حركة خارج السرب | هكذا أقرأ ميشيل فوكو : علي حرب
هكذا أقرأ ميشيل فوكو : علي حرب
2019-06-13 | 2656 مشاهدة
علي حرب
مقالات

بقلم : المفكر د.علي حرب

بعد أكثر من ( 30 ) عاماً على رحيل ميشال فوكو، (1928-1984)، احتفت الأوساط الثقافية، في فرنسا، بهذه الذكرى، بما يليق بفيلسوف وكاتب شغل ساحات الفكر وميادين النضال بأفكاره ومواقفه وسجالاته، طوال مسيرته الفكرية.
تجلّى هذا الاحتفاء، الذي لا سابق له، بنشر ما لم ينشر له من نصوص مكتملة أو دروس جامعية أو أحاديث صحفية، كما تجلى في الكتابة عن فكره وسيرته في معظم المجلات والصحف الأسبوعية والشهرية. هذا فضلاً عن كم هائل من الأوراق التي دوّن عليها المعلومات والمواد الأولية التي استند إليها في تأليف ما ألفه على مدى أربعين عاماً. هذه الوثائق قد وجدت فيها الدولة الفرنسية كنزاً وطنياً، ولذا فقد أصبحت في عهدة مكتبة فرنسا الوطنية.
الحاضر أبداً
يعد فوكو بين فلاسفة فرنسا الأكثر تأثيراً والأقوى حضوراً، كما تشهد نصوصه ومصطلحاته التي يجري تداولها على نطاق واسع، لدى المختصين والقراء عامة، في فرنسا وفي العالم. ولا مبالغة في القول بأننا إزاء مؤلف استثنائي من حيث قوة أثره وانتشار نصوصه. وهو يحضر اليوم أكثر من أي يوم مضى. فكلما حسبنا أننا تجاوزناه يفاجئنا بحضوره في غير مسألة أو قضية.
وهكذا، إذا كان فوكو رحل، فإنه يحضر بجسده الآخر، أعني بنصوصه المميزة والخارقة. فهي أعمال لا تُمحى ولا يَخفى أثرها. كونها تشكل مادة لا تنضب لقراءة ما لم يُقرأ فيها مما هو جديد وثمين؛ تماماً كما أن حياته، بأسرارها وألغازها، تشكل مادة لكتابة ما لم يُكتب عنها مما هو ملغز ومثير. من هنا هذا الفيض من التحليلات والتأويلات أو الاستثمارات والانتقادات التي تخضع لها أو تحظى بها تجربة فوكو الحياتية ومغامراته الفكرية المفتوحة.
الاثر الخارق
يعود الأثر الخارق لفوكو، لكونه أحدث تغييراً جذرياً في المشهد الفكري والفلسفي، سواء من حيث الحقل والمنهج، أو من حيث الأطروحة والعُدّة، فضلاً عما أحدثه من تحول في أسلوب الكتابة وفي طريقة ممارسة الفلسفة.
لقد افتتح فوكو آفاقاً جديدة لعمل الفكر غير مسبوقة، بقدر ما استخدم طريقة مختلفة في التفكير تجددت معها مشكلات الفلسفة ولغة الفهم، بقدر ما تغيرت خرائط المعرفة وعلاقات السلطة. هذا شأن المفكر المبدع، إنه يأتي من مكان نجهله، بقدر ما يأخذنا إلى أفق لم نكن نتوقعه، مجترحاً بذلك إمكاناً لفهم ما كان يستعصي على الفهم أو لفعل ما كنا نعجز عن فعله.
التجربة الوجودية
كان منطلق فوكو في كل ما كتبه هو التجربة الوجودية المعاشة والملموسة، بكل أبعادها العشقية والمعرفية والسياسية والفنية.
والتجربة، بحسب مفهومه لها تنطوي على ثلاثة أبعاد متداخلة ومتراكبة: شكل معرفي يبني به المرء علاقته مع الحقيقة، نمط سلطوي ينظم علاقة الواحد بالآخر، كود (معيار) خلقي يدير به الشخص علاقته بذاته ورغباته. يضاف إلى ذلك بُعد رابع يتناول كيفية تمفصل الداخل مع الخارج، كما يُترجم في أنماط العلاقة بين الوعي والعالم، بين الرؤية والعلامة، بين الخطابات والوقائع.
النص والحقيقة
كسر فوكو التقليد الراسخ الذي كان يتعاطى أصحابه مع المعرفة كنتاج صافٍ للوعي والفكر والعقل والمنطق؛ بقدر ما تعاطوا مع الحقيقة من خلال مقولات الماهية والمطابقة والضرورة…
لقد عاد فوكو إلى ما هو في المتناول، بعيداً عن كل تهويم ايديولوجي أو تشبيح ذاتي أو قطع وثوقي دغمائي..
اذن عاد إلى الأرشيف الذي هو الأثر الباقي، كما يتجسد في ما ينتجه البشر، حول الذات والعالم، ومن بينهم العلماء والفلاسفة، من الخطابات التي لا نهاية لها بمنطوقاتها وتشكيلاتها وأنظمتها…
إشكالية الخطاب
وهو عاد إلى الخطابات، لا لكي يقف على مقاصد مؤلفيها أو لكي يكشف عمّا كانت تريد قوله ولم تقله، ولا لكي يبيّن أين أصابت وأين اخطأت. بل لكي يبيّن عمّا تستبعده بالذات في ما هي تتكلم عليه.
والخطاب إنما ينسى نفسه وحقيقته ويحجب بنيته وسلطته، بقدر ما يخفي كيفية تشكله، أي البداهات التي يتأسس عليها، أو الآليات التي يستخدمها، أو الألاعيب التي يلجأ إليها، أو القوى التي يوظفها. ولا يعود هذا الحجب إلى قصور معرفي أو إلى خلل منهجي. هناك عائق وجودي يحول دون أن يكون خطاب الواحد أداة للتفكير وموضوعاً له في آن.
وتلك هي إشكالية الخطاب: هناك في كل ما نفكر فيه أو نعرفه أو نبرهن عليه، جانب غير مفكّر فيه، يخرج عن نطاق السيطرة ويبقى في دائرة العتمة.
