حاورته :أورنيلا سكر
قد يكون الالحاد ابرز الظواهر التي يشهدها العالم اليوم على وقع الانسدادات العميقة التي تطال البعد الوجودي والانساني والاقتصادي .فهل تأتي ظاهرة الالحاد مرتبطة بتطور العلمي مما يضع الانسان في اطار من الاغتراب والتوحش والبربرية ينكر فضل الاوائلٍ أم إنها مسألة مرتبطة بحالة فردية بفعل نوازع تأثير الخطاب الليبرالي وثقافة العلمنة الحادة. لقد كان لنا حوار خاص لموقع (أجيال قرن ال21) مع د. سعد كموني حول فلسفة العلمانية والظاهرة اللحادية المنتشرة في مجتمعاتنا وتأثيرها على البعد الانساني حيث يقول د. كموني،”بوصفه إنساناً مؤمناً لذلك، سأختار العلماني الملحد، لأنه يَعدُ باحترام حقّ الاختلاف، أما المؤمن العربيّ بخاصة فهو يعد بأن يحق الحق ويمحق الباطل ويلغي الاختلاف إلا مع الجزية والصغار.”
حاورته: أورنيلا سكر*
نرجو في مستهل هذا اللقاء ان تعرفنا باقتضاب على رحلتكم العلمية والمعرفية ومشاغلكم في ميادين الفكر .
بدايةً ، يشرفني كثيراً أن تلقي عليّ بهذه الأسئلة من العيار الثقيل، فهي تحمِّلني مسؤوليّةً كبيرة تجاه الكلمة في هذا السياق، لسببين على الأقل:
التزامي بما تمليه جدِّيتُكم عليّ من اهتمام، وهذا في صميم أخلاقيات التفكير بالمجتمع ونهوضه، إذْ لا يجوز بأي شكلٍ من الأشكال، الاستخفاف بما يدور في خلدِ أيّ متسائل.
أهميّةُ الموضوع بوصفه نقطةَ ارتكاز في نقد آليات التفكير في مجتمعنا، وبخاصّة التفكير الديني، فهذا يستوجب الدقّة قدر المستطاع.
كلا السببين يدفعانني إلى المسارعةِ بالقول : يسهل إطلاق الموقف ولكن يصعب ترسيخُه على أسس علميّة. كأن نقول مثلا إنّ القرآن يدعو إلى العنف، إنّ القرآن لا يدعو إلى إنهاء العبودية، إنّ القرآن يحقّر المرأة، إنّ القرآنَ لا يتناسب مع زماننا هذا….. إلى مثل هذه المواقف. فهذا الكلام يسهل شعاراً مرفوعاً لمن يريدُ أن يقدّمَ نفسه متمرّداً على المؤسسة الدينية، بحجّةِ أنها تتناقض مع متطلبات الحداثة أو بوصفها داعمة وحاضنةً للتخلف… هذه المواقف شعاراتيّة لا يمكن أن تجعلنا متقدّمين، ولا يمكن أن تخلصنا من أمراضنا التفكيريّة؛ فالمطلوب هو معاينة النصوص المؤسِّسة، وتحليلُها بهدف فهمها وتفهمها، لا من موقع المعادي لها، ولا من موقع المؤمن بها؛ بل من موقع الطالب للمعرفة، والباحث الصبور . وبالتالي نشْر هذه التحليلات ليتفاعل معها العربيّ الجديد، ويتقدّم بها كما تتقدّم به ….
