تتأتّى أهميّة كتب الفلسفة والعلوم الإنسانيّة المُعتمدة في برامج التّدريس الثّانوي من كونها تؤدّي دوراً مهماً في تشكيل ذهنيّة فلسفيّة عامّة تسهم في تفعيل العمل النّقدي التّثقيفي التّغييري الاجتماعي، وتخلق فضاء فلسفياً لغير المختصين. تظهر هذه الأهميّة بجلاء في ردّ المفكّر إلياس مرقص على أطروحة ريمون آرون القائلة بعدم إطلاع كلاوسيفيتس (المفكّر العسكري) على الفلاسفة عموماً وهيغل خصوصاً، يكتب: «أفترض أنّ كلاوسيفيتس لم يطالع كتاباً واحداً في الفلسفة. لكن ما هو التّعليم الّذي تلقّاه في المدرسة؟ يمكن أن نفترض أنّ ألمانياً ينال شهادة الباكالوريا في سنة 1800 يكتسب تكويناً فلسفياً ومعرفة فكريّة وثقافيّة أفضل – كأساس وكعمق – من دكاترة هذا الزّمن»(1).
لا بدّ من التّنويه أنّ نقدنا منهاج “الفلسفة والعلوم الإنسانيّة” الحالي لا يعفي المناهج السّابقة عليه والصّادرة عن دائرة المناهج في وزارة التّربية السوريّة منذ 2011، والّتي يلفّها ما يلف المنهاج الحالي من مشكلات يمكن وصفها بالكارثة وسنحاول أن نسلّط الضوء على بعض من ملامحها.
نستطيع أن نحصر المشكلة في خمسة مظاهر. يتمثّل أولها في غياب عمليّة التّأليف. إذ نلحظ في معظم دروس الكتاب حضوراً واضحاً لعمليّة النّسخ واللصق من مقالات وكتب من دون أي تدخّل تقتضيه عادةً عمليّة إنتاج الكتاب المدرسي التّعليمي والواضح. زد على ذلك أنّ عمليّة النّسخ واللّصق تمّت من دون أي تعديل من مقالاتٍ لـ “كتّاب” ليس لهم أيّ تكوين فلسفي، وكتاباتهم تفتقد الدّقة والتّوثيق العلمي لأنّها مكتوبة لمواقع إلكترونيّة معنيّة بالفكر اليوميّ وغير مهتمّة بالفكر الفلسفيّ ومتعلّقاته. في درس “المحبّة”، مثلاً، أخذِت الفقرة الأولى بعنوان “معنى الحبّ” من مقالتين بطريقة النّسخ واللّصق (أخِذ مقطعها الأوّل من مقالة “فلسفة الحبّ” مجهولة الكاتب في موقع باسم “الحبّ” يختّص بالتّعرّف على الفتيات وتسريحات الشّعر وما شابه؛ ومقطعها الثّاني من مقالة “مفهوم الحبّ عند الفلاسفة” لكاتبة لا كتابات أخرى لها غير هذه المقالة وغير معروفة في الفضاء الفلسفي العربي.). جاء في المقطع الأخير: «الحُبّ في الفلسفة، لا يمكن إدراكه بالعقل أو شرحه بالمنطق، وهو ما يجعل الإنسان يظهر شخصيته الحقيقيّة، حيث كان الفلاسفة اليونان يرون أنّ الحُبّ هو من الدّعامات الأساسيّة للفلسفة، وشرعوا في بناء النّظريات المتعددة الّتي طوّرت الحُبّ من مفهومه المادي إلى مفهومه الرّوحي في أعلى سماته، مروراً بكون الحبّ صفة أساسيّة وتظهر آثارها في سلوك الكائنات الحيّة.» إضافةً إلى ما سبق وذكرناه، قُدِّم هذا النّص الّذي يكتنفه الغموض والإبهام من دون أي شرح للتّناقضات والمغالطات الجليّة فيه منذ أوّل قراءة، فكيف لا يمكن إدراك الحبّ بالعقل، وشرع فلاسفة اليونان – في الوقت نفسه! – في بناء نظريات متعددة عنه طوّرته من المفهوم المادي إلى المفهوم الرّوحي؟! من الّذي قرَّر (وكيف وأين) أنّ الحبّ يجعل الإنسان يُظهر شخصيّته الحقيقيّة؟! كلامٌ اعتباطي يُظهر مقدار الاستهتار في التّعامل مع المنهاج. كما أنّ الفقرة المعنونة “هل ندرك حقاً من نحبّ؟” مأخوذة بالكامل من مقالة “الحبّ والوجود…” في مدوّنات الجزيرة لكاتب في الفكر اليومي غير مختصّ في الفكر الفلسفيّ وذلك طبعاً من دون أي إحالة على المصدر، شأن معظم الاقتباسات في المنهاج. هكذا، يجد طلبة البكالوريا في سوريّة أنفسهم – والمدرّسون معهم – معتمدين في تكوينهم الفلسفيّ، وفي عمليّة تربويّة من المفترض أنّها أساسيّة، على نصوص لكتّاب ليس لهم أي باع في الفكر الفلسفي، على أقلّ تقدير.
زد على ذلك أنّ عمليّة النّسخ واللّصق تتمّ من دون مراجعة أو تدقيق لغوي، الأمر الّذي لا تُوليه دائرة المناهج في وزارة التّربية السّوريّة على ما يبدو أي أهميّة، لذلك خرجت إلينا بكتب مليئة بالأخطاء الإملائيّة والنّحويّة. نقرأ على سبيل المثال: «مبدأ العلّة الكافية: لا يمكن لواقعة أن تحدث ولا لأي ادّعاء أن يكون صحيح إلّا إذا وجد سبب كافي لذلك، لا شيئ آخر.» النّص مأخوذ بالحرف من “ويكيبيديا، الموسوعة الحرّة”، ونُسخ من دون أي تصحيح للأخطاء الواردة فيه.
يتمثّل المظهر الثّاني في الحشو. سبق لـ مهدي عامل أنّ شرح معنى هذا المفهوم في معرض نقده بعض المنهاج الفلسفيّة المعتمدة في عصره، وقال: «الحشو هنا بمعنى تكديس المعلومات بحيث لا يبقى للتّلميذ وقت سوى لترتيب صفوف هذه الأكداس، فلا يجرؤ على إضاعة دقيقة واحدة في التّفكير بما تعلمه.»(2) ليس علينا في هذا السّياق إلّا أن نذكر بعضاً ممّا على الطّالب استيعابه من كتاب الفصل الأول في غضون ثلاثة أشهر: المذهب العقلي (ديكارت وسبينوزا وليبنتز)؛ المذهب التّجريبي (لوك وهيوم)؛ المذهب النّقدي (كانط)؛ المذهب المادي الجدلي (ماركس وهيغل)؛ الوجوديّة؛ الفلسفة الحيويّة (برغسون)؛ فلسفة الظّواهر (هوسرل)؛ البراغماتيّة (وليم جيمس)؛ التّأويل في الفكر العربي (ابن رشد وحسين مروة وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري)؛ النّزعة الجماليّة عند عبد الكريم اليافي؛ النّزعة الأخلاقيّة عند عادل العوا؛ الوضعيّة المنطقيّة عند زكي نجيب محمود؛ الشّخصانيّة عند محمد عزيز الحبابي…
يكمن المظهر الثّالث في تشويه نصوص الفلاسفة. قد لا نجد نصّاً واحداً خال من التّشويه أو الاختزال أو التّسطيح. سنختار في ما يلي نموذجاً لنّص عنونته دائرة المناهج “ضرورة الفلسفة”، وهو نصّ مقتبس بتصرف من كتاب “تأهيل إلى الفلسفة للّذين ليسوا بفلاسفة” لـ لويس التّوسير.
تبدأ عمليّة التّشويه من العنوان الّذي اقترحته دائرة المناهج. ذلك أنّ النّص مقتبس من فصل وضع له التّوسير العنوان: ماذا يقول “الّذين ليسوا بفلاسفة”، وغرض هذا الفصل التّمييز بين نزعتين في الفلسفة: نزعة مثاليّة ونزعة ماديّة. يبدأ التّوسير بعرض آراء “الّذين ليسوا بفلاسفة” – من عمال وفلاحين…– ليُظهر تأثير النّزعة المثاليّة ودورها في سيطرة الفهم المثالي للفلسفة على من هم ليسوا بفلاسفة. أي، لم يكن غرض التّوسير توضيح ضرورة الفلسفة، كما أنّها لا توضح هذه الضّرورة بجميع الأحوال.
يتّضح هذا التّشويه في الفقرة التّالية على النّص الّذي اقتبسته دائرة المناهج، حيث يكتب التّوسير: «القارئ على حقّ، بالفعل: ما أتينا على وصفه في شكله الصّافي نسبيّاً، هو النّزعة المثاليّة، الممارسة المثاليّة للفلسفة. لكن في الإمكان التّفلسف بطريقة مغايرة. والدّليل أنّ بعض الفلاسفة، في التّاريخ، لِنَقُل المادّيين، تفلسفوا بطريقة مغايرة، وأنّ هناك أساتذة فلسفة يحاولون الاقتداء بهم.»(3) باختصار، إنّ ما عُرِض على أنّه نصّ يعكس رأي التّوسير بضرورة الفلسفة، هو الرّأي الّذي سيسعى هذا الفيلسوