حركة خارج السرب | (( صلح وَسْتفاليا (( نقطة تحوّل في تاريخ اوروپا
(( صلح وَسْتفاليا (( نقطة تحوّل في تاريخ اوروپا
2019-12-02 | 2275 مشاهدة
مقالات

‏«ان اجتماع هذا العدد الكبير من رؤساء الدول الاوروپية هنا اليوم هو بالتأكيد حدَث استثنائي».‏ تفوه بهذه الكلمات رومان هرتسوڠ،‏ الرئيس السابق لجمهورية المانيا الاتحادية،‏ في تشرين الاول (‏اكتوبر)‏ ١٩٩٨.‏ والاجتماع الذي اشار اليه كان حدثا بالغ الاهمية في تاريخ المانيا العصرية التي كان قد مضى على وجودها ٥٠ سنة.‏ لقد جرى هذا الحدث برعاية مجلس اوروپا.‏ وحضره اربعة ملوك،‏ اربع ملكات،‏ اميران،‏ غراندوق،‏ وعدة رؤساء.‏ فماذا كانت المناسبة؟‏

احتُفِل في تشرين الاول (‏اكتوبر)‏ ١٩٩٨ بالذكرى الـ‍ ٣٥٠ لتوقيع معاهدة صلح وستفاليا.‏ وفي كثير من الاحيان،‏ تشكّل اتفاقيات السلام نقاط تحوّل في التاريخ.‏ ويمكن القول ان معاهدة وستفاليا هي نقطة تحوّل استثنائية.‏ فقد أنهى توقيعها سنة ١٦٤٨ حرب الاعوام الثلاثين،‏ ووسم ولادة قارة اوروپا العصرية المؤلفة من دول ذات سيادة.‏

نظام قديم يتزعزع

خلال القرون الوسطى،‏ سادت اوروپا قوتان عظميان هما:‏ الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والامبراطورية الرومانية المقدسة.‏ وقد تألفت الامبراطورية من مئات الامارات المتعددة الاحجام التي امتدت على مساحة تشغلها حاليا المانيا،‏ الجمهورية التشيكية،‏ سويسرا،‏ شرقي فرنسا،‏ النمسا،‏ البلدان المنخفضة،‏ وأجزاء من ايطاليا.‏ وبما ان الامارات الالمانية شكَّلت الجزء الاكبر من الامبراطورية،‏ فقد عُرِفت هذه آنذاك باسم الامبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة.‏ وتمتعت كل امارة بشبه استقلال ذاتي تحت حكم امير.‏ وكان الامبراطور نفسه كاثوليكيا رومانيا من اسرة هابسبورڠ النمساوية.‏ وبسبب تولّي النظام البابوي والامبراطورية الرومانية زمام السلطة،‏ كان الدين الكاثوليكي الروماني القوة المهيمنة في اوروپا.‏

ولكن في القرنين الـ‍ ١٦ والـ‍ ١٧،‏ تزعزع هذا النظام القائم.‏ ففي كل انحاء اوروپا،‏ ساد استياء شديد من تجاوزات الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.‏ فدعا المصلحون الدينيون،‏ امثال مارتن لوثر وجون كالڤن،‏ الى العودة الى قيم الكتاب المقدس.‏ فلقي لوثر وكالڤن دعما واسع النطاق،‏ وأدّت نشاطاتهما الى نشوء الاصلاح وتشكُّل الفئات الپروتستانتية.‏ فقسَّم الاصلاح الامبراطورية الى ثلاثة اديان:‏ الكاثوليكية،‏ اللوثرية،‏ والكالڤنية.‏

نظر الكاثوليك الى الپروتستانت نظرة ارتياب،‏ وازدرى الپروتستانت بمنافسيهم الكاثوليك.‏ فنجم عن ذلك قيام الاتحاد الپروتستانتي والعصبة الكاثوليكية في مستهل القرن السابع عشر.‏ وانقسم الأمراء الى قسمين:‏ قسم يؤيد الاتحاد وآخر العصبة.‏ وبسبب جوّ الشك والارتياب السائد آنذاك،‏ شابهت اوروپا برميلا من البارود ينتظر شرارة صغيرة ليشتعل.‏ وعندما أُطلقت هذه الشرارة اخيرا،‏ اشتعلت نار الحرب ودامت ٣٠ عاما.‏

