الهرطقة في الفكر العربي الإسلامي، تعني البدعة أو الخروج على المألوف والمعتاد. وبتعبير آخر لشكسبير «ليس الهرطوقي من يحترق في النار، بل الهرطوقي من يشعل النار». فالهرطقة بمفهوم الكاتب "هي إحدى السّبل القليلة المتاحة للمقاومة، أو على أقلِّ تقديرٍ للوقاية في زماننا هذا؛ زمان سيادة الأصوليات، والارتداد العربي الإسلامي.
يرد في البداية جورج طرابيشي على خصوم العلمانية قي الساحة الثقافية العربية، والذين يعتبرونها نموذجا لإشكالية غربية ـ مسيحية مستوردة.
مثل المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي يراها عديمة اللزوم لأنها برأيه تعني فصل الكنيسة عن الدولة، والإسلام ليس فيه كنيسة لنفصلها عن الدولة، والمفكر المصري حسن حنفي وغيره الذين يتهمون نصارى الشرق باستيرادهم لهذه الإشكالية تحت أشكال مختلفة مثل الوطنية والقومية والاشتراكية، رغم وجود العديد من النهضويين العلمانيين المسلمين مثل: الكواكبي وقاسم أمين واحمد لطفي السيد وطه حسين وغيرهم. ويرى جورج طرابيشي انه لا يجوز اختصار العلمانية إلى بعدها السياسي الذي يشمل، فصل الدين عن الدولة، بهدف إنشاء دولة تمثل فئات المجتمع كافة وتحمي حرياته. وبكونها تعبر عن مطلب للأقليات بهدف مساواتهم بالأكثرية أمام القانون.
ورغم أهمية هذا الجانب، إلا أن العلمانية هي فلسفة وآلية لتسوية العلاقات، لا بين الأديان المختلفة فحسب، بل كذلك بين الطوائف المختلفة في الدين الواحد، كما حدث في الغرب المسيحي الأوروبي بطوائفه المختلفة الكاثوليكية والبروتستانية، بعد حروب طاحنة استمرت أكثر من ثلاثين عاما. والتعددية في الدائرة العربية الإسلامية ليست محض تعددية دينية واثنية، بل هي أيضا تعددية طائفية.
فالإسلام العربي بواقعه الحالي يتألف من غالبية سنية وأقليات شيعية ونصيرية وزيدية وإسماعيلية ودرزية وإباضية. وبالتالي العلمانية قضية إسلامية ـ إسلامية. وتركيز خصوم العلمانية على البعد الأقلوي المسيحي لإشكالية العلمانية يخفي ما هو أعظم خطورة وفداحة، يراد السكوت عنه، وهو البعد الطائفي الإسلامي، والذي انفجر مؤخرا في العراق، وقبله في لبنان. وهناك خوف من انتشار هذا الانفجار في باقي الدول العربية.
وبعد أن يستعرض المؤلف تاريخ الانقسام الطائفي يبدأ بسرد تاريخ الصراع الطائفي منذ منتصف القرن الرابع الهجري وحتى منتصف القرن السابع زمن سقوط بغداد (1258م) في أيدي التتار معتبرا أن ما يجري في العراق اليوم وما يمكن أن يجري في باقي الدول العربية، لا يدع مجالا للشك في أن الطائفية ليست حدثا طارئا ولا مصطنعا بعامل خارجي، فهي قديمة وان خمدت جذورها أو اتقدت تبعا لتقلب موازين القوى الممسكة بمقاليد السلطة والدولة.
إلا أن هذا السرد، لكي يثبت المؤلف بديهية، أن الإسلام، كباقي الأديان، يضم طوائف مختلفة ومتصارعة، والبحث في الكتب الصفراء، يؤجج نار الحقد والكراهية بين الطوائف، في الوقت الذي بدأت فيه هذه الطوائف على المستوى الشعبي تتجاوز ذلك. وإعادة كتابة المعارك الفتاوى، والفتاوى المضادة، يساهم في نشر ثقافة التيارات السياسية الأكثر تطرفا وعنفا ودموية، رغم النوايا الطيبة للمؤلف بمحاربتها.
ويرى خلافا لأدبيات «المؤامرة الخارجية» التي تؤلف ثابتا بارزا من ثوابت الأيديولوجية العربية المعاصرة، بان الفتن الطائفية الداخلية ليست من صنع الأجنبي، ولا من توظيفه. بل هي التي توظف العامل الخارجي توظيفا فئويا على مذبح ما نسميه اليوم بالمصلحة الوطنية والقومية.
وانه لا يجوز تعليق أمراض الذات على مشجب الغير. بان نعزو انفجار الفتنة الطائفية في العراق اليوم إلى التدخل الأميركي. لكن طرابيشي يحدد دور هذا التدخل بأنه كشف الغطاء عن مرجل المكبوت الذي لا يفتأ يغلي منذ أكثر من ألف عام. وبتعبير آخر: التدخل الأميركي لم يفعل أكثر من أن يقدم المناسبة لانفجار الحرب الطائفية، ولكنه لم يكن هو عاملها على صعيد السببية. وهنا يبتعد المؤلف عن الموضوعية.
