلى شرارة لإطلاق ثورة 25 يناير/ كانون الثاني، وهو ما أشار إليه الناشط المصري وائل غانم في كتابه "ثورة 2.0". لكن الحرية بدأت تتراجع حين اعترفت المحاكم بالموقع وصارت الجرائم الإلكترونية ضمن ما تعاقب عليه هناك.
منصة للجيوش الإلكترونية، خلق "فيسبوك" أرضاً خصبة لمجموعة من الأنظمة التي سخرته لخدمة مصالحها السياسية. وكان الجيش السوري الإلكتروني، الذي ظهر إبان الثورة السورية (2011-2012) واحداً من أبرز هؤلاء، حسب ما ذكر بعض المراقبين. فقد شن انطلاقاً من الموقع حرباً إلكترونية، وذلك باختراقات أو إغراق الصفحات بتعليقات مؤيدة لنظام الأسد أو اتهامات بالخيانة للمعارضين. بالإضافة إلى إرسال بلاغات لـ"فيسبوك" بإغلاق حسابات لمعارضين.
انتقادات متكررة!، "انتهاكات خصوصية المستخدمين، تسريب البيانات وإمكانية استغلالها من طرف الاستخبارات، فضلاً عن نشر مواد تدعو إلى العنف والكراهية والتمييز..." كلها انتقادات وجهت لـ"فيسبوك". لكن كريس هيوز، المتحدث الرسمي باسم الشركة سابقاً، رد على هذه الانتقادات بقوله: "لم نقم من قبل مطلقاً بتزويد أطراف آخرين بالبيانات الخاصة بمستخدمي الموقع، ولا نعتزم القيام بذلك على الإطلاق"، حسب ما تناقلته عدة مواقع إلكترونية.
دعاوى قضائية متعددة، رفعت العديد من الدعاوى القضائية ضد "فيسبوك"، كما رفع هو الآخر ضد مستخدمين. كان أول الدعاوى ضد الشبكة عام 2004، إذ اتهمت شركة "كونكت يو" مارك زوكربرغ بسرقة الأفكار التي وضعوها حول الموقع واستخدام الكود الرئيسي الخاص بهم. كما رفع الموقع هو الآخر دعوة ضد ضد آدم جوربوز، وحصل على تعويض قيمته 873 مليون دولار.
إخفاق كارثي، مسألة الحصول على بيانات المستخدمين جعلت "فيسبوك" محط محاسبة في مرات كثيرة؛ آخرها يوم 20 مارس/ آذار 2018. فقد دعت لجنة من المشرعين البريطانيين من مختلف الأحزاب رئيس "فيسبوك" إلى تقديم تفسير بخصوص "إخفاق شركته الكارثي" في حفظ البيانات الشخصية. كما قررت السلطات البريطانية التحقيق بشأن شركة "كامبريدج أناليتيكا" البريطانية، التي اتهمت بحيازة غير قانونية لمعطيات مستخدمي الشبكة.
"خريف رقمي؟" .. فيسبوك من محفز للثورات إلى أداة بيد السلطات
الفضيحة الجديدة التي هوت بثروة مؤسس شركة فيسبوك، مارك زوكبرغ، إلى خسائر تجاوزت تسعة مليارات دولار في ظرف 48 ساعة، بدأت عندما صرّح عامل سابق في الشركة البريطانية "كامبريدج أناليتيكا" أنه جمع لصالح هذه الأخيرة ملايين البيانات الشخصية عبر الاستعانة بتطبيق اسمه "هذه حياتك الرقمية". قام أستاذ لعلم النفس بتطوير هذا التطبيق الذي استعمله الكثير من مستخدمي فيسبوك، وأتاحوا له الوصول إلى معلوماتهم الشخصية، وفق ما أكده مسؤول في فيسبوك، إذ قال إن الأستاذ برّر تطوير هذا التطبيق بأهداف عملية بحتة، لكن تم لاحقاً تمرير البيانات الشخصية إلى الشركة البريطانية وأطراف أخرى.