الحفر المعرفي
هذه هي المنطقة التي حاول فوكو اقتحامها بتحليلاته الأثرية الاركيولوجية: الاشتغال على الخطابات بالحفر في طبقاتها وتفكيك بنياتها أو بتعرية بداهاتها وكشف طيّاتها، متجاوزاً بذلك المقاربة الايستمولوجية التي تعمل بثنائية الصح والخطأ أو العقلي وغير العقلي، نحو ثنائية جديدة: المفكر فيه وغير المفكر فيه، كاشفاً بذلك عمّا تمارسه الذات المفكرة، فيما هي تفكر فيه من الصمت والجهل والنسيان، وعما يتستّر عليه العقل فيما يعقله ويستدلّ عليه من ضروب الحمق والجنون واللامعقول…
هذا ما فعله فوكو عندما باشر مشروعه: كتابة تاريخ الأفكار في ميادين الفلسفة وعلوم الإنسان، بدءاً من عصر النهضة حتى نهاية القرن التاسع عشر، مروراً بالعصر الكلاسيكي وعصر الأنوار، وكما تجلّى ذلك بشكل خاص، في كتابه «الكلمات والأشياء» (1966)، ثم في كتابه «أثريات المعرفة» (1969)، وفيه يتناول المنهجية التي استخدمها في الكتاب الأول.
أسفرت حفريات فوكو عن صوغ مفاهيم جديدة، سواء باستخدام مفردات قديمة بمعاني جديدة، أو بِنَحْت مصطلحات جديدة، مثل الخطاب، التدابير، أثريات المعرفة، الممتنع على التفكير، الابستيميه (épistèmé).
أتوقف عند هذا المصطلح الأخير الذي هو مفتاح لفهم الانجاز الفوكوي، والذي هو أيضاً مثار للالتباس والجدال، سواء من حيث مفهومه أو من حيث ترجمته إلى اللغات الأخرى. هذا اللفظ يعني في اليونانية «العلم»، وقد استخدمه فوكو بتوجه جديد، على سبيل إعادة الابتكار، بقدر ما اشتغل على موضوعات جديدة. والمصطلح يتعدى ترجمته إلى نظام معرفي، كما نقل إلى العربية. والاولى ترجمته باستخدام كلمة «حفيرة»1(*). والحفيرة مفهوم مفتوح على تعدد البعد من حيث الدلالة.
يمكن القول بأن مصطلح الحفيرة يعني كيفية التمفصل بين الكلمات والأشياء، بين الخطابات والموضوعات، بين الممارسات الخطابية والممارسات العملية، بين التشكيلات الخطابية وبين الانساق المعرفية والفروع العلمية.
كذلك يمكن القول بأنه وسيط يقع على الحد الفاصل بين ما يخرج في كل فكر عن التفكير ويشكّل قاعدته أو أساسه في آن.
ولذا، فهو الذي يتيح في عصر معين انتظام الخطابات وانبجاس المعارف. أي هو الذي يتيح للافكار أن تترتب وللعلوم أن تتشكل وللعقلانيات أن تشتغل؛ وهو الذي يفسر، أيضاً، كيفية الانتقال من نظام معرفي إلى آخر، أو من حقبة فكرية إلى أخرى.
بكلام آخر، هو الذي يقف وراء الإمكان وعدمه، وهو المسؤول عن الانفتاح والانغلاق، عمّا يُقال وعما يمتنع على القول، عمّا بوسع العلم تصوّره وعمّا يستبعده في ما ينتجه البشر، وسواء تعلّق الأمر بأنساق المعرفة أم بأبنية الواقع.
التشابه والتمثيل
مثال ذلك أن مقولة «التشابه» قد مثّلت في عصر النهضة الأوروبي النظام الغائر أو الصورة الأولى للمعرفة التي وقفت وراء تكوين خطاب الإنسان الذي أصبح هو المركز والمرجع، بقدر ما كان ينظر إلى العالم من خلال مفردات التماهي والتمرأي، وبقدر ما كانت العلامات تعكس طبيعة الأشياء. هنا تكون الاولوية للمعنى على اللفظ وللمدلول على الدال. هنا يتطابق التأويل بوصفه منهجاً مع السيمياء بوصفها علم العلامات.
مع الدخول في العصر الكلاسيكي، عصر ديكارت، لم يتم الانتقال على سبيل التدرّج والتطوّر، بل حدث انقطاع، إذ حلّت محلّ مقولة التشابه مقولة «التمثيل» المركبة، أي قابلية التمثيل لأن يتمثل ذاته، أو كون الشيء الذي يمثل شيئاً آخر يتضمن فكرة التمثيل ذاتها. هذه المقولة هي التي سمحت بنشوء خطاب العقل القائم على القياس والنظام والترتيب. ولذا أخلى هنا التأويل مكانه إلى منهج النقد والتحليل، وحلّت محل فكرة التماهي ثنائية التشابه والتباين في تعريف الأشياء وتصنيفها.
مع الدخول في القرن التاسع عشر، تنهار صورة الإنسان التي ولدت في عصر النهضة وبلغت ذروتها في العصر الكلاسيكي مع مقولة «الإنسان سيد الطبيعة ومالكها»، بقدر ما اخترق مفهوم «التاريخ» كل ما كان الإنسان يخلع عليه طابع التعالي، فيما هو في الحقيقة محايث، ومتغيّر، أو عابر وزائل. أي أعمال لها تاريخيتها ونسبيتها. هذا ما كشفته علوم التحليل النفسي والاتنولوجيا والاقتصاد السياسي والألسنية الحديثة.
المعنى والمنظومة
من الامثلة الأخرى أن الانتقال من علم النحو إلى الالسنية الحديثة لم يكن ممكناً لولا تغير حفيرة المعرفة الأولى، أي الانتقال من مقولة «المعنى» إلى مقولة «المنظومة»، تماماً كما أن الانتقال من مقولة «الوظيفة» إلى مقولة «المعيار» هي التي أتاحت التحول من علم الحياة إلى علم النفس، وأن الانتقال من مقولة «الصراع» إلى مقولة «القاعدة» هو الذي أتاح الانتقال من تحليل الموارد إلى علم الاقتصاد.
هنا يُثار السؤال: ما هو هذا الشيء أو العنصر أو المبدأ أو الجذر الذي يملك كل هذه القدرة العجيبة على التوصيف والتصنيف أو على الشرح والتفسير أو على الفهم والتشخيص، في كل ما ينتجه الإنسان، بوصفه كائناً يتكلم ويعرف أو يرغب ويعمل، من تدابير تشمل الخطابات والمعارف والمؤسسات والقوانين والاجراءات الإدارية والانشطة المدينية.
ما وراء الذات
إذا عدنا إلى فوكو، نقف على غير تعريف لمصطلح «الحفيرة»، كما يحاول شرحه في ثنيات دراسته وطيّات خطابه:
– فهو صورة، ولكنها ليست مجرّدة، وإنما هي متجذّرة في أرضها أو تربتها التي تشكل شرط إمكانها.
– وهو أصل أو أساس، ولكنه دوماً متوارٍ، ولا يمكن القبض عليه.
– وهو مبدأ قبلي يسبق أي معرفة ولا يعرف بذاته، ولكنه ليس متعالياً بل تاريخي ومحايث.
