حركة خارج السرب | الطائفة في لبنان تجاوزت الدولة
الطائفة في لبنان تجاوزت الدولة
2019-04-13 | 1682 مشاهدة
مقالات

بقلم :الكاتب والصحفي أبو الخير شاهين 

في علم الاجتماع هناك مفهوم (الفجوة الحضارية) وهي تعني أن المأزق الذي تعاني منه المجتمعات المتخلفة هو الاستفادة من منجزات التطور العلمي والتكنولوجي الوافد ..والذي امتلكته بمقدراتها المالية لايتناسب مع مستوى التطور الثقافي والفكري الذي تتميز به هذه البلدان ..لذا لم يحدث تغير ولا تطور على صعيد تنامي البنية العقلية والوجدانية والسياسية لهذه الشعوب ..بل هذا ما خلق شكلاً من ارتجاج قيمي ..أدى إلى حالة عدم التوازن ..فتسعى التشكيلات الاجتماعية هنا لترميم هذه الفجوة بملئها بما هو جاهز وسهل ..ومتوافد من الماضي بشكل مشوّه لأنه يتعارض مع واقع متطور وحداثي ..وهذا يشمل التناقض الأخلاقي والقيمي بين ما يطرحونه من قيم موروثة وبين ممارسة هذه القيم سلوكياً ..ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى عنف عقائدي وفكري..كَحَلّ.. لاواعٍ... واستثمار ..الدين براغماتياً أحد أخطر هذه التجليات .

ان مهمة الإنتقال الى الحداثة بأبعادها الثقافية والسياسية التي تتمثل بالدولة المدنية في لبنان من أصعب المهام بحكم توغل العقل السلفي بادارة البلاد وحملها للعودة الى الماضي كأمر لا بد منه في مواجهة تحديات العالم الجديد.

فباتت النزعة الطائفية في لبنان من الثوابت التي تشكل نهج الحياة اليومية للأكثرية الشعبية التي تأنس بها وتعتبرها المرجع الأول في تدبير شؤونها وانتمائها للأمان المركب بالأساس من تكتلات وعصبيات مضطربة ومتضاربة حول الحصص والنفوذ والأحجام .

ليس من السهل التعاطي مع الحداثة في هذا النطاق المعقد ولو من الزاوية النظرية التي تفهم من قبل المتلقي أن ذلك اقتباس يغلب عليه طابع (التنظير والثرثرة) اذا صح التعبير. والمفارقة الملفتة أن االكل موافق على الحداثة بشرط أن يصيغها وفق تركيبته الطائفية والسياسية لتأتي النتائج نزاعا يفضي في معظم الإحيان الى خلاف فكري يأنس به اللبنانيون ويعلمون أنه يفضي الى حروب أهلية حول الحصص والنفوذ والمراكز في الدولة والوظائف والثروة ويقود بالنهاية الى صيغة مبتكرة للدولة (منتج لبناني اسمه الديمقراطية التوافقية).

وكما الحصص في الرخاء والبحبوحة في هذا البلد المريض تكون كذلك في النزاع والحروب والتخلف والفقر. وهي نفسها أيضا في الثراء الغير مشروع والفساد الذي بات من تقاليد أصحاب القرار وحنكتهم السياسية والذي تفشى كنقطة الزيت على الواقع الشعبي الذي بات مقتنعا بضرورة ممارسة الفساد كقيمة اجتماعية تندرج تحت عنوان (الشطارة) الى أن ذهب اللبنانيون بحكم هذا المنتج.

السياسي المسمى بالصيغة الفريدة لإسقاط كافة القيم القديمة والجديدة معا التي من شأنها حماية المواطن والوطن من آفة هذا الفساد.

لقد تعود اللبنانيون على هذا النمط السياسي الذي يعتبرونه قدرهم المحتوم ، والمؤسف أنهم يرون فيه لبنان البلد الأكثر انفتاحا وتقدما في محيطه العربي، واهمين أنفسهم بأن التعددية التي يتغنون بها والماضي الذي يجترونه هو حالة حضارية يتفرد بها لبنان وأن حركة الأختلاف هذه من خصائص المجتمع اللبناني وتميزه الحضاري.

ويعود هذا العيب لتركيب هذا المجتمع بالأصل من طوائف ومذاهب اتفقت منذ البدء على التعايش المشترك في دولة مشتركة أشبه ما تكون بالشركة المساهمة، يوم كان الجميع ليسوا بحاجة للدولة والنظام مكتفين بنظامهم العشائري المذهبي الذي كان ينمو برعاية المقاطعات التركية . وقد فشل اللبنانيون بعد ذلك ببناء دولة تكون لفريق واحد اسمه الشعب اللبناني.