حاول فيسبوك تصحيح ما جرى بحديثه عن أنه علم بوقوع هذا الانتهاك عام 2015، واتصل بالشركة لأجل أن تقوم بحذف البيانات التي حصلت عليها، لكنه تلّقى مؤخراً تقارير تفيد أن البيانات لم تُحذف. "كامبريدج أناليتيكا" نفت أن تكون قد استخدمت البيانات في الخدمات التي قدمتها لدونالد ترامب خلال الحملة الانتخابية. لكن هذه التوضيحات لم تنفع في الحد من حملة واسعة تنادي بحذف فيسبوك، كما وجه الكونغرس الأمريكي والبرلمان الأوروبي ومجلس العموم البريطاني طلباً لإدارة فيسبوك بالرد على الاتهامات.
تعدّدت التقارير التي ربطت بين استغلال حكومي لبيانات مستخدمي فيسبوك، خاصة بعد ارتفاع شعبية هذا الأخير بدءًا من عام 2010. جوليان أسانغ، صاحب موقع ويكيلكيس سَبق له أن وصف فيسبوك عام 2011 بـ"أكبر آلة تجسس مرّوعة اختُرعت على مدار التاريخ"، إذ صرّح في حوار له مع "روسيا اليوم" أن مستخدمي هذا الموقع يُقدمون خدمات مجانية للاستخبارات الأمريكية التي تستخدم قواعد بياناتهم، لكن أسانغ لم يتهم فيسبوك بالعمل لصالح الاستخبارات، بل أشار إلى أن هذه الأخيرة تملك القدرة على الوصول إلى بيانات المستخدمين، وأنها تمارس لأجل ذلك ضغطاً قانونياً وسياسياً كبيراً.
لم يأتِ إطلاق لقب "ثورات فيسبوك وتويتر" على ما عُرف بـ"الربيع العربي" من فراغ، فلولا الشبكات الاجتماعية ما توّسعت دائرة المحتجين وما وصلت نداءاتهم إلى جمهور أكبر وما تواصلوا مع كبريات وسائل الإعلام العالمية. صحيح أن الاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان وغياب العدالة الاجتماعية كانت العوامل الرئيسية في خروج الآلاف إلى الشوارع، لكن الشبكات الاجتماعية لعبت دور الوسيط والمهيّج في الاحتجاج، بل إن تقريراً لمعهد السلام في الولايات المتحدة عام 2012، خلص إلى أن هذه الشبكات كانت آلية سببية مهمة في الانتفاضات.
لكن الكثير من الأنظمة العربية استطاعت اللحاق بالتكنولوجيات الحديثة بعدما باغتها استخدام الشعوب لها لأجل الاحتجاج ورفع منسوب الوعي بالحقوق الأساسية، فلجأت إلى عدة طرق للدعاية، منها خلق صفحات رسمية وغير رسمية على المواقع الاجتماعية تتغنى بالحكام والمسؤولين الأمنيين والعسكريين والسياسيين المقرّبين من دوائر القرار. زاد من ذلك انتشار صحافة العلاقات العامة التي استغلت الشبكات الاجتماعية للتأثير على الجمهور عبر نشر مواد تضخم إنجازات السلطة، مقابل تبخيس أو حتى التشهير بمن يعارضون هذه الأخيرة.
تطوّر الاستخدام لاحقا، فلجأت جهات داخل السلطة بأكثر من بلد عربي إلى تقنيات متعددة لخلق رأي عام في الشبكات الاجتماعية ضد الآراء التي تنتقد الأوضاع. ومن ذلك "الذباب الإلكتروني" الذي يعني خلق آلاف الحسابات الوهمية عبر طرق برمجية بسيطة. تتكفل هذه الحسابات بنشر تعليقات، تتكرّر من حيث مضمونها، على صفحات المواقع الإخبارية والشخصيات المؤثرة، تتمحور كلها حول مساندة السلطة أو طرف فيها، أو تصفية حسابات سياسية داخل الدولة ذاتها أو على المستوى الخارجي.