– وهو شكل، ولكنه ليس بمثابة روح عصر أو بداهة تتحكم في كل الخطابات والانساق، أو نمط عقلاني يخترق كل المعارف، بل حقل كثيف ومفتوح لا ينضب من العلاقات المتشابكة بين الممارسات الخطابية والاشكال المعرفية. ولذا هو لا يقرأ بمفردات الأنا المتعالي أو سيادة الذات، ولا بمفردات التدرّج والتقدم، بل بمفردات الانفصال والقطيعة والتفاوت والاختلاف والعتبة…
– هنا يحضر السؤال حول عمّا إذا كانت الحفيرة الاثرية هي بنية، خاصة وأن فوكو، قد صُنّف بين أعلام البنيوية. لا شك أنها بنية، ولكنها بنية غائرة، عميقة، لاواعية، بقدر ما تلعب من وراء الذات «السيدة» بلغوناتها الصامتة ورغباتها المخاتلة وافكارها الملتبسة وشيفراتها الملغزة. وهذا ما حمل فوكو على الحديث عن «نهاية الإنسان».
بالطبع ليست الحفيرة بنية جامدة أو ثابتة بقوانينها الأبدية، كما تعامل معها بعض البنيويين الذين يأخذون بالواقع كما يقدم نفسه، وإنما هي متحوّلة ومتحرّكة باستمرار، إذ الواقع بحسب «المنطق التحويلي»، وليس الماهوي، هو في حراك مستمر، تماماً كما أن الفكر هو في توتر دائم، ولو تمّ ذلك بصورة معتمة أو صامتة. مما يعني أن العالم هو مجموعة من البنى الخاضعة دوماً للتعديل والتغيير، سواء تعلّق الأمر بمنظومات وتشكيلات، أو بأفراد وجماعات، أو بتدابير واجراءات. ولا عجب. فإذا كنا نعتقد بأنه لا وجود لحقيقة نهائية، فمآل ذلك أن الكلام على الحقيقة لا ينتهي، كما تشهد خطاباتها من البداية حتى اليوم.
وهكذا نحن مع مصطلح الحفيرة إزاء مفهوم يتّسم بالاشتباه والازدواج، بل التعارض. من هنا فإن محاولات فوكو ايضاحه، المرة تلو الأخرى، لا تبدّد الالتباس ولا تقفل الكلام، لأن كل تعريف جديد، باستخدام عبارة مختلفة، إنما يُحدث ازاحة في الدلالة أو تغييراً في المعنى.
المفهوم والتباسه
وهذه هي إشكالية التعريف. انه يصل دوماً بصاحبه إلى مأزقه. إذ الشيء لا يُعرّف بذاته، بل بأعراضه ورسومه، أي بنسبته إلى سواه من الأشياء التي تندّ عن الحصر والاستقصاء. ولذا لا تعريف يخلو من اعتباط أو اقصاء.
وإذا كان فوكو عندما يتحدث عن اللغة، في القرن السادس عشر، لا يرى سوى «نص اول» وما ينتج حوله من التأويلات التي لا نهاية لها، فإن نصه، هو نفسه، يستدعي ما لا يتناهى من التأويلات المختلفة، وربما المتعارضة، تعارض فوكو نفسه في غير مسألة، كقوله بأن الحفيرة هي التي تجعل المعارف ممكنة في عصر من العصور، فيما قال قبل ذلك بأن ما يجعل الحفيرة ممكنة هو علاقتها بالنظام. أو قوله بأن العلامة تمتلك «بعض الافضلية» في العصر الكلاسيكي، في حين يقول انها تابعة للمعنى، لأن الصورة الطاغية والمهيمنة، في هذا العصر، وكما يؤكد فوكو مراراً، هو التمثل وقدرته على أن يتمثل ذاته.
أو كقوله إن نظام العلامة هو ثلاثي في القرن السادس عشر، فيما هو ثنائي في القرن السابع عشر، مع أن هذا النظام لا يمكن إلا أن يكون ثلاثياً: الاسم والمسمى والتسمية، الكلمة والشيء وكيفية تمفصلهما، خاصة وأن التمثيل في العصر الكلاسيكي، بوصفه الصورة الأولى، هو ذو بنية مركبة ومضاعفة.
ثمة أمر آخر، يفسر هذا التردد بين النقيضين، هو ما خصّ شساعة الحقل الذي تناوله فوكو بالدرس والتحليل، سواء في هذا العصر أو ذاك. وهذا مطبّ وقع فيه أكثر أصحاب المشاريع الفكرية ولا سيما في العالم العربي.
إذ لا يمكن لمقولة أو صورة أو نموذج ان يختزل عصراً أو تراثاً أو ثقافة أو هوية. نحن إزاء حقول للدرس هي من الاتساع والكثافة والغنى والتعقيد، بحيث إن ادراجها تحت مقولات كلية أو نظريات شمولية لا يخلو من وهم وادعاء أو من حجب واقصاء.
لذلك كلّه، يصعب القبض على ماهية مفهوم «الحفيرة». وهذا شأن المفاهيم القوية. فهي من الغنى والكثافة، بحيث لا سبيل إلى استنفاد الكلام عليها، كما هي مفاهيم «التعالي» عند كنط أو «التفكيك» عند دريدا أو «الاختزال» عند هوسرل، كل واحد منها مفتوح على إمكاناته الغنية واحتمالاته المتعددة أو المتعارضة. انه علاقته بما ينسج به من الهوامات والاستعارات والاطياف، بقدر ما هو علاقته بما يتقاطع معه أو يتعارض من المفاهيم والمقولات.
قد يكون في مصطلح الحفيرة شيء من كل المقولات التي استبعدها فوكو عند ديكارت أو كنط أو هيغل أو هوسرل أو ساتر. ولكننا إزاء تركيب مفهومي جديد هو اقرب ما يكون إلى النظام في «صورته الأولى» والعارية، أو في «كينونته الخام». ولذا فهو بمثابة نظام الأنظمة الذي يسعى التحليل الاثري كشفه، لمعرفة نمط وجود الأشياء، كما يختبرها الإنسان ويعيشها أو كما يفكر فيها ويصنّفها أو يصنعها، وكما تتجسّد في الشيفرات اللغوية والمنظومات الادراكية أو في الممارسات العملية والاجراءات التاريخية.
فيض المعنى
أياً يكن إن نص فوكو هو اغنى واوسع بكثير من اطروحاته وتعريفاته، بقدر ما يفيض دوماً عما ينطق به أو يقوله. ولذا فإن قارئه يقرأ فيه ما لم يقرأ، بقدر ما يقرأ في صمته أو يفكك شيفراته أو يتسلّل من بين شقوقه وفراغاته أو يلتفت إلى هوامشه ومنافيه…
نحن إزاء أعمال أحدثت انقلاباً لا سابق له، في ما يخص تحليل الخطاب.