هذه هي معظم الهواجس التي كانت تقلقني منذ زمنٍ بعيد، لم يكن سهلاً عليَّ الاقتناع بأن الله يتقادم، وأن الرسالة التي تحملها الكتبُ السماويّةُ تتقادم. كما لم يكن سهلاً أن أوافق على أن الماضي مقدّس بأشخاصه وبأدبياته وبأحداثه التاريخيّة. ولا يغفل عن الذهن أنّ مغالبةَ التخلّفِ والترهّلِ و العطالة الحضاريّة غير ممكنة ونحن ندير ظهورنا إلى مكونات العقل العربي، نعفي أنفسنا من ترميمها، أو تنَخُّلِها وإعادة ترتيبها؛ وهذا حتّمَ عليّ أنْ أتعلّمَ طرائق جديدةً في القراءة، كما أستعين بالطرائق التي اعتمدها الغربيّون في معاينة نصهم الدينيّ. بات عليّ أن أتقن اللغةَ العربيَّة بوصفها وطناً استوطنته شعوبٌ عدّة، وفي أزمنة مختلفة. فكانت رحلتي العلمية في تأثيث عقلي بما في هذه اللغة العظيمة من كنوز إنسانية، ولفهم منطقها وآلية إنتاج المعنى بها، قصدت ما لدى أمهات الكتب النحويّة والصرفية والبلاغية والبيانية العربيّة،وما لدى دي سوسير ، وشارل بالي ، وجاكبسون وجوليا كريستيفا، وتودوروف، إلى بلومفيلد، وتشومسكي ، وسيرل، إلى بارت وفوكو ودريدا، إضافةً إلى هيغل وماركس وفيورباخ… كما وبالتزامن كان الجاحظ في صلب تكويني العقلي وابن قتيبة وعبد الجبار الهمداني، والخفاجي، والخطابي، والجرجاني……
تأسيساً على هذه القراءات ، واستجابةً لتحديات الواقع، والتزاماً مني بضرورةِ العمل في سبيل النهوض بإنساننا، كانت لي جملةُ أعمالٍ منها:
“الطلل في النص العربي”، دراسة تتناول اللحظةَ الطللية في النص بوصفها مظهراً للرؤية العربية، كيف يرى العربيّ الأشياء، أو كيف تبدو له الأشياء؟؟؟؟
“العقل العربي في القرآن” دراسة تبحث عن اهتمامات الإنسان العربيّ من خلال دراسة النص القرآني بالتحليل اللغوي.
“الخطاب القرآنيّ” يتناول القرآن الكريم مرجعيّةً للعمل النهضوي، في محاولة تحليلية لأسباب النجاح والفلاح وأسباب التعثر الحضاريّ راهناً. لماذا نجح محمّد ومن قبله إبراهيم وموسى وعيسى، ولم ينجح النهضويون في القرن العشرين؟
“العلمنة والأسلمة، نعم ولكن” مناقشة حجاجية لبعض أفكار جورج طرابيشي تتوخى الحد من التطرف العلماني بمواجهة التطرّف الديني.
“آيات الجهاديين” تحليل أسلوبي دلالي تداوليّ للآيات القرآنية التي احتج بها المتطرفون، بمحاولةٍ مني لانتزاعها من براثن التفسير القاصر والتاريخيّ.
وأعمل الآن على دراسة الآيات القرآنية التي دأب المسلمون على الاحتجاج بها أنها تصريح من رب العالمين لسبي النساء وشرائهن وبيعهن وافتراعهن،” ما ملكت أيمانكم”، وأرجو أن أكون على خلاصةٍ مختلفة.
قرأنا لكم الكثير من المؤلفات القيمة والجديرة بالقراءة، ودراسات حول نقد الفكر الديني، ما الذي توصلتم اليه من آراء وقناعات وانتم تعاينون المشهد المعرفي في الغرب على مدى سنين طويلة من الدرس والاختبار ومقاربته بالمجتمعات العربية_الاسلامية ؟
شكراً لاهتمامك، أنت على صواب لم يكن الهدف عندي إلا أن أصل إلى قناعةٍ يصح السكوت عليها. لا أخفيك سراً إذا قلت لك، إنّ التفكير بالدين لم يكن من أجل الدين نفسه، والإصلاح الديني ، لا يتطلبه الدين نفسه، بل مرارة الواقع، وكثرة الضغوط على الفتى والفتاة في مجتمعنا، واللجوء إلى استقواء الأولياء علينا بأنّ ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، كانت وراء التفكير الديني، “هيك الله بدّو” طيب، لماذا أراد الله لنا هذا القصور أو المرض الحضاري، وأراد للآخرين هذه العافية الحضارية؟ ما المطلوب؟ أن نصلي! أن نصوم! أن نغضب لله فنقتل الذين لا يؤمنون كما نؤمن؟ لماذا لم يطلب كل هذا من الغربيين؟
أسئلة ساذجة ، ولكنها ذات دلالة كبيرة، وبالنظر إلى تجارب الغرب في مسيراتهم المختلفة نجد أنهم كانوا يعانون من العقول المتكلسة، والنزاعات الدمويّة الرهيبة، والأفكار الإلغائية.. وجدت أنّ الغرب لم يستطع مغالبة جراثيم الكراهية في ثقافته إلا من خلال القضاء على الأمّية، الأمر الذي أدى إلى ثورات علميّة أثرت تأثيراً بالغا في تحوّل الناس عن التبعيّة للكهنة إلى الاستقلال فكانت العلوم الإنسانية في مواجهة العلوم الكنسية ، وقد كسرت احتكار المعرفة . طبعاً إضافةً إلى الكشوف العلمية الكبيرة، ما غيّر نظرة الإنسان إلى الأرض والسماء والنجوم، وكذلك نظرته إلى نفسه. يتساءل جورج طرابيشي هل حصل كل هذا في الغرب لأنه مسيحيّ كاثوليكي؟ ويجيب لكنه قد حصل تحوّلٌ في تركيا على يد أتاتورك ولم يكن مسيحيا ولا تركيا مسيحية، إذن ما الذي يجب توافره عندنا حتى نغالب انسدادنا الحضاري.
حصل الغرب نتيجة نضال أبنائه بدأب ومثابرة ومصابرة على أمرين يشكلان أساساً لأيّ عمل نهضوي ، أو لأي تحوّلٍ حضاريّ، هما الحرية والعلم. وهذا يعني إعلاء شأن الإنسان فوق كل شأن. نحن في مجتمعاتنا نعرف ذلك ولكن يحسبون كل محاولة للخروج على القداسة المربكة كفراً وهذا أهم عائق أمام كرامة الإنسان، الآخر يحدد من أنت وكيف يجب أن تكون، ولا يمكن لك أن تجيِّشَ أبناء وطنك للدفاع عن أرضك في مواجهةِ معتدٍ غاشم إلا بتحشيد التاريخ وأشعاره وسيوفه. والسبب في ذلك هو أن العلم عندنا سبب للارتزاق وليس سببا للمعرفة. وهذا يحتاج إعادة النظر بالتوجيه وبالمدرسة، والصحيفة، والعمل الحزبي…. إنه لمعيب جداً أن يقف الإنسان أمام لوحةٍ تشكيلية رائعة، فيسأل عن سعرها ومقدار الربح الذي سيجنيه الفنان. ويقال كان بارعاً في تسويق لوحته….
أنا مقتنع بأن هذا سينتهي، فالتطرف الديني أعطى أفضل ما يمكن أن يعطيه، وبلغ منتهى قممه، ولم يستطع أن يقنع الناس بأنّنا أفضل من الغرب. ولا يعني هذا أنّ الإلحاد هو مستقبل الأجيال القادمة، لا أرى هذا بل أرى أنّ الوعي سيزداد، والعلم سيستقيم ، وبالتالي سيتغير سلوك الناس، وتتغير القوانين التي تحفظ شيئاً من حقوقهم.المشهدُ الغربيّ الآن يقدّم لنا حيويّةً في التفكير الديني لا يستهان بها، وإنْ دلّت على شيءٍ إنما تدلُّ على أنّ القيمَ الأخلاقية التي تعطي للإنسان قيمته الإنسانيّة، ضرورةٌ قصوى للحدّ من افتراسيّةِ العلم ولاأخلاقيته. نظرةً عابرة إلى الحوار الذي جرى في جامعة ميونيخ سنة 2004، بين هابرماس والبابا بندكتوس، كافية لاستخلاص ذلك، نريدُ فرصاً كالتي أتاحتها العلمانيةُ للغربيين كي يبدعوا ما يحفظُ حق الإنسان بالعيش الكريم. نعم، من ينظر في الواقع العربي الحالي قد تحبطه المشاهد المقززة لتصرفات القادة والنخب الحاكمة، يحرضون الناس بعضهم على بعض تحت شعارات دينية، ويزعمون أنهم يحفظون كرامة الطوائف…. أتاحت العلمانيّةُ الغربيّةُ للإنسان الغربي أن يكون كما يريد، أن يخطئ ويصيب بحرية، نرى تجاوراً جميلاً بين الإلحاد والإيمان، وهذا ما لا تتحمّلُه النخب الحاكمة في السلطتين الدينية والمدنية، يتداعمون بقوّةٍ وعزيمة حرصاً على تخلفنا وأميتنا وجهلنا، وحرصاً على سلطاتهم وتسلطاتهم. هذه مرحلة مدعومة وستنتهي حتما، فالجامعات مليئة بالكوادر الممتعظة منهم، وكذلك سوق العمل، والأندية ومؤسسات المجتمع المدني، ولن يستمر هذا الإطباق على أنفاس الناس بأوهام ملوك الطوائف. كان المرحوم ميشال عفلق يقول الإلحاد موقف زائف في الحياة، وأنا أضيف الإيمان الوراثي الطائفي موقف زائف في الحياة، ورفضه لا يعني الدخول في الإلحاد.
قد تكون ظاهرة الإلحاد من أبرز الظواهر التي يشهدها العالم، اليوم كيف عاينتم هذه الظاهرة في ضوء ما صدر لكم من دراسات كثيرة ومعمقة في هذا المجال الاجتماعي والفكري؟؟؟
الإلحاد لغةً هو الميل عن الاستقامة ، وبهذا نكون قد فهمنا الكلمة باعتبارٍ إيديولوجي، يحدد أن الاستقامةَ هي الإيمان بالله ، والميل عن هذا الإيمان/ الحق، إلى الإنكار هو الإلحاد.
إذن بعيدا من الإيديولوجيا، نقول إنّ الإلحاد هو الميل عمّا عليه الناس من إيمانٍ قار في أذهانهم، إلى إنكاره.
من هنا يمكننا تسهيلاً للإجابة عن السؤال في علّةِ الإلحاد، أن نرصدَها لدى فئات متنوعة:
فئةٌ تقول بأن هذا الكونَ كتلةٌ متحركةٌ بلا قصد ليس لها بداية ولا نهاية. وهؤلاء حسموا أمرهم معتقدين بأنّ العلم يمكننا من معرفة الأجزاء والتكتلات الكونية مهما صعب تركيبها ومهما بَعُد ذلك في الزمان، فالذي لا يُعرف اليوم يُعرفُ غداً أو بعد ألف ألف. مالوا عمّا هم عليه الناس من الإقرار؛ بسبب الوثوقية التي مكنهم العلم منها.
فئةٌ تقول بأنّ الأسئلةَ العريقة المقلقة: “من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟” لمّا تزل مقلقة. فالأديان لم تشبعهم إجاباتها، ولا الشعر ، ولا الفلسفة. فمالوا عن الإيمان بما آمن به الناس نفوراً من الإجابات غير المقنعة.
فئةٌ تقول بأن إله الأديان بدائيّ ولم يتطوّر مع الزمن، ويعتقدون بأنهم تطوروا فوق ذلك بكثير، فمالوا إلى اعتبارهم الله يحول بينهم وبين المعرفة الحقة، فتبرير وجود الكون وخلق الإنسان كان مقنعاً ذات يوم، وتطورهم لم يعد قادراً على الاقتناع بما اقتنع به الأقدمون. فأغرى بهم الإلحاد أكثر من الإيمان.
وهناك فئة بدت مواقفها انفعاليّة لم تفرّق بين ما يقتضيه الإيمان بالله من سلوك مستقيمٍ وما هم عليه المؤمنون من سلوك مشين؛ فحسبت أن سوء سلوك بعض المؤمنين مردّه إلى النصوص المقدسة. فتنصلوا من تبعات ذلك بميلهم إلى الإلحاد.
ولا شك في وجود فئة تفهم العلمانيةَ إلحاداً وترى بأن المتقدّمين في هذا العالم تقدّموا بسبب تخلصهم من الإيمان بأثر من علمانيتهم، وترى هذه الفئة أنّ مردّ تخلفنا إلى الانخطاف الإيماني الذي يعرقل تحضرنا، واعتقادنا بأن الأولين والتابعين من المؤمنين قد أرسوا أسس الحضارة الصحيحة. وأنكرنا تخلفنا وادعينا التقدم فقط لأننا مؤمنون. وحسبْنا التقدّمَ عند المتقدمين سخافة فهو لا يعدو كونه تقدما مادياً بحتا، ترى المشاكل عندهم بسبب إلحادهم لا تعد ولا تحصى. هذه الفئة هي الأكثر انتشارا والأعلى صوتا في دنيا العرب والمسلمين.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أن علاج هذا الإلحاد بوصفه ظاهرةً مرضيّة، ليس أمراً غير ممكن، بل يتطلب معالجةَ الإيمان بالعلم وتوفير الحرية والعدالة؛ أعرف أنّ هذا مشروع نضالي مرير ولكنه يوصلنا إلى التخلص من كثيرٍ من أمراضنا الاجتماعية والعقديّة، والأخلاقية، والسياسية.
هناك في اوروبا اليوم جدل عميق حول فكرة ما بعد العلمانية وقد اشتغل على هذه الفكرة عدد من المفكرين كالفيلسوف الالماني يورغن هابرماس خصوصا، هل يمكن النظر الى هذه الفكرة كتعبير عن انحسار وتراجع الظاهرة الإلحادية؟؟
طبعاً لا تدلّ على انحسار الظاهرة الإلحاديّة، بل تدل على حيوية المجتمعات الغربيّة، وهذا الأمر لا يمكن أن يُحسمَ في زمنٍ معيّن، أو على يد فيلسوف أو جماعةٍ فلسفيّة، وذاك لأنّ المُقلقَ سيعاود إنتاج نفسه في كلّ مرّةٍ يُتوهم فيها أنّ الأسئلةَ العريقة قد تمّ نسفها بإجابات نهائيّة، سواء كان هذا النسف من الدين أو الفلسفة أو الفنون القولية أو التشكيلية؛ كلها تقدّم قناعاتٍ مؤقتة رهينة الزمان والمكان والعمل، وعندما تضيق هذه القناعات على إنسانيّةِ الإنسان، سيتمرّد مرّةً أخرى، سواء كان التمرّد على الإلحاد أو على الإيمان. فكلاهما بمستوى واحد، لا يكون الإيمان إلا بعد عجز العقل ، وكذلك الإلحاد.وعندما ينهار العقل وآلياتُ إجراءاته، سيكون هناك ضلال، لا نستطيع أن نسمي مظاهره إلحادا ولا إيمانا، بل هذه ارتباكات متراطمة لا بد أن تنتج إجراءات تفكيرية جديدة بآليات جديدة، هي نتاج تفاعلٍ قد يطول وقد يقصر بحسب سياقاته الاجتماعية والسياسية والعقدية… وينجم عنها إيمان آخر وإلحاد آخر. إلى حين من الدهر. وهكذا…
في الختام، هناك من يرجع ظاهرة الإلحاد في المشهد الثقافي الغربي؛ إلى تأثير الخطاب الليبرالي وثقافة العلمنة الحادة كيف تنظرون الى واقع الحال؟؟
جميلةٌ هذه الفكرة، أنه عندما يكون الإنسان حرّاً يميل عن الحق، وعندما يكون مقهوراً يلجأ إلى الإيمان، والاستسلام والتصديق . طبعاً هذا ما يحاول حراس التخلّفِ في مجتمعاتنا أن يشيعوه لتسفيه المطالبة بالحريات ، وهذا الغرب أمامكم، عندما تمّ فصل الدين عن الدولة، وصار يتدخل الإنسان في تطوير القوانين تحت إلحاح الحاجة التي تمليها الحياة المتجددة؛ شاع الإلحاد، ربحوا الدنيا وخسروا الآخرة!!! هذا خطابٌ قاهر، يجب أن يعلم المؤمن أنه مطالبٌ بإعمار دنياه، ومطالبٌ ببناء جنته على الأرض، ولن تكون له عقبى الدار في النعيم ما لم يكن عاملاً ليل نهار في سبيل النعيم الدنيوي، وإلا ما معنى أنّ الله يأمرُ بالعدل والإحسان، مَن المأمورُ بذلك، وأين، وهل العدل هو هو على مرّ الأزمنة، أليس من الضروريّ أن نعرف ارتباط المعاني والدلالات بالعمل والتطور؟ وبخاصةٍ تطور المعارف.
نعم، ليس بالضرورة أنْ يكون ما يصحُّ في مكان يصحّ في آخر، وما يخيب في مكان يخيب في آخر. وهذا ينبّهُ العقول إلى الاستنفار الدائم لاستيعاب الواقع وتناقضاته، والخلوص إلى ما يوفّر الحرّيّةَ مع الكرامة للإنسان.
بوصفي إنساناً مؤمناً بالله، إذا خُيّرتُ في هذه الحال عند صندوق اقتراع بين علماني ملحد ومؤمن، سأختار العلماني الملحد، لأنه يَعدُ باحترام حقّ الاختلاف، أما المؤمن العربيّ بخاصة فهو يعد بأن يحق الحق ويمحق الباطل ويلغي الاختلاف إلا مع الجزية والصغار. طبعاً لا حل لهذه الإشكالية عن طريق الاستتباع للآخر سواء كان الآخر ماضياً أو محايثاً ومزامناً ، بل يتطلب الفهم والتفهّم للتناقضات في واقع الحال، والانطلاق من قاعدةِ الإقرار بأنّ الحريّةَ هي التي تسمح لنا بأن نخطئ دون أن نُكفَّر.
أورنيلا سكر *:
باحثة متخصصة في نقد الفكر الديني والعقل العربي-الاسلامي من منظور علم الاستشراق.
عن موقع أجيال قرن 21