كما تقوم هذه الحسابات الوهمية بالترويج لوسم (هاشتاغ) معيّن يخدم مصالح من يحرّكها، حتى يصعد في السلم الأكثر تداولاً، ثم تقوم وسائل إعلام، أغلبها يدور في فلك السلطة، وبعض منها ينشر عن حسن نية، بإنجاز تغطيات عن هذا الوسم باعتباره رأياً عاماً في قضية معيّنة. وفضلاً عن ذلك، تقوم هذه الحسابات بحملات تبليغ واسعة عن حسابات المعارضين حتى يتم إغلاقها. ولم يستطع فيسبوك أو تويتر الحدّ من هذه الحسابات الوهمية، خاصة وأن مطالب بحصر الشبكات الاجتماعية على أشخاص بهويات حقيقية أثارت مخاوف من تقييد حرية التعبير في الإنترنت.
وما يزيد من التحديات المفروضة على فيسبوك وغيره من الشبكات الاجتماعية، هو حديث عدة تقارير أمنية متخصصة عن قدرات السلطة على الوصول إلى معلومات المستخدمين ورسائلهم الشخصية دون الحاجة لبعث طلب إلى الموقع، من خلال توظيف آليات للتجسس واستغلال ثغرات أمنية تظهر في المواقع الاجتماعية من حين لآخر، فضلاً عن ضعف الثقافة الأمنية للكثير من المستخدمين. ثم يأتي استغلال هذه المواقع لسلوكيات المستخدمين ونمط اختياراتهم لأجل اقتراح إعلانات تناسب اهتماماتهم ليرفع من دائرة الشك في عالم رقمي تضيق فيه مساحة الخصوصية.
باستخدام المحتوى المضلل.. أنظمة عربية تستخدم فيسبوك سلاحا!
للمرة الأولى، يعلن فيسبوك عن سلوك مزيف منسق" مصدره بلدان عربية لأجل أهداف سياسية، إذ كشفت الشبكة الاجتماعية وجود حملتين منظمتين، واحدة مصدرها الإمارات العربية المتحدة ومصر، والثانية مصدرها السعودية، ورغم عدم وجود ترابط بينهما، إلا أن الحملتين قامتا بنفس السلوك، حيث أنشأتا مئات الحسابات الوهمية لأجل "تضليل" الآخرين.
الأرقام التي نقلها فيسبوك على مدونته الأمنية تشير إلى حذف 259 حسابا و102 صفحة وخمس مجموعات وأربع أحداث على فيسبوك، زيادة على 17 حساب انستاغرام، تنسق لسلوك مزيف، مصدرها الإمارات ومصر. أما الحملة الثانية التي مصدرها السعودية، فقد استخدمت 217 حسابا و144 صفحة وخمسة أحداث على فيسبوك و31 حسابا على انستاغرام. واتجهت الحملتان إلى عدة دول في الشرق الأوسط وشمال وشرق إفريقيا، منها ليبيا والمغرب والسودان ولبنان وتركيا وقطر.
ويؤكد عدد المتابعين لهذه المنشورات وجود جمهور واسع لهذه المحتوى المضلل، فقد أحصى فيسبوك 13.7 مليون حساباً يتابع واحدة أو أكثر من صفحات فيسبوك الخاصة بالحملة الأولى، فضلاً عن 65 ألف متابع لحساباتها على أنستاغرام. وفي الحملة الثانية، هناك 1.4 مليون حساب يتابع واحدة أو أكثر من هذه الصفحات على فيسبوك، و145 ألف شخص يتابعون حسابات انستاغرام.
ورُصدت أموال ضخمة لأجل ترويج هذه المنشورات، فقد دفعت الحملة الأولى 167 ألف دولار، والحملة الثانية 108 ألف دولار. وأشار فيسبوك إلى شركة تحمل إسم newwave في الإمارات و new waves في مصر كمصدر لهذا المحتوى، بينما تحدث تقرير الموقع ذاته عن أن أفرادا مرتبطين بالحكومة السعودية، هم من يديرون الحملة الثانية. ويعمل هذا المحتوى على دعاية للدول الثلاثة والمتعاونين معها كالجنرال الليبي خليفة حفتر، بينما يشن هجمات منسقة لضرب سمعة تركيا وقطر وجماعة الإخوان المسلمين.