مثل هذه الإشكالية (المشكلة) التي عايشت تاريخ لبنان وحاضره تجذرت في العقل اللبناني واحتلت مكانة رفيعة في التفكير السياسي والثقافي لتنتج فيما بعد قيادات سياسية من رحم هذا الصراع القبلي الذي كرسته الأعراف والوثائق التي تحولت بحكم غياب المشروع الوطني الى قوانين . من وثيقة 1943 بالإضافة الى قانون الإنتخابات الذي يرفضه الجميع ولا بديل عنه، مع تعاظم الشعور الطائفي، الى اتفاق الطائف الذي خرب صيغة الحكم واجهز على سيادة القانون بتعديل الحصص الطائفية ليكرس الطائفية من جديد بشكل اوسع واعمق.

الأمر الذي أدى الى نشوء دولة ضعيفة مضطربة دائما تتغنى بصيغة التعايش هذا لإخفاء عيوبها المتعددة. في معادلة خطرة اذ أن الطائفة باتت وحدة متماسكة تفوق تماسك السلطة.

اما الدولة وحدات مجزأة مركبة لا تستوي الى مستوى الطائفة من جهة الولاء والتقدير والإحترام. لذلك نجد اللبنانيين جميعهم بكل فخر واعتزاز يقدمون انتماءهم الطائفي على الوطني وكلهم يحلمون بالخروج من المأذق الثقيل الى الوطن المستحيل.

الدعوة الحقيقية الى الدولة العلمانية في لبنان تعني انقلابا على هذه الثقافة وهذه السياسة ومخلفات التاريخ الذي نتغنى به على انه مفخرة وعزة، وهو بالواقع حروب اهلية وصراعات مذهبية ما زلنا نعتبرها المرجع الحضاري لبلد لم يعد يحتمل هذا الغباء بقراءة التاريخ .

. فالكلام الإنشائي السياسي الذي لايزعج أحدا حول الوفاق والحرص على تجنب الصراع الداخلي من وجهة نظر المثقفين والسياسيين على حد سواء من شأنه أن يؤجل الصراع ويقذف كرة النار الى الأمام ، الا أنه لا يبني وطنا ودولة، بل يبني جمهورا بمثابة القطعان التي يقودها الراعي الى حدفها. والتعددية التي يريدون بعثها بعد موتها ودليل موتها ما نحن عليه اليوم، ما هي الا كذبة نتناقلها جيلا بعد جيل .

كلنا يعلم أن السيادة وحدها للدولة والإنتماء وحده للوطن، والقانون وحده يبني انسانا متساويا مع الآخر ومع نفسه، وكلنا يعلم أن مثل هذا التساوي لا يحصل على طاولة الحوار والمفاوضات بين قوى طائفية متناقضة بالجوهر وليس بالشكل،وتعترف بضرورة الحوار لتأجيل الإنفجار فيما بينها لا أكثر.

وأي خلل في تقسيم الجبنة تلجأ القوى السياسية هذه بواسطة أبواق الإعلام الطائفي الذي تملكه لتجييش الناس وحقنها بالعداء للآخر لإعادة التوازن الهش . ومثل هذا النظام يبدو بكامل قبحه خلال مواسم الإنتخابات، وفي كل مرافق الإتصال اليومي بالمؤسسات العامة، لحظة يكون فيها المواطن أمام أي موظف في الدولة مواطنا من صنف طائفي معين، مثله كمثل الهندي الأحمر الذين يضع على جبهته اشارة التمييز القبلي بمالا يختلف عن التمييز العنصري.

بحكم هذا الواقع الرديئ تحرر ممثلوا الطوائف في لبنان من التزاماتهم الوطنية والإخلاقية بما يتعلق بالتنمية والبرامج الإصلاحية الخدماتية باعتمادهم المطلق على الخطاب الديني المطاط من قبل طبقة رجال الدين التي تتسع صلاحياتها يوما بعد يوم برعاية رجال السياسة زعماء الطوائف . الأمر الذي جعل الإنتماء الديني ضامن وحيد للطائفة ولممثلي الطائفة الذين باتوا يمثلون الله وبحماية والله.

وبالتالي يندرج تحت هذا المنطق ضرورة الإنتماءات العصبية والعائلية الأخرى على مستوى الإقليات لتنهج نفس النهج. الأمر الذي فتح بالمجال واسعا لخيارات طائفية عصبية عشائرية صغرى تعرف بالأقليات أن تعيش على هامش الطوائف الكبرى وفي كنفها لتكسب ودها وما تيسر لها من فتاة عيش ذليل

ومن ناحية أخرى تجاوزت الطائفة في لبنان حدود الوطن حيث باتت تمد يدها للخارج وتتحرك وفق مشروعها الخاص الذي يخدم الخارج على حساب منعة الوطن وقوته. الى ان وصل بنا الأمر لما نحن عليه اليوم بلد ضائع في متاهات ارتباط طوائفه بالخارج وضياع الهوية .