قبل فوكو كان الخطاب مجرّد انعكاس للواقع أو مرآة للحقيقة. مع فوكو أصبح الخطاب هو نفسه ممارسة فكرية تشكل منطقة خصبة لعمل الدرس والتحليل، بقدر ما أصبح واقعة تترك أثرها في تركيب المفاهيم وانتاج المعارف، وعلى نحو يغير علاقتنا بالواقع. وبتغيير النظرة إلى الخطاب تتغير العلاقة مع الفكر والذات والمعنى والمعرفة والحقيقة.
– فالذات ليست جوهراً فكرياً خالياً من الاهواء والوساوس، وإنما هي ما يتناساه الفكر في فعل التفكير نفسه، الأمر الذي يزيح الكوجيتو عن عرشه، بوصفه مماهاة تامة بين الذات وذاتها أو بين الذات والأشياء.
– والمعرفة ليست وقوفاً على دفتر الشروط الضرورية، بل هي خرق للشروط للانتقال من عتبة إلى أخرى، نظراً لأن الخطاب يتناسى دون شروط امكانه.
– والمعنى ليس هو ما تهبه الذات المتعالية للاشياء، بل هو ثمرة أنظمة العلاقات وتشكيلات الخطاب التي تفيض دوماً عمّا تقوله أو تصرّح به.
– والحقيقة ليست قبضاً على الماهيات الصافية بعقول محضة، ولا هي تراكم للمعارف الصحيحة أو تصحيح متواصل لها، أي هي لا تسبق محاولات إقرارها، وإنما هي ثمرة ممارسات فكرية وخطابية أو مجتمعية وسلطوية، أي لها تاريخها وإجراءاتها كما لها سياستها ونظامها ومؤسسات انتاجها وتداولها، وهي تختلف من عصر إلى عصر، ومن مجال إلى آخر، ومن ثقافة إلى سواها.
السلطة والمعرفة
هنا أيضا اقتحم فوكو منطقة جديدة لعمل الفهم والتشخيص، كانت مستبعدة، بل مرذولة، من جانب الفلاسفة الذين تناولوا مسألة السلطة بعقل فوقي، مركزي، نخبوي.
لقد نزل فوكو من سماء التنظير المتعالي أو الخاوي إلى ارض الواقع المعاش. فاهتم بدرس المؤسسات التي تشكل قاع السلطة وارضها، كالمدرسة، والثكنة، والسجن، والملجأ، والمستشفى…
مثل هذه المؤسسات هي التي وقفت وراء ولادة المجتمع الاوروبي الحديث، أي «المجتمع الانضباطي»، الذي تشكلت معه، على الاجساد والعقول، سلطة جديدة بمعاييرها وآلياتها وشبكاتها التي تشتغل بالمراقبة والضبط أو القولبة أو التطويع أو التهميش والاقصاء، من خلال ثنائيات السوي والمنحرف، أو البالغ والقاصر، أو العاقل والمجنون…
هذا ما تجلى بشكل خاص في كتاب فوكو «المراقبة والعقاب»، الذي استخدم فيه مقاربة جديدة خرائطية، جيولوجية، حصيلتها تغير مفهوم السلطة من جانبين: الأول أن السلطة لم تعد تفهم بوصفها تقتصر على الدولة بمؤسساتها وأجهزتها وشرطتها وقوانينها، ولا بوصفها مجرّد نظام شامل للسيطرة (تنّيناً) من فرد على آخر، أو من جماعة على أخرى. بحسب تحليل فوكو للخرائط تفهم السلطة بوصفها جملة من «علاقات القوة» المحايثة والمنبثة في الفضاء الاجتماعي بكل مجالاته ودوائره ومؤسساته.
بهذا المعنى تبدو علاقة الواحد بالآخر هي علاقة سلطوية تتشكل في المجال الذي تمارس فيه، من خلال لعبة المواجهات التي تدعمها، أو الاستراتيجيات التي تستخدمها لكي تفعل وتؤثر، أو لكي تترجم في جهاز مؤسسي أو في شكل قانوني أو في خضوع اجتماعي.
الجانب الثاني هو ربط السلطة بالمعرفة. نحن هنا إزاء زوجين من المفاهيم لا ينفك احدهما عن الآخر، كما بينت تحليلات فوكو لكيفية تشكل السلطة في المجتمع الحديث. فعلوم الانسان في مجالات النفس والاجتماع والاناسة، لم تنشأ في عقول صافية يحركها شغف المعرفة لا غير، وانما هي نشأت واصبحت ممكنة مع تشكل المجتمع الانضباطي والعصر الصناعي: انتاج معرفة حول البشر، افراداً وجماعات، لاخضاعهم وتطويعهم. وهكذا لكل سلطة معرفتها، كما لكل حقيقة سياستها.
لا شك أننا تجاوزنا، اليوم، «المجتمع الانضباطي». فمع الدخول في عصر العولمة والمعلومة والشبكة، ثمة شكل انساني جديد يولد هو «الإنسان الرقمي» الذي لم يعد مجرّد مادة لإنتاج معرفة وسلطة على العقول والاجساد. ولكنه أصبح هو نفسه ينتج معرفة وتلك هي حصيلة الانتقال من مجتمع العضلة إلى مجتمع المعرفة. أصبح بوسع كل فرد أن يقرأ المعلومات ويتصرف بها عبر الشاشات. مما يعني أن الفرد يملك اليوم هوامش لممارسة حريته لم يكن يملكها في العصور السابقة.
ولكن ذلك لا يعني أن الفرد يعيش اليوم في زمن الفردوس، حتى في المجتمعات التي يبلغ فيها منسوب حريات التعبير درجة عالية. فالمجتمع لا يكفّ عن انتاج مظاهر التفاوت والتمييز أو الاقصاء والتلاعب. ولكن آلياتها وأشكالها تتغير من عصر إلى عصر. ولذا، فإن أشكال المقاومة تتغير مع تغير المعطيات. وإذا كان لكل سلطة معرفتها، فلكل سلطة اشكال مقاومتها.
إدارة الجموع
بعد سنوات من كتابته «المراقبة والعقاب»، عاد فوكو إلى معالجة مسألة السلطة، ولكن بتوسيع الحقل وتغيير الموضوع، فانتقل بذلك من السلطة على صعيدها المجهري بوصفها تطويع الأفراد، إلى السلطة على صعيدها المكبّر، بوصفها ادارة السكان في بلد ما، من حيث الولادة والتناسل أو من حيث الصحة والاستشفاء. هذا ما تجلى في مصطلحين ابتكرهما فوكو أو استثمرهما.