سبق لفيسبوك أن أعلن حذف 2.2 مليار حساب مزيف في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2019، وهو أعلى رقم تعلن هذه الشبكة الاجتماعية عن حذفه في تاريخها. كما سبق لها أن أعلنت حذف حسابات وصفحات للمحتوى المضلل مصدرها إيران، موجهة للعالم العربي ومن ذلك ضرب سمعة السعودية، وموجهة كذلك للغرب وبالأخص الولايات المتحدة. كما حذف فيسبوك محتوى آخر مخالف مصدره الاستخبارات الروسية، وآخر مصدره شركة إسرائيلية.
ويحاول فيسبوك ترميم سمعته بعد تقارير كثيرة أكدت أن هذه الشبكة الاجتماعية أضحت مجالاً للذباب الإلكتروني، ولحملات إلكترونية منظمة هدفها تضليل الرأي العام، خاصة مع استمرار الأخبار الكاذبة التي تجد في صفحات فيسبوك وسيلة للانتشار، فضلاً عن فضائح استغلال المعطيات الخاصة للمستخدمين.
ولا يعود هذا المحتوى المضلّل إلى حسابات وصفحات تنشأ بشكل مفاجئ، بل أحياناً يعطيها فيسبوك الضوء الأخضر، كما حدث في ديسمبر 2017، عندما سمحت الشبكة الاجتماعية ذاتها بإعلانات سياسية تحمل روابط مغشوشة وفيروسات وبرامج ضارة، وفق ما نشره موقع برو بليكا، وحاول فيسبوك أكثر من مرة تشديد الخناق على الحسابات الوهمية، وقام بحملات مؤقتة لأجل مطالبة الكثير من أصحاب الحسابات بتأكيد أنها تعود إليهم. كما ألزم كل من يرغب بترويج إعلان مدفوع أن يثبت هويته، لكن فيسبوك يصطدم كذلك بمواثيق حرية التعبير، وبعدم رغبة بعض المستخدمين الإفصاح عن هوياتهم لأسباب شخصية أو حتى أمنية، خاصةً في البلدان التي تتم فيها ملاحقة من يعبّرون عن آرائهم.
لكن هذه المرة يختلف الأمر، فالاتهام موجه إلى مصادر في بلدان عربية، وتطرح أسئلة حول الطريقة التي سترّد بها الإمارات على هذه الاتهامات، خاصة أن المقرّ الإقليمي لفيسبوك يوجد في دبي، حيث تتم إدارة ما يتعلّق بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويزداد الأمر حساسية مع التغطية الكبيرة التي تقوم بها وسائل الإعلام القطرية للخبر، إذ استفادت كثيراً مما نشره فيسبوك للاستمرار في خوض الحرب الإعلامية التي تسمم الفضاء الصحفي بالمنطقة منذ اندلاع الأزمة الخليجية.
ويدرك المتتبعون أن الحسابات الوهمية المضلّلة انتشرت بشكل واسع في المنطقة العربية، ووصلت إلى بلدان كثيرة بعيدة عن الأزمة الخليجية، وهناك آراء تتحدث عن أن هذا "الذباب الإلكتروني" مرتبط بأجهزة في السلطة، خاصةً مع ما يتعلّق بضرب المعارضين والهجوم على دولة خصم وكذلك محاولة تجميل الأنظمة والدفاع عن توجهاتها في عدد من القضايا. وتنشط هذه الحسابات بقوة في صفحات فيسبوك الخاصة بالمواقع الإخبارية، خاصة منها الدولية، عندما تنشر أخباراً عن الدولة مصدر هذه الحسابات الوهمية.