شرارة مميتة تشعل نار الحرب في اوروپا

حاول الحكام الپروتستانت ان يضغطوا على اسرة هابسبورڠ الكاثوليكية بغية نيل المزيد من حرية العبادة.‏ فقُدِّمت لهم بعض التنازلات على مضض.‏ وفي السنتين ١٦١٧-‏١٦١٨،‏ أُقفلت عنوة كنيستان لوثريتان في بوهيميا بالجمهورية التشيكية.‏ فاغتاظ أعيان الپروتستانت واقتحموا قصرا في پراڠ وقبضوا على ثلاثة رسميين كاثوليك وألقوا بهم من احدى نوافذ القصر.‏ فكانت هذه الحادثة الشرارة التي اشعلت نار الحرب في اوروپا.‏

ورغم ان اعضاء الاديان المتعارضة هؤلاء هم أتباع رئيس السلام يسوع المسيح كما يُفترَض،‏ فقد كان كل منهم يمسك بخناق الآخر.‏ (‏اشعياء ٩:‏٦‏)‏ وفي معركة الجبل الابيض،‏ مُني الاتحاد بهزيمة نكراء على يد أتباع العصبة،‏ الامر الذي ادّى الى حلّ الاتحاد.‏ كما أُعدم بعض نبلاء الپروتستانت في ساحة پراڠ.‏ وفي كل انحاء بوهيميا،‏ صودِرت أملاك الپروتستانت الذين لم ينكروا ايمانهم واقتسمها الكاثوليك في ما بينهم.‏ يصف كتاب ١٦٤٨:‏ الحرب والسِّلم في اوروپا ‏(‏بالالمانية)‏ مصادرة الاملاك هذه بأنها «احد اكبر التغييرات في المِلكية التي شهدتها اوروپا الوسطى».‏

تفاقم النزاع الديني الذي بدأ في بوهيميا وتحوَّل الى صراع عالمي في سبيل السيادة.‏ وفي السنوات الثلاثين التالية،‏ انجرفت في تيار الحرب اسپانيا،‏ الدانمارك،‏ السويد،‏ فرنسا،‏ وهولندا.‏ وبدافع الطمع والسعي وراء السلطة،‏ قام الحكام الكاثوليك والپروتستانت بالمناورات طلبا للنفوذ السياسي والربح المادي.‏ وقُسمت حرب الاعوام الثلاثين الى مراحل سُمّي كل منها باسم الخصم الرئيسي للامبراطور.‏ وبحسب عدة مراجع،‏ شملت هذه الحرب اربع مراحل هي:‏ الحرب البوهيمية والبلاطينية،‏ حرب الدانمارك وساكسونيا السفلى،‏ الحرب السويدية،‏ والحرب الفرنسية السويدية.‏ وقد جرى القتال في معظمه على اراضي الامبراطورية.‏

اشتملت اسلحة ذلك الزمان على المسدسات والبنادق والمدافع،‏ كمدافع الهاون.‏ وكانت السويد المصدر الرئيسي للأسلحة.‏ وبات الكاثوليك والپروتستانت متورطين في النزاع.‏ وفي ساحة المعركة،‏ كان جنود احد الطرفين يصيحون:‏ «يا قديسة مريم»،‏ فيما يهتف جنود الطرف الآخر:‏ «الله معنا».‏ وكانت الجيوش تسرق وتنهب في طريقها عبر الامارات الالمانية.‏ كما عامل المتحاربون اعداءهم العسكريين والمدنيين معاملة وحشية،‏ فتحوَّل النزاع الى حرب بربرية.‏ كم يتباين ذلك مع نبوة الكتاب المقدس:‏ «لا ترفع امة على امة سيفا ولا يتعلمون الحرب في ما بعد»!‏ —‏ ميخا ٤:‏٣‏.‏

في تلك الحقبة،‏ نشأ الجيل الالماني الجديد في بيئة تسودها الحرب.‏ وسئم الناس من النزاع وباتوا يتوقون الى السلام.‏ لكنَّ السلام لم يكن يتحقق بسبب مصالح الحكام السياسية المتضاربة.‏ ومع الوقت،‏ فقدت الحرب طابعها الديني وطغى عليها الطابع السياسي.‏ ومن المثير للسخرية ان الرجل الذين احدث هذا التغيير هو مسؤول رفيع المستوى في الكنيسة الكاثوليكية.‏