لأن الاحتلال الأميركي للعراق فجّر المجتمع العراقي، ولعب على المكشوف في إثارة الفتن بين الطوائف والأقليات ورسخ الطائفية على المستوى السياسي. ليس داخل العراق فقط، إنما على المستوى الإقليمي بين الدول العربية وإيران. كما عمل من قبل على دعم التطرف الإسلامي ممثلا بابن لادن، ثم أعطى لنفسه الصلاحية ليغزو كل من يعارض مصالحه، باسم «الحرب على الإرهاب».
ومن الطبيعي أن يقوم بتوظيف الأقليات الطائفية والاثنية لخلخلة المجتمعات بقصد السيطرة عليها. لأنه من المنطقي أن يقوم الطرف الأقوى «أميركا» بتوظيف الطرف الأضعف «الطوائف والاثنيات». وكما حدث قديما بان التتار هم الذين وظفوا «ابن العلقمي»، وليس العكس، كما يقول طرابيشي.
والسؤال: كيف السبيل إلى تسوية العلاقات المتوترة دوما بين الطوائف ؟
فالديمقراطية القائمة على الوضعية الطائفية والمستندة إلى صندوق الاقتراع لن تحل شيئا، لان الناخبين لن يصوتوا إلا لممثليهم الطائفيين ويظل الانقسام قائما على مفهوم العدو، والأكثرية والأقلية ثابتان لا يتغيران في المنافسة الطائفية إلا إذا تغير ميزان القوى الديمغرافي. بالإضافة إلى أن الديمقراطية المفصولة عن توأمها العلمانية تثير إشكاليات كبيرة تتعلق بالمساواة بين الجنسين، والتي لا تتم إلا عندما يكون مصدر التشريع علماني، لا ديني، أو طائفي.
والمطلوب ليس علمنة الدولة على مستوى السطح، بل أيضا علمنة المجتمع على مستوى العمق. وعلمنة المجتمع، تعني تمكينه من إعادة تربية نفسه ليقبل بشرعية التعدد في الأديان، وبشرعية تعدد الطوائف في الدين الواحد. وليعيد تأسيس جميع الأطراف على الاعتراف المتبادل بحق الاختلاف والتغاير، والاستبعاد الجذري للاهوت نفي الآخر والمختلف.
وفضلا عن علمنة المجتمع، نستطيع أن نتكلم عن ضرورة علمنة الدين. والدين الإسلامي هو أحوج الأديان اليوم إلى الفصل بين الزمني والروحي. العلمانية كما هي الديمقراطية، ليست ثمرة برسم القطف، بل هي بذرة برسم الزرع. ولابد من أن تبدأ من العائلة والمدرسة الابتدائية، بموازاة ترجمتها إلى مادة أساسية في دستور الدولة.
وهذه العلمانية لن يكتب لها النجاح في العالم العربي، ما لم تقترن بثورة في العقليات على المستويات كافة. ففي صندوق الرأس، وليس في صندوق الاقتراع، يمكن أن نشق الطريق إلى الحداثة بركيزتيها الأخريين: الديمقراطية والعقلانية.
العلمانية ليست أيديولوجيا خلاصية، كما يتم طرح الديمقراطية الآن، ومن قبلها الوحدة العربية أو الاشتراكية. إنما هي بحاجة إلى إعادة اكتشاف وتطوير وتكييف في الساحة العربية الإسلامية. ولا تقوم إلا على التحييد الطائفي للدين نفسه.
ينتقل بنا طرابيشي إلى هرطقة أخرى، مفادُها أنّ الإسلام دينٌ عِلْماني، أو ما سمّاه هو بذور العلمانية في الإسلام. فلقد ظلّ هذا اللّفظ يشكّل حالة العداء التّاريخي بالنِّسبة إلى الكثيرينفي عالمنا العربي، خاصّة أولئك الذّين يرون أنّ الإسلام دينٌ ودولة، وليس بينهما أيّ انفصال كما يروّج له أصحاب الطّرح العلماني. فحديث تأبير النّخل وغيره يقف معادلاً للقولة الإنجيلية المشهورة: "اعطوا لله ما لله، وما لقيصر لقيصر". فحديث تأبير النّخل يميِّز بين مستويين من الحياة الإنسانية: الدّنيا والآخرة. فالرّسول بشهادة القرآن كان بشراً، تسرِي عليه كل مقوِّمات الإنسان. وهذا الطرح الذي أكّد عليه طرابيشي، هو نفسُه ما أكّد عليه عبد الوهّاب المسيري بتعبيراته العلمانية الشاملة، في مقابل الجزئية. فالأصل هنا هو التَّمييز بين الرّوحي والزّمني في رسالة الإسلام.