وتجد شركة فيسبوك نفسها تحت ضغط واسع في المنطقة العربية، فعدد من الأنظمة رأت في هذا الموقع تهديداً كبيرا لوجودها، خاصة أنه لعب دوراً حاسماً في الحشد الجماهيري خلال فترة الربيع العربي، لذلك وبدلا من محاولة إغلاقه، استخدمته هي الأخرى لمصالحها الخاصة، ليس فقط عبر تقوية حضور الإعلام الدعائي الذي بات يستنجد بآخر التطورات التكنولوجية، أو تشجيع المحتوى الزائف، ولكن كذلك لحصار الأصوات المعارضة، إذ يتحدث نشطاء عن تعرض حساباتهم لحملات إشعار منظمة، والهدف إغلاقها أو على الأقل وقفها لفترة محددة.
فضيحة فيسبوك.. الخطر الجديد الذي يهدد الديمقراطية
وكان اللافت في هذا الصدد انتشار لغة الكراهية التي حرضت على المجازر في ميانمار، عبر "فيسبوك"، إلى جانب استخدام الشبكة نفسها في الدعارة والمخدرات، وهو ما كان موضع نقاش بين الفينة والأخرى، إلا أن كل هذا لم يكن كافياً لدفع الأمريكيين والأوروبيين، للشك في "فيسبوك"، إلى أن مسّ الأمر مقدّسَين بالنسبة لهم، وهما مبدأ سرية الحياة الخاصة والديمقراطية.
وراجت اتهامات باستخدام البيانات الشخصية لآلاف من مستخدمي "فيسبوك"، في توجيه عملية التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، إلى جانب استغلالها بالانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016.
وهنا بدأ يُثار جدل كبير في الولايات المتحدة وأوروبا، حول وسائل التواصل الاجتماعي وبالأخص "فيسبوك"، ووصل هذا الجدل إلى مساءلة مؤسس "فيسبوك" ومديره التنفيذي، مارك زوكربيرغ، قبل أيام، في جلسة خاصة بالكونغرس الأمريكي.
ودارت المساءلة حول اتهامات باستيلاء شركة تحليل بيانات تُدعى "كامبريدج أناليتيكا" على البيانات الشخصية لآلاف من مستخدمي فيسبوك، واستخدامها في التلاعب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة.
وهناك 4 عناصر هامة لجلسة زوكربيرغ في الكونغرس: 1- "كامبريدج أناليتيكا"، 2- فسيبوك، 3- مجموعة مواضيع معيارية ذات صلة بالديمقراطية مثل حرية التعبير وسرية البيانات الشخصية، 4- الجلسة بحد ذاتها.
- الجلسة عبارة عن مسرحية
إذا نظرنا لشكل الجلسة، فإنها تشبه اللعبة المنظمة بغرض تمرير أمر ما، حيث مُنح لكل واحد من أعضاء الكونغرس البالغ عددهم مئة، توجيه سؤال لمدة 5 دقائق خلال الجلسة، وتنوعت مواقف الأعضاء بين الاستعراض، وانتقاد مضمون عقد العضوية. إلا أن بعض الأسئلة الموجهة كانت ملفتة وغريبة مثل "ما رأيكم في خطاب الكراهية والتمييز"، وكأن هذه الأسئلة توحي بأن زوكربيرغ و"فيسبوك" جيدان وإيجابيان في حد ذاتهما، إلا أن بعض الأشرار حول العالم، يستغلون ثغرات النظام. المتابع لهذه المساءلة.
وينسى صاب السؤال أن الشخص الذي تتم مساءلته هو رئيس إحدى أكبر مجموعات الاحتكار في العالم، وأنه تم التدخل خارجياً عبر هذه البيانات التي يملكها، في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ويتوهم لوهلة أنه يجري تبادلاً للأفكار مع مفكر ما.
كما أن أسئلة مثل "هل تدعمون سنّ قانون في الكونغرس حول استخدام البيانات الشخصية؟"، توحي بأن زوكربيرغ قوة رابعة تعادل السلطات التشريعية، والتنفيذية والقضائية. إلى جانب كون القضية نفسها معقدة جداً، تزيد العناصر الثلاثة الأخرى من عقدتها وتحولها إلى لعبة خطيرة.