الكردينال ريشيليو يمارس سلطته

كان اللقب الرسمي لآرمان جان دو پْليسي هو الكردينال ريشيليو.‏ وقد شغل منصب رئيس وزراء فرنسا بين العامين ١٦٢٤ و ١٦٤٢.‏ اراد ريشيليو ان يجعل من فرنسا القوة العظمى في اوروپا.‏ وفي سعيه الى تحقيق هذه الغاية،‏ حاول ريشيليو ان يقلّص سلطة اخوته في الايمان،‏ آل هابسبورڠ الكاثوليكيين.‏ كيف؟‏ بتمويل الجيوش الپروتستانتية في الامارات الالمانية وفي الدانمارك والسويد وهولندا،‏ التي كانت بأجمعها في حرب مع آل هابسبورڠ.‏

وفي سنة ١٦٣٥،‏ أرسل ريشيليو الجيوش الفرنسية لأول مرة الى ساحة المعركة.‏ يوضح كتاب ليحيَ السلام ‏(‏بالالمانية)‏ انه في المرحلة الاخيرة،‏ «لم تعد حرب الاعوام الثلاثين نزاعا بين فئات دينية.‏ .‏ .‏ .‏ فقد تحوَّلت الى صراع سياسي من اجل السيادة في اوروپا».‏ فما بدأ كخلاف ديني بين الكاثوليك والپروتستانت اصبح صراعا بين الكاثوليك والپروتستانت من جهة،‏ والكاثوليك من جهة اخرى.‏ وفي اوائل ثلاثينات الـ‍ ١٦٠٠،‏ ضعفت العصبة الكاثوليكية.‏ ثم انحلّت سنة ١٦٣٥.‏

مؤتمر السلام في وستفاليا

كانت اوروپا خربة تقريبا بسبب السرقة والقتل والاغتصاب والامراض.‏ ومع الوقت،‏ شعر كثيرون بتوق شديد الى السلام بعد ان ادركوا ان لا منتصر في هذه الحرب.‏ يذكر كتاب ليحيَ السلام:‏ ‏«في اواخر ثلاثينات الـ‍ ١٦٠٠،‏ ادرك الامراء اخيرا ان القوة العسكرية لن تحقق الهدف الذي يسعون اليه».‏ ولكن كيف يمكن إحلال السلام الذي تاق اليه الجميع؟‏

اتّفق فرديناند الثالث الذي حكم الامبراطورية الرومانية المقدسة،‏ لويس الثالث عشر ملك فرنسا،‏ وكريستينا ملكة السويد على وجوب عقد مؤتمر يجتمع فيه كل الاطراف للتفاوض حول شروط السلام.‏ واختير موقعان لإجراء المحادثات:‏ مدينتا اوزنابروك ومونستر في مقاطعة وستفاليا الالمانية.‏ ويُعزى اختيار هاتين المدينتين الى وقوعهما في منتصف الطريق بين عاصمتَي السويد وفرنسا.‏ وفي السنة ١٦٤٣،‏ بدأ نحو ١٥٠ وفدا يتقاطرون الى المدينتين،‏ واصطحب البعض منهم عددا كبيرا من المستشارين.‏ وقد اجتمع المبعوثون الكاثوليك في مونستر،‏ والمندوبون الپروتستانت في اوزنابروك.‏

في البداية،‏ وُضعت قواعد للسلوك بغية تحديد ألقاب ومراتب المبعوثين،‏ نظام الجلوس،‏ والاجراءات الاخرى.‏ ثم ابتدأت محادثات السلام،‏ وكانت الاقتراحات تمرَّر من وفد الى آخر من خلال الوسطاء.‏ وبعد نحو خمس سنوات كانت خلالها الحرب محتدمة،‏ توصَّل الافرقاء الى اتفاق حول شروط السلام.‏ وقد تضمنت معاهدة وستفاليا اكثر من وثيقة واحدة.‏ فثمة وثيقة وقَّعها الامبراطور فرديناند الثالث مع السويد وأخرى مع فرنسا.‏