الأول هو «السياسة الحيوية» والثاني هو «السلطة الحيوية». واذا كان الأول يشير إلى حقل جديد، فإن الثاني يشير إلى ممارسة سياسية، أي إلى ما بوسع الكثرة والجموع، من السكان، أن تفعله في مقاومة آليات الضبط وقوالب الهيمنة. بهذا يتحول المفهوم إلى اداة مقاومة ضد منطق الدول، على ما استثمره الفيلسوف الايطالي طوني نيغري.
لا شك أن أهمية فوكو لا تكمن في مواقفه النضالية، بل في كونه يدرس ويحلّل لكي يشخص الواقع بصوغ إشكالياته أو تركيب مفاهيمه. وهذا هو رهان الفيلسوف الذي هو مفكر محترف: تجديد العدة الفكرية، من غير ذلك يتحول إلى مفكر عقيم أو إلى مناضل فاشل، أو إلى داعية منافق يشتغل بخدمة مشروع ايديولوجي أو نظام سياسي، مُتّهماً سواه بالتعصّب والتحيّز، فيما هو لا يحسن التستّر على تعصّبه وتحيّزه الفاضح.
بهذا المعنى فإن عملاً فكرياً يسهم في تفكيك آليات السلطة واشكال الهيمنة والمصادرة، كما فعل فوكو في كتاب «المراقبة والعقاب» هو أكثر فاعلية، بكثير، في مجال التنوير والتحرير والتغيير، من الخطابات الايديولوجية النضالية التي تحدثنا عن الحرية والعدالة والاشتراكية والسلم بصورة مجردة، لا تمتّ بصلة إلى مجريات الواقع الحي، وعلى ما كان مصائر الشعارات والقضايا التي تُرجمت بأضدادها لدى اصحاب المشاريع الشمولية والانظمة الاحادية.
ولعلّ هذا ما حمل فوكو على القول بأننا نشهد تحولاً من المثقف الكوني الذي يتحدث عن قضايا عامة استهلكت وباتت اسماً على غير مسمّى، نحو المثقف الخصوصي الذي ينشغل بقضايا حيّة وملموسة في هذا المجال أو ذلك القطاع.
وإذا كان فوكو كرّس أحد أهمّ الأعمال لقضية السجون، فإن ذلك أسفر عن تركيب مفهوم جديد للسلطة تتغير معه اشكال المقاومة. ولكن ذلك لا يعني نهاية المثقف الكوني، سيما إذا كان فيلسوفاً، لأن الفيلسوف هو، بالتعريف عالمي وكوني، كونه يشتغل بالقضايا التي تهم كل الناس كالحقيقة والحرية والسلطة والهوية، كما هي حال فوكو بالذات. ما تغير هو علاقة المثقف بمهمته ودوره، وأشكال تدخله في الشؤون العامة، التي تحتاج إلى إعادة الصوغ والابتكار. وذلك هو التحدي.
الذات بوصفها رغبة
يتناول محور الذات علاقة المرء بجسده ورغباته، وكيفية تحصيله ملذاته. هنا يقدم فوكو مقاربة جديدة ترمي إلى تبيان كيفية تشكل المرء كذات خلقية، من خلال عمل يقوم به من نفسه على نفسه، على النحو الذي يمكّنه من امتلاك زمامه وصرف رغباته.
هذا ما تجلى في كتابه «هم الذات»، والاحرى ترجمته باستخدام عبارة «وساوس الذات» نظراً للقرابة بين المفردة الفرنسية (Souci) والمفردة العربية (وسواس).
نحن هنا إزاء تفكيك للهوية ككيان ثابت يتماهى مع نفسه، لبناء هوية تفهم بوصفها شبكة العلاقات التي يقيمها المرء مع نفسه ومع غيره، بقدر ما تمارس كصناعة وتحويل أو تأليف وتركيب.
وقد استخدم فوكو لهذا الغرض المقاربة الاصولية التي افتتحها نيتشه. والاصولية لا تعني هنا رد الشيء إلى اصله وتبيان كيفية تطوره من خلال ثنائية الاصل والفرع. فالباحث عن أصل يتماهى معه لن ينتج سوى فرع يحل محل الاصل وينسخه، تماماً كما أن من يبحث عن حقيقة مسبقة يضل عنها ولا يصل اليه ابداً.
فالتحليل الاصولي يعني، هنا، تفكيك المستغلق أو المستعصي والممتنع، لبناء قدرات جديدة تتيح للمرء فهم ما كان مستغلقاً أو فعل ما كان يعجز عن فعله.
بهذا المعنى لم تعد المسألة أن يعرف المرء نفسه أو ما يقدر عليه، لكي يتماهى معها، وفقاً لشعار سقراط، أو حتى نيتشه. المسألة هي كيف يصنع المرء ذاته بتفكيك الاكراهات اللغوية والثقافية والسياسية والمجتمعية التي تعيقه عن استثمار طاقته وممارسة حيويته الوجودية، بكل ابعادها العشقية والمعرفية والسلطوية والفنية.
من هنا يميز فوكو بين نوعين من الاخلاق: الاخلاق بوصفها «قواعد» يخضع لها المرء أو يلتزم بها، والاخلاق كمشروع يُتخيّل ويُبتكر، يتعامل صاحبه مع الحياة كفن من فنون الوجود، بقدر ما يحيلها إلى ممارسة ذوقية جمالية، أي إلى مأثرة أو تُحفة.
هذا ما جعل فوكو يتجاوز مقولة «نهاية الإنسان»، منتقلاً بذلك من لحظة التفكيك إلى لحظة التركيب، كما تجلّت في الكلام على أنماط التذوت واشكال صناعة الذات في الثقافة الغربية، لدى اليونان وفي المسيحية، ثم في المجتمعات الأوروبية الحديثة، سواء كأشكال للمقاومة، أو بفتح آفاق جديدة يتمّ معها تجاوز الحدود وخرق الشروط بابتكار اساليب وقواعد لبناء الذات وسوسها، سماها فوكو تقنيات الذات.
هنا أيضاً لا يقين بصورة قاطعة، بل تردد بين صور كثيرة، بين «الإنسان الرملي» الذي لا وجه له، وبين صورة الإنسان الذي يدير شأنه ويسوس ذاته وفقاً لقواعد الحكمة والجمال والسمعة الحسنة.
إذا كان ثمة درس يستخلص في هذا المحور فهو الآتي: لا للذات التي تستسلم لأهوائها وميولها حتى آفة الادمان، كما لا للذات التي يجري تطويعها وقولبتها حتى تفقد حريتها واستقلاليتها. فالذات بما هي هذه الازدواجية بين المرء ونفسه، وكما تتجسّد في طاقته الفكرية، التأملية، الارتدادية هي فرادتها بقدر ما هي قدرتها على الخلق والابتكار أو على التجاوز والتحول. بهذا المعنى فالمرء هو الذي يحسن سوس ذاته ويشارك في صنع عالمه، بقدر ما يمارس كينونته بصورة حيّة، غنيّة، متوازنة.
