حركة خارج السرب | الفكر العربي ومفهوم التعدّديّة
الفكر العربي ومفهوم التعدّديّة
2019-05-13 | 1835 مشاهدة
مقالات

بقلم ناجية الوريمي بوعجيلة

مثّلت التحوّلات التي شهدتها المجتمعات العربيّة خلال هذه العشريّة، والتي كشفت عن استمرار التعثّر السياسيّ في إدارة الاختلاف، وجهًا من وجوه الفشل الفكريّ في إحداث أثر جادّ على الوعي السائد بإشكاليّات التعدّد. فقد غلبت على الفكر العربي الحديث نزعةٌ "نضاليّة" جعلته ينخرط في صياغة بدائل إصلاحيّة ذات خلفيّة إيديولوجيّة واضحة، ويساهم في إذكاء الصراع بين مكوّنات المجتمع مبرّرا ادّعاء كلّ منها لأفضليّتها وقدرتها -وحدها- على إيجاد الحلول. ولذلك، لم ترتقِ مقاربتُه لمفهوم التعدّديّة إلى مستوى الطرح الإشكاليّ القائم على مقاربة نقديّة شاملة تسائل آليّات التفكير التقليديّة، وتدفع إلى مراجعة المسلّمات المكرّسة لثقافة مذهبيّة أو عقديّة أو إثنيّة أصبحت في نشاز مع القيم الكونيّة.

ويظهر ضعف الاهتمام بمفهوم التعدّديّة في الفكر العربي، من خلال غياب الدراسات المفهوميّة المخصّصة له، ومن خلال إهماله شبه الكلّيّ في الخطاب المعجميّ العامّ منه والاصطلاحيّ، وهو غياب ساهم بدرجة كبيرة في تكلّس الوعي العربي بالتعدّد، في دلالات "الفتنة" و"الشرّ الذي لابدّ منه"، وفي الشعور بأزمة ضمير من جرّاء التقصير "العربي" أو "الإسلامي" في القضاء على الاختلاف والتنوّع. في المقابل، تطوّرت الدراسات الخاصّة بهذا المفهوم في الثقافة العالميّة، واتّخذت بعدا تجريديّا إنسانيّا لا يمكن التغافل عمّا يحقّقه من نتائج في تفكيك الدوغمائيّات وتأسيس "عقول تواصليّة" تؤمن بالتعدّد والحقّ في الاختلاف. وسنكتفي في هذا المقال، بالوقوف عند مستوى من مستويات هذا المفهوم، رأينا أنّه لا يزال في حاجة إلى تحيين معالجته في الثقافة العربيّة، وهو التعدّديّة منظورا إليها من زاويتي "الهويّة" و"التواصل".

غلب على الوعي العربي بالهويّة تصوّرُها التقليديّ القائم على اعتبار "الذات" المثالَ في ما تعتقد وفي ما ترى وفي ما تمارس، مع اعتبار كلّ "آخر" مغاير لها شكلًا من أشكال الانحراف عن الحقيقة ووجها من وجوه النقص، غير القابلين للتدارك إلّا إذا ما اختفت مظاهر اختلافه، إمّا عن طريق قبوله بالتماهي مع "الذات" أو إقراره بالتبعيّة لها. وفي ظلّ منطق التفاضل هذا، انحصرت العلاقة بين الطرفين في التنافر والعداء اللذين يفضيان إلى الصدام، وفي أحسن الحالات، إلى المهادنة. هذا ما يبدو جليّا في الخطابات المذهبيّة والدينيّة المتداولة، وما يجعلها في نشاز عن مفهوم الهويّة الذي طوّرته الدراسات الحديثة في اتّجاه الإقرار بـ "التاريخيّة" و"الغيريّة". فالهويّة منخرطة في التاريخ بكلّ تحوّلاته ومستجدّاته، وليست معطى جوهريّا ثابتا. ووجود "الغير" المختلف شرط لتعي الذات بهويّتها، من حيث ما يميّزها من خصائص: إذ "تكون الذات ما لا يكونه الآخر"، وبقدر قوّة الوعي به تكون قوّة وعينا بذواتنا. وهذا ما يسمّى بـ'مبدأ الغيريّة' "بمعنى أنّ كلّ طرف في هذه العلاقة التبادليّة، يعترف بالآخر ويعي اختلافه عنه". فننتقل حينئذ من "آخر" خَطِرٍ على الذات، إلى "الذات عينها، كآخر"[9]. ومن شأن هذه الدلالات أن تسير بالوعي بالتعدّد، من منطق إقصائيّ تتقابل فيه الكيانات تقابلَ الجزر المنفصلة عن بعضها البعض، إلى منطق وجوديّ يتحوّل فيه كلّ كيان إلى لازمة من لوازم الوجود والوعي به.