- حرب نفسية وعملية تغيير الإدراك
العنصر الثاني للجلسة، هي شركة تحليل بيانات تُدعى "كامبريدج أناليتيكا". في الواقع، هناك الكثير من أمثال هذه الشركة، ممن تقوم بجمع وتحليل البيانات، وتشكيل أنماط عن الشخصيات، ليتم اقتراح طرق تسويق وفق هذه الأنماط. وتُستخدم هذه الطريقة منذ فترة طويلة في قطاع الإعلانات التجارية.
إلا أن المرحلة الحديثة في هذا الخصوص، تختلف بميزتين: الأولى، أن الاستراتيجيات التقليدية المستندة إلى مؤشرات العمر، والجنس، ومستوى الدخل، باتت قديمة جداً.
وأصبح بالإمكان تشكيل أنماط شخصيات لما هو أبعد من البيانات الديموغرافية، وذلك بفضل وسائل التواصل الاجتماعي. ويسمي الرئيس التنفيذي المستقيل لشركة "كامبريدج أناليتيكا"، ألكسندر نيكس، هذا النوع من التنميط بـ"الرسم النفسي- سايكوغرافيك".
أما الميزة الثانية للمرحلة الحديثة، فهي استخدام هذه الطرق في السياسة ولم يقتصر الرسم النفسي، على إيجاد استراتيجيات للطرق التقليدية للحملات السياسية فقط، بل أصبح بالإمكان تنفيذ عمليات ضد أهداف مصغرة على وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً.
وهذه طريقة فعالة للغاية، لأن الرسالة التي يُراد إيصالها، تظهر أمامنا وكأن موجهها شخص من بيننا، ليبدأ بالتفاعل معنا، وبالعودة إلى "كامبريدج أناليتيكا"، فإن إحدى شخصيات هذه الشركة التي يتواجد مركزها في بريطانيا، هو "ستيف بانون" كبير الاستراتيجيين السابقين للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أما ممولها فهو "روبرت مرسر" أكبر المتبرعين للحزب الجمهوري، والداعمين لترامب.
وتأسست الشركة المذكورة في العام 2013، وهي شركة عملت مع الحكومات والسياسيين في العديد من الدول مثل بريطانيا، وإندونيسيا، وتايلاند وكينيا، وتصف نفسها بالخبيرة في مجالات "الحرب النفسية" و"عمليات تغيير الإدراك"، وبفضل علاقاتها ونجاحاتها، استطاعت "كامبريدج أناليتيكا" تولي دور خلال حملات ترامب الانتخابية، إلا أن تأثيرها على مجريات الانتخابات، لا يزال موضع سر.
انتشار أنباء حول استخدام الشركة المذكورة معطيات شخصية لـ 87 مليون مستخدم "فيسبوك|، حصلت عليها عبر بروفسور ذو أصول روسية من جامعة "كامبريدج"، أدى إلى زيادة تعقيد الأمور، لأنه وبالتزامن مع ذلك، يحقق مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي"، في مزاعم استخدام روسيا شركة تحليل بيانات فيسبوك مشابهة لهذه، وتوجيه بعض الناخبين الأمريكيين خلال الانتخابات الرئاسية، وعلاقة ذلك بحملات ترامب الانتخابية آنذاك.
- هل عالم الإنترنت أوسع من "فيسبوك"؟
العنصر الآخر للحدث، هو "فيسبوك"، يُعتبر غوغل، وميكروسوفت، وآبل وفيسبوك، عمالقة الإنترنت. لكن، هل يُعدّ عالم الإنترنت غير المحدود، أكبر من هذه العمالقة؟، عند النظر إلى الاحتكار، الذي أسسته كل واحدة منها في مجالها، لا يمكن الإجابة بالإيجاب على هذا السؤال، إضافة إلى أن مؤسسيها، يملكون أكثر من نصف حصص الشركة. أي أن كل واحدة من هذه الشركات محتكرة، وفي الوقت نفسه أوتوقراطية.
ووقف هؤلاء العمالقة إلى جانب الدولة الأمريكية، خلال "الحرب ضد الإرهاب" التي أطلقت عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2011. ولم يكن متوقعاً ترك وسائل التواصل الاجتماعي، على حالها أصلاً. فهناك ملياري مستخدم نشط للفيسبوك حول العالم، و214 مليون مستخدم في الولايات المتحدة وحدها.
حتى أن علاقة العديد من الأشخاص بالإنترنت، عبارة عن فيسبوك وما شابهها من التطبيقات الأخرى، فضلاً عن أن الكثير من الأشخاص يتابعون أحداث العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بدلاً من الإعلام، ويعتقدون بصحة ما يرونه ويسمعونه هناك.
لأننا نظن بأن وسائل التواصل الاجتماعي، هي مجالات حرة نحن من ننشئها، ونفصلها كما نريد، في حين ننسى أنه يتم التلاعب بنا في تلك الوسائل، ويتم توجيهنا دون أن ندرك ذلك. لهذا فإن التلاعب والتضليل في هذه المجالات، يكون فعالاً ومؤثراً أكثر.
باختصار، وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة فيسبوك، هي مجالات تساهم في جمع بيانات ملايين الأشخاص، كما أنها متاحة جداً للتضليل والتوجيه في الوقت ذاته، ويستخدم تحليل البيانات الذي تطرقنا إليه سابقاً، للحصول على إيرادات من الإعلانات، ولتشكيل النفوذ. ولطالما كان الأمر متعلقاً بتشكيل النفوذ، فإن السياسة تدخل على الخط بشكل من الأشكال.
- هل يجب أن يكون هناك حدود لحرية التعبير؟
مزاعم تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية التي جرت عام 2016، عبر فيسبوك، تتضمن ما يلي: 1- التلاعب بالإرادة "المقدسة" للناخب الأمريكي، 2- استغلال البيانات الشخصية "المقدسة"، 3- تولي شخص غوغائي ذو ميول أوتوقراطية، منصب رئاسة الولايات المتحدة، 4- جميع هذه الأمور قام بها عدو خارجي.
أي أنه وُجهت ضربة للديموقراطية عبر وسيلة تواصل اجتماعي نعتقد بأنها الأكثر حرية وديموقراطية، بالنسبة لأشباهها. نعم، الديموقراطية هي نظام سياسي يتيح لأعدائه المجال أكثر من اللازم، والمبدأ الديموقراطي الرئيسي الذي يتيح هذا المجال الواسع للأعداء هو حرية التعبير. في الولايات المتحدة خاصة، يتم تقبل أكثر الآراء تفاهة، ضمن إطار حرية التعبير.
لكن، أليست هناك حدود لحرية التعبير؟ هل يمكن للديموقراطيات حظر التعبير عن بعض الآراء، حفاظاً على نفسها؟ إن كان يتوجب ذلك، ما هي الآراء التي يجب حظرها؟ ومن الذي يقرر ذلك وما هي معايير الحظر؟ ما هي أنواع العقوبات التي يجب أن تُفرض في هذا الخصوص؟ هذه أسئلة من الصعب الإجابة عليها.
الجدال حول فيسبوك، يصطدم في نهاية المطاف بأسئلة كهذه. يمكن الضغط على" فيسبوك" ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، لتعديل عقود عضويتها وجعلها أكثر وضوحاً، والتصرف بحساسية بالغة فيما يخص مشاركة بيانات عملائها مع أطراف أخرى، كما يمكن رفع درجة صعوبة نشر إعلانات عبر هذه الوسائل. جميع هذه الخيارات تعتبر سهلة نسبياً رغم كل تعقيداتها. إلا أن التلاعب والتضليل (أو الحرب النفسية وعمليات تغيير الإدراك) سيكون متاحاً ومستمراً طالما وجدت حرية التعبير، عند التفكير في جلسة "فيسبوك" في ضوء العناصر الأربعة، التي ذكرناها، لن نجد هناك سبباً واحداً يدفعنا للتفاؤل. جميعنا نرغب في أن نكون مشهورين، إلا أننا لسنا سوى جزء صغير من البيانات.
عن شبكة النبأ