الليبرالية وإمكاناتها
هناك محور اخير أولاه فوكو أهميته، وهو يتعلق بالاقتصاد، بما هو تدبير المعاش أو نمط الانتاج والاستهلاك. تجلى ذلك في دروسه حول الحاكمية والليبرالية الجديدة. نحن إزاء مجال كان محل استبعاد من جانب النخب الثقافية الفرنسية، اليسارية، التي كانت وما تزال في معظمها معادية لليبرالية.
ولكن فوكو كسر التقليد بجرأته الفكرية وعينه النقدية التي ترى دوماً ما لا يراه اصحاب العقول المغلقة واليقينيات الخشبية. من هنا انكبّ في دروسه الاخيرة على الاشتغال على الليبرالية، فاتحاً المفهوم على امكاناته، مبيّناً أن الليبرالية، حتى على مستواها الاقتصادي (حرية السوق)، إنما هي نمط وجود وشكل من اشكال التعامل بين البشر يفتح الامكان الذي تتسع معه ممارسة الحريات الديمقراطية، بقدر تخلق فرص لاكتساب حقوق مدنية جديدة. ولكن المثقف، وبالاخص نوعه اليساري، وكما هو دأبه، يتمسك بالانظمة والعقائد التي تصادر حريته، ويهاجم الافكار والانظمة التي تحطم قيوده.
خارج التصنيف
في ما يخص المنهج، لقد اجترح فوكو طرائق جديدة في التفكير تجمع بين الحفر الاثري والتفكيك الاصولي والتحليل الخرائطي، وذلك بحسب ما افتتحه أو استثمره في ما بناه من الحقول والمواضيع.
ومن الطبيعي أن يكون الامر كذلك بالنسبة لفيلسوف كان شعاره أن نغيّر الحياة. والحياة المختلفة تعني أن نفكر بطريقة مغايرة. فكيف اذا كان الامر يتعلق بفيلسوف كان يرفض أن يحشر تحت خانة واحدة، هو الذي عاش حياته كمغامرة متواصلة بألف وجه ووجه.
بذلك فتح مشاريع للدرس في غير اتجاه وعلى غير صعيد. وفي كل حقل دشنه أو استثمره نحت مصطلحات جديدة، غير مسبوقة، غيرت علاقتنا بمفردات وجودنا، سواء في ما يخص الحقيقة والمعرفة أو السلطة والادارة أو الذات والفكر أو الخطاب والمعنى.
وفي ما يخص الحقيقة ما كتبه فوكو بشأنها هو صلته بها، وقد بناها على كسر منطق التيقن والتملك الذي يلغم علاقتنا بالواقع، بقدر ما يحول الافكار والتصورات إلى اصنام أو إلى ايقونات. إذ مآل كل صنم أن يتحطم، تماماً كما أن مآل كل ما يقدس أن يُنتهك أو يفتضح.
وهذا زعيم الماهويين هوسرل حاول في مشروعه الظاهراتي (الفينومنولوجي) الوصول إلى «الماهيات الصافية»، عبر منهج الرد والإحالة أو الاختزال والتصفية، ولكنه فشل، ليس لأن منهجه قاصر، ولا لأن مفاهيمه غامضة أو مشوشة، كما يكتب باحثون اليوم. لقد فشل، وكما كتبت منذ سنوات، لأنه يستحيل القبض على الحقيقة. ثمة عائق انطولوجي يحول دون ذلك هو اللغة والخطابات.
هذه حقيقة غفل عنها هوسرل. ولذا فهو بدلاً من أن يصل إلى ضالته، قد راكم آلاف الصفحات التي حشد فيها من المقولات والصيغ والمفاهيم التي هي غاية في التعقيد والكثافة والالتباس. وهكذا لم يستطع هوسرل تحويل الفلسفة إلى علم صارم، ولكنه فتح عبر نصوصه عالماً فكرياً أستدرج من أتوا بعده إلى قراءته قراءات مختلفة ومتعددة، وربما متضاربة.
هذا ما يسفر عنه «نقد الحقيقة». وفوكو كان أصلاً من نقاد الحقيقة، بمعناها الأحادي والصنمي أو القدسي والمتعالي. ولذا لم يكن معلّماً للحقيقة كأرسطو أو الفارابي أو ديكارت وكنط، ولم يتعامل معها بعقلية الباحث المحقق، بل بلغة الخالق الذي يخلق وقائع فكرية تفعل فعلها وتترك أثرها وسط المشهد، بقدر ما تغير علاقتنا بالحقيقة نفسها.
الحقيقة ما نخلقه
وهذا المنحى يتأكد اليوم، فيما نحن ندخل في العصر الرقمي. لم تعد الحقيقة بحثاً عن شيء هو أساس غائر أو أصل ضائع أو جوهر صافٍ، وإنما هي ما نقدر على خلقه وافتتاحه، من صعد الوجود وأنماطه أو من فنون التدبير وأساليبه، أو من قواعد التداول والتبادل.
بهذا المعنى نحن نتجاوز فوكو، لأن المسألة لم تعد تقتصر على اقتحام ما هو عصي أو منغلق، مما هو غير مفكر فيه أو ممتنع على التفكير. فالرهان الآن، هو التفكير والعمل، بلغة التجاوز والتحويل والتركيب، بابتكار ما هو فائق أو متسارع أو هائل أو عابر من العوالم والنظم أو الاصعدة والمجالات أو الاجراءات والادوات.
وهكذا فالحقيقة هي ما نراه ونتخيله، أو ما نقدر على صنعه وتحويله، أو تركيبه وبنائه، بقدر ما نحسن أداءه وانجازه. وبالعكس. فهي ما نخفق فيه وننتجه من المساوئ والمخاطر والكوارث. بهذا المعنى فما ننتجه من النفايات السامة، ليس اقل حقيقةً من عنصر «البوزون» الذي ابتكر مفهومه أو صاغ نموذجه علماء الفيزياء.
الفلسفة والكتابة
كتب فوكو أعماله الفلسفية بأسلوب جديد، بل هو تعامل مع الفلسفة بوصفها كتابة، لا بوصفها مجرد بحث نظري أو نسق معرفي.
بالطبع هو لم يكتب بأساليب الحذلقة البلاغية الفارغة من محتواها المفهومي. ولكنه لم يكتب بمنطق الاستدلال المحض على طريقة القدامى، ولا بلغة العقلانية الموضوعية، المستحيلة والخادعة، إذ لا نتاج عقلياً يخلو من اعتباط أو من وهم واستبعاد.