لكن، ما هي سُبُل التواصل بين المختلفين؟ وما هي شروط تحقيق العدالة بينهم؟ وكيف يمكن حلّ الإشكالات الناجمة عن الاختلاف في وجهات النظر وفي المواقف؟

التداول سبيل إلى التواصل بين الذوات المتعدّدة، وضامن لأكبر قدر من العدالة

لا جدال في أنّ الديمقراطيّة هي الحلّ العملي والعادل لمشاكل الاختلاف. وعُدّت في العصر الحديث مقوّمَ الانتظام السياسي "العادل". ولذلك، ما فتئت تحظى باهتمام المفكّرين والفلاسفة في سبيل البحث عن أنجع الآليّات والمفاهيم الضامنة فعلا لهذه العدالة. وأحدث استثمارُهم لمفهوم الحوار تطوّرا دلاليّا مهمّا، نقل الديمقراطيّة من الارتهان بموازين القوى في المجتمع، إلى الارتكاز على التواصل ومنطق العقل والاعتراف المتبادل. فقد مكّن هذا المفهوم من نقد الديمقراطيّة التمثيليّة بما هي معيار "كمّيّ" يُعتَمَد في ترجيح الاختيارات بين المختلفين على التوزيع العدديّ، وأيضا بما هي معيار قد يؤدّي إلى اللّامساواة والتعدّي على حقوق المواطنين من خلال احتكار قوى معيّنة في المجتمع لسلطة القرار. وظهر في المقابل، نزوع نحو الديمقراطيّة التداوليّة بما هي معيار "نوعيّ" يهمّ قوّة الحجج التي يبديها كلّ طرف في دفاعه عن موقفه أو رأيه للوصول إلى وجهة نظر عامّة ومشتركة يعترف بقيمتها وفائدتها الجميع. والتداول هو الذي ييسّر الاتّفاق ويسمح بأن يؤخذ رأيُ الآخر أو الرأي المخالف بعين الاعتبار، لأنّه مفيد ويسهم في تحقيق الصالح العامّ. بهذا المعنى، اعتبر هابرماس Habermas الحوار أساسا للفعل التواصليّ بين مواطنين فاعلين يتشاركون في الحياة العامّة وفي النقاشات الدائرة. فيكون الحوار في هذا المستوى التجسيد العملي للاعتراف المتبادل بينهم ولمزايا التعدّد. وأثرى رولز Rawls مفهوم الديمقراطيّة التداوليّة بما أطلق عليه "التعدّديّة الرشيدة" التي يكون سبيلها التداول وتوسيع زوايا النظر الكفيليْن بإبراز نقاط الالتقاء بين الجميع، والتي تكون محصّلتها مراعاة الخير العامّ وتنظيم المجتمع وفق نظام تعاونيّ تحكمه العدالة. ويرى رولز أن توافق الآراء الناتج عن الاتّفاق يختلف عن التسوية البراغماتيّة التي تفرزها موازين القوى السائدة.

بهذا المعنى، غدا التداول سبيلا إلى التواصل بين الذوات المتعدّدة، وضمانا لأكبر قدر من العدالة، وهو في علاقة وطيدة بالمرجعيّة العقليّة، لأنّها المرجعيّة الجامعة بين الجميع، والتي يمكن أن تمثّل اتّفاقا عليها وعلى ما تؤدّي إليه من اختيارات. أمّا بقيّة المرجعيّات، فهي تظلّ خاصّة بجماعة أو بطائفة، أو بفرقة، أو بمذهب، ولا يمكن أن يسلّم بها الواقعون خارج دائرتها. لذلك كانت هذه المفاهيم الثلاثة: التعدّديّة والديمقراطيّة والعلمانيّة، مترابطة. وترابطها يختزل الشروط التي يمكن أن تبني نموذجا مجتمعيّا عوامل الجمع فيه أقوى من عوامل التفرقة.