مع انتشار اخبار المعاهدة،‏ بدأت الاحتفالات تُقام.‏ فالحرب التي اشعلتها شرارة مميتة،‏ انتهت بالشرار المتطاير من الالعاب النارية التي اضاءت سماء العديد من المدن.‏ ودقّت اجراس الكنائس ودوَّت اصوات المدافع احتفاء بالسلام،‏ كما سُمعت الاناشيد في الشوارع.‏ فهل كانت اوروپا ستنعم بالسلام الدائم؟‏

هل يمكن إحلال السلام الدائم؟‏

اقرّت معاهدة وستفاليا بمبدإ السيادة.‏ وعنى ذلك ان كل الذين وقَّعوا المعاهدة وافقوا على احترام الحدود الجغرافية لباقي الاطراف وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية.‏ فوُلدت آنذاك قارة اوروپا العصرية المؤلفة من دول ذات سيادة.‏ لكنَّ بعض الدول استفادت من المعاهدة اكثر من غيرها.‏

اصبحت فرنسا قوة عظمى،‏ وحازت هولندا وسويسرا كلاهما على الاستقلال.‏ لكنَّ سلبيات المعاهدة انعكست على الامارات الالمانية التي دمَّرت الحرب العديد منها.‏ فقد باتت دول اخرى تتحكم الى حد بعيد بمصير المانيا.‏ تذكر دائرة المعارف البريطانية الجديدة:‏ ‏«خسائر وأرباح الامراء الالمان حدَّدتها مصالح القوى الرئيسية:‏ فرنسا،‏ السويد،‏ والنمسا».‏ وبدل ان تتوحَّد هذه الامارات في امة واحدة،‏ بقيت مقسَّمة كما في السابق.‏ بالاضافة الى ذلك،‏ فقد وُضعت بعض مناطق المانيا تحت سيطرة حكام اجانب،‏ وكذلك اجزاء من الانهر الالمانية الرئيسية:‏ الرين،‏ ألْبَه،‏ وأودَر.‏

اعتُرف بالاديان الكاثوليكية واللوثرية والكالڤنية على حد سواء،‏ الامر الذي لم يُرضِ الجميع.‏ فقد عارض البابا إينوسنت العاشر المعاهدة معارضة شديدة واعتبرها باطلة وغير شرعية.‏ لكنَّ حدود المناطق التي يسيطر عليها كل من هذه الاديان لم تتغير طوال ثلاثة قرون.‏ ورغم ان حرية الفرد الدينية لم تتحقق،‏ فقد غدت اقرب من ذي قبل.‏

أنهت المعاهدة حرب الاعوام الثلاثين،‏ وانتهت معها معظم الاعتداءات.‏ فكان هذا الصراع آخر حرب دينية كبرى في اوروپا.‏ غير ان الحروب لم تنتهِ،‏ بل تحوَّل الدافع اليها من ديني الى سياسي او تجاري.‏ لكنَّ هذا لا يعني ان الدين لم يعد له دور في الاعمال العدوانية في اوروپا.‏ ففي الحربين العالميتين الاولى والثانية،‏ لبس الجنود الالمان احزمة نُقشت على إبزيمها العبارة المألوفة:‏ «الله معنا».‏ وخلال هذين الصراعين المريرين،‏ تكاتف الكاثوليك والپروتستانت معا ليحاربوا اخوتهم الكاثوليك والپروتستانت في الطرف المعادي.‏

فمن الواضح اذًا ان معاهدة وستفاليا لم تحقق السلام الدائم.‏ لكنَّ البشر الطائعين سينعمون قريبا بهذا السلام.‏ فسيجلب يهوه الله سلاما ابديا للجنس البشري بواسطة الملكوت المسياني برئاسة ابنه يسوع المسيح.‏ وفي ظل هذه الحكومة،‏ سيكون الدين الحقيقي قوة موحِّدة،‏ لا مقسِّمة.‏ ولن يشترك احد في الحرب لأي سبب،‏ سواء كان دينيا او غير ذلك.‏ فكم سيرتاح البشر حين يبسط الملكوت سيطرته على كل الارض!‏ فحينئذ ‹لن يكون للسلام نهاية.