من هنا مال فوكو إلى فتح المفهوم على الجسد والرغبة، كما على العلامة واللغة، بقدر ما انفتح على لغة الادب ببيانها واستعاراتها التي تتيح كسر المسبقات المعيقة والعادات الفكرية الراسخة، لاقتحام ما تعجز عن اقتحامه لغة التجريد والاستدلال من مناطق الوجود العصية على التناول والفهم، فجمع بذلك على نحو خلاّق بين جمال الاسلوب وقوة المفهوم.
نقّاد فوكو
كتابات فوكو كانت خارقة من حيث أثرها، بقدر ما كانت مثيرة للنقاش والجدل أو كانت محلاً للاعتراض والهجوم من جانب فلاسفة كسارتر وبودريار ودريدا وهابرماس وتشومسكي.
هناك من اعترض على فوكو لكونه وجّه نقداً للحداثة. هذا ما قاله هابرماس الذي كان يعتبر ان نقد الحداثة لا مسوغ له، إذ هي مشروع لم يكتمل بعد. ولكن هابرماس تراجع عن رأيه في ما بعد، لأنه لا مشروع يكتمل اصلا؛ من هنا اعترافه، ولو متأخراً، بأزمة العقل الحداثي والتنويري، كما شهدت مناظرته الشهيرة عام 2004 مع الكاردينال جوزيف راتسنغر قبل أن يتسلم سدّة البابوية.
أما تشومسكي فلم يكن يرى بعقله الدغمائي المغلق، في موجة ما بعد الحداثة، بثوراتها المنهجية وطفراتها المعرفية، سوى ثرثرة يمارسها المثقفون على مقاهي باريس. مثل هذا النفي لا يستحق التوقف عنده. يكفي أن نلاحظ أن فوكو، بعد ثلاثين عاماً من رحيله، هو اقوى أثرا في الفكر العالمي من تشومسكي ونظرائه من اصحاب النضالات الفاشلة والافكار العقيمة.
من هنا فإن قول جان بودريار لا تحدثوني عن فوكو فقد ولّى زمنه، ليس في محله. لأن فوكو يحضر اليوم أكثر من أي يوم مضى، ولعلّ هذا ينطبق على قول فوكو نفسه عن ماركس، كفانا حديثاً عن ماركس. قد يكون هذا الاخير ولى زمنه كصاحب مشروع ايديولوجي وبرنامج نضالي. أما نصوصه، فهي باقية بما تثيره من الإشكالات أو تفتحه من الامكانات لاعادة التفكير في ما نحن عليه.
البُنى المتحوّلة
ولعلّ النقد الاهم الذي جابه فوكو قد أتى هو من جانب مدرستين هما على طرفي نقيض، أي من اصحاب المنظور البنيوي والمذهب التاريخي في آن. فقد أخذ عالم النفس البنيوي جان بياجيه على فوكو، بأنه «بنيوي ضد البنيوية»، لأن البنية، برأيه، هي «منظومة تحويلية» تقفل طوراً أو عصراً لكي تفتتح آخر.
ولكن بياجيه لم يحل الإشكال: ما الذي يجعل البنية تظهر أو تختفي؟ بل وقع في التناقض الذي أخذه على فوكو بتعريفه البنية بنقضيها.
وإذا كانت مقولة «التشابه»، مثلاً هي البنية الاصلية أو الصورة الأولى التي وقفت وراء معارف عصر النهضة، فالسؤال حول كيفية انبجاسها، هي نفسها، يوقعنا في فخ الدور، أي في لعبة الأسباب والمسبّبات التي لا نهاية لها.
الحل هو في الاقتناع بأنه لا سبيل إلى معرفة البنية على حقيقتها، ما دمنا لا نقبض على الحقيقة بصورة نهائية. الممكن هو العمل عليها بالصرف والتأويل، أو بالتفكيك والتحويل، من اجل إعادة التشكيل والتركيب من جديد.
بهذا المعنى كل فكر مثمر هو إعادة بناء للموضوع بزحزحة اشكال أو فتح مجال. كل معرفة ثمينة بشيء تخلق واقعاً تتغير معه العلاقة بالواقع. كل قراءة خصبة وفعالة لحدث أو نص، انما تشكل شبكة تحويلية نتغير بها عما نحن عليه، لنغير علاقتنا بالاشياء والاحداث. كل مفهوم يبتكر، انما هو تفكيك لبنية من اجل توليد أخرى تنبثق معها امكانات جديدة للفكر، بقدر ما تنسج علاقات جديدة مع الحقيقة.
وهكذا نحن منخرطون في علاقات، بقدر ما نحن أسيرو بنى يجري تحويلها، عبر تشكيلات الخطاب وأنساق المعرفة أو عبر معايير العمل واشكال التبادل. ولذا فنحن لا نفكر أو نعمل، لكي نكون صورة مطابقة عن الواقع، ولا لكي نكون صورة عن أنفسنا، بل لنتغير عما نحن عليه، بقدر ما نغير علاقاتنا بالاشياء.
ولعلّ هذا ما قام به فوكو، الذي تجاوز ثنائية البنية والتاريخ، بقدر ما كان اكبر مفكك للبنى والانساق التي تشكل القاع السحيق لمشاريع الإنسان واعماله وتجاربه.
لاهوت التاريخ
من هنا، لم يكن فوكو معادياً للتاريخ. بل كان على العكس من ذلك يعتبر أن لكل شيء تاريخيته. ومن هذا المنطلق كانت معارضته للمنطق المتعالي، لدى كنط، بقوله إن ما هو قَبْلي لا يخرج عن نطاق التجربة، ولا يحلّق في سماء المتعاليات، ولا هو من قبيل الحتميات الصارمة، وإنما هو تاريخي، أي هو حادث ومحايث ومحتمل، بقدر ما هو طارئ أو مفاجئ أو غير متوقع.
إن مصطلح «التاريخ» وكما استخدمه فلاسفته، ينطوي على وهم كبير، قوامه نفي الحدث واستبعاد الحاضر، بالتعامل مع مفردات المادة والجدل والمكر كأيقونات مقدسة، على ما نجد لدى هيجل وماركس وسارتر، وصولاً إلى مارسيل غوشيه.
وهكذا لم يتعامل فوكو مع وقائع التاريخ وأحداثه، بعقل سحري غيبي أو لاهوتي متعالٍ، وإنما حاول إرجاع الامور إلى نصابها. ذلك أن ما يوجد في النهاية هو الحاضر. أما الماضي بوثائقه ومخطوطاته وخطاباته، فهو يشكل جزءاً من بنية الحاضر والواقع الراهن.
وجوديات الحاضر
من هنا مقولة فوكو حول «وجوديات الحاضر». وبحسب هذه المقولة لا معنى للكلام على صناعة التاريخ. ما يصنع هو الحاضر من غير ذلك، يتحول الكلام على «التاريخ» إلى لاهوت، تماماً كمن يتحدث عن «العقل» من غير الخطاب.
من هنا فإن نقاد فوكو في هذه المسألة شكلوا ردّة فعل لا تساوي الفعل نفسه. فما أنجزه فوكو من حفريات وتفكيكات، أثرية أو أصولية، في محاور الحقيقة والسلطة والذات، لا يعطي مصداقيته للمنظّرين الذين يحدثوننا الآن عن «انبعاث التاريخ» (ألان باديو) أو عن بوابة التاريخ ومنصته وحضرته، وكلها مقولات تتعامل مع التاريخ وكأنه إله يقيم في عليائه لكي يراقب البشر ويحاسبهم أو ينتقم منهم. والذين يفعلون ذلك لا يحسنون سوى تقويض ما يدّعون الدفاع عنه.
وهذا شأن الخطاب، ولو كان خطاب الفلاسفة: إنه يمارس الخداع والمراوغة بقدر ما هو محل التباس وازدواج أو تعارض. ولذا فهو يقود صاحبه، دوماً، إلى عكس ما يفكر فيه أو يسعى إليه، وذلك بقدر ما يفلت من سيطرته كل ما يُبنى به أو يجعله ممكناً من الأنساق أو الإجراءات أو الألاعيب.
وإلا كيف نفسر أنه بعد كل هذه العهود الطويلة من الكلام على التعليم الخلقي والارشاد الديني والتنوير الفلسفي، تصل البشرية إلى ما وصلت إليه: البربرية لجهة العلاقة بين النظراء، العدمية لجهة العلاقة بما يرفع من المبادئ والمثل، الكارثة لجهة العلاقة بالطبيعة وعناصرها.
نهاية الانسان
إن ما كشف عنه فوكو، وراء خطابات الحقيقة والانسان من وهم وجهل ونسيان وصمت وزيف، يجد أصداءه اليوم، وبعد ثلاثة عقود من رحيل فوكو، في إفلاس البشرية من حيث علاقتها بما ترفعه من المبادئ والمثل والقيم. انها نهاية الانسان الذي تعامل مع انسانيته من خلال مفاهيم الألوهة والقداسة والعظمة والبطولة والنجومية، لكي يُنتج العجز والهشاشة والفضيحة، بقدر ما يمارس النفاق والدجل أو الانتهاك والاغتصاب.
هذا ما تشهد به مآلات الدعوات والمشاريع: فالأكثرون يصنعون النماذج التي يدعون محاربتها: فالتنويري يمارس عقلانيته بشكل أصولي ظلامي، والديموقراطي يدعم أنظمة الاستبداد، والعلماني يمشي في ركاب الأنظمة الدينية، وطلاب العدالة الاجتماعية عاجزون عن محاربة الفقر والفساد، والمدافع عن خصوصيته الثقافية في مواجهة العنصرية يمارس عنصرية مضادة بأرهب أشكالها، والذين ينتظرون امامهم الغائب ليملأ الارض عدلاً وقسطاً يملأون العالم ظلماً وإرهاباً، والذي يدافع عن حقوق الانسان لا يحسن سوى انتهاكها بتصرفاته البربرية. والسياسي الذي يفترض به أن يكون القدوة والمثال يدمر النموذج الذي يدعي الدفاع عنه كما تشهد تصرفات الساسة والقادة.
أنا وفوكو
أنا من الذين قرأوا فوكو، وواكبوا جلّ ما كتب عنه منذ رحيله، ولكن ما قلته عنه في هذه المقالة هو أبعد ما يكون عن عنوان نيتشه «هكذا تكلم زرادشت». فأنا لا أدعي بأنني وقفت على مقاصد فوكو، سواء باستثماري لنصوصه، أو بما ورد من شذرات وتعليقات حول إنجازه مبثوثة في ثنايا كتبي ومقالاتي. فالوقوف على القصد يتعارض مع «نقد النص» كما أفهمه وأمارسه، كما هو يتناقض، أصلاً، مع اطروحة فوكو ومنهجه في تحليل الخطاب.
ما أكتبه هو تقديم قراءتي لفوكو التي لا تكتمل، بالاشتغال على نصوصه، انطلاقاً من وقائع حياتي ومفردات وجودي، من لغتي وأسئلتي وهمومي وانشغالاتي. وهذا شأني مع كل الذين قرأت أعمالهم وتركوا أثرهم في تكويني الفكري؛ رهاني في ذلك إنجاز مقاربات جديدة ومختلفة، للنصوص أو للوقائع، على سبيل الاضافة والتجديد أو التوسيع والتطوير، أو التجاوز واعادة البناء، في ما يخص حقول الدرس واشكاليات الفكر، أو ادوات المعرفة وتراكيب الفهم.
أعرف أن هناك فئة من القراء تتعامل مع ما أكتب بمنطق النفي والشطب، منذ بدأت كتاباتي تلقى صداها الايجابي في الاوساط الثقافية في لبنان والعالم العربي، بقولهم إن ما أكتبه هو مجرد تلخيص مدرسي للأعمال الفلسفية، أو أنه مقتبس من الصحف والمجلات الاجنبية. وهؤلاء يشهدون على جهلهم وقصورهم بقدر ما يعلنون بغضهم وحقدهم.
فما يقولونه يقع ما قبل «نقد النص»، لأنه بحسب هذا النقد لا نص يتطابق مع آخر أكان شرحاً أم تأويلاً أم تفكيكاً. كل نص إنما ينتج معناه، على سبيل الإحالة والزحزحة ولو كان مجرد تعليق أو تفسير. كل كلام حول الكلام هو قراءة تتيح نصاً مغايراً. كلنا صنيعة ما نقرأه بوجه من الوجوه. ولكن هناك فارق بين كتابة وأخرى. ثمة قراءات ضعيفة الأثر، لأن أصحابها لا يأتون بالجديد الخارق.
وبالعكس هناك قراءات خصبة وفعالة، بما تخلقه من وقائع فكرية تترك أثرها ويجري تداولها من جانب القراء عموماً، ومن جانب المشتغلين في ميادين المعرفة بشكل خاص.
ولعلّ هذا ما يحرك أهل النفي تجاه ما أكتب: ليس حب الحقيقة، ولا كوني أنقل عن غيري أو ادعي ما ليس لي. بل لأنني في ما أقرأه من نصوص أعمل عليها، بتصنيعها وتحويلها إلى نص فلسفي، مكتوب بالعربية، يترك بصمته ويولد أثره في الاوساط الفكرية ولدى القراء عامة، بقدر ما يقدم لمن يقرأه عناوين للكتابة أو مفاتيح للمقاربة والمعالجة.