إنّ الإسلام لمْ تطُل رحلته الرّوحية إلا ثلاث عشرة سنة، وبعدها بدأتْ علمنة الدّين. "فالعلمانية فيما تعني: لا فصل السّياسة عن الدين فحسبْ، بل إعطاؤه السؤدد. فإنّ التسييس المبكِّر للإسلام، قد جعل مسْلِمي الصّدر الأوّل يعطون الأولوية في الممارسة العمليّة، على الأقلّ للدُّنيوي على الأخروي. وهذا إلى حدِّ التّطاول على حرمة المقدَّس." (ص 22)والتّاريخ من خلال محطّات كثيرة استعرضها طرابيشي خيْرُ شاهد على هذا التوجّه العلماني في مسار الدين، كحادث سقيفة بني ساعدة وغيره.
يتساءل طرابيشي في إحدى "هرطقاته" عمّنْ قتل التّرجمة في الإسلام، فأوَّل مترجم في الإسلام كان هو زيد بن ثابت، الذي كان يترجم للنّبي بالفارسية والقبطية والرّومية. وكانت أوّل ترجمةٍ في الإسلام، هي حركة تعريب الدّواوين في عهد بني أمية، وازدادت حركة التّرجمة في عهد بني العباس. لقد جاءت هذه الحركة الكبيرة استجابة لحاجة الحضارة العربية الإسلامية، رغبة في تجاوز ذاتها، وسائر الحضارات التي تقدَّمتها. ناهيك عمّا سمّاه طرابيشي بالعامل المذْهبي، أو الإيديولوجي بالتّعبير المعاصر (ص42). غير أنّ التّصفية الفعلية والإبادة الممنهجة لحركة التّرجمة بدأت تحديداً مع تصفية الإرث الاعتزالي، ومن ثمّ النزعة العقلية في الإسلام.
بعد التّرجمة يثير طرابيشي مسألة الفلسفة الإسلامية، ويبدأ بتقرير مفاده عدم وجود فلسفة إسلامية معاصرة، وإنْ وُجدتْ فهي لا تعدو أنْ تكون مترجمة، أو مولَّدة بواسطة الترجمة.
بعد الانتهاء من تعرية فكرة الجابري القاضية بعدم حاجة العالم العربي إلى العلمانية، ينتقل طرابيشي لمناقشة أحد رموز الفكر العربي ألا وهو حسن حنفي، ويتّهمه أيضاً باستعمال مبدأ المنشار كبديل عن التّفكير. فهذا الأخير أيضاً يقول إنّ الإسلام لا يحتاج إلى علمانية غربية. لقد كانت هذه الدّعوة مبنية على أنّ العلمانية منتوجٌ غربيٌّ، إضافة إلى أنّها كانت صناعة مسيحية، على اعتبار أنّ من حمَل لواءها والدعوة إليها همْ مجموعة من المسيحيين العرب. وهو ما يحمِل حسب طرابيشي مجموعة من المغالطات
وعن إشكالية الحداثة والتراث، يرى طرابيشي أنّ الذّات العربية تعاني من جرحٍ نرجسيٍّ،ّ يكشف عنه بالمقارنة مع باقي الجروح التي عانى منها الإنسان.ثقافة ذات، اكتشفت على حين غرّة في مواجهة ثقافة الآخر بأنّها بلا ثقافة...وهكذا يكون الجرح الأنثروبولوجي قد اعتمل على مستوى قطيعتين: قطيعة العرب عن حاضر الغرب، وقطيعتهم عن ماضي العرب أنفسهم.
في هرطقته عن اختراع أوروبا يعالج طرابيشي مسألة الحداثة، ويطرح التساؤل التالي: هل أوروبا هي التي اخترعت الحداثة أم الحداثة هي التي أوجدت أوروبا؟. سؤالٌ يبدو صعباً في تفكيكه، وصعوبته تزداد في عدم القدرة على الفصل بين ثنائية الحداثة وأوروبا، فأوروبا صنعتْ الحداثة، والحداثة أيضاً صنعتها. والعوامل التي ساهمت في هذا التّشكيل ثلاثي الأبعاد: ثورة التّعليم ومحو الأمّية (ألمانيا)، الثّورة الصناعية (إنجلترا)،إضافة إلى هذه العوامل، نجد مسألة الإصلاح الدِّيني التي قام بها مارثن لوثر، وعرفتْ باسم البروتستانتية. فالهدف من هذا التوجّه الديني والحركة الإصلاحية هو إلغاء الاحتكار الكهنوتي للدِّين، فهي تؤكِّد من جهة على مساواة وحريّة البشر فيما بينهم، ومن جهة أخرى تؤكِّد على خضوعهم لله، وعبوديتهم له في شِقِّها الميتافيزيقي. وهذا هو مكمن الاختلاف بينها وبين الكاثوليكية التي تؤكّد على الخضوع البشري لسلطة الكنيسة والكهنوت، وخضوعهم لله في الوقت ذاته.
في النهاية كلّ فكرٍ يحرّض على الإبداع، والعطاء، والخلْق، هو الذي يحمِل بوادر الإنسان واستشراف المستقبل. وتلك هي وظيفة هذه الهرطقات.
مؤمنون بلا حدود(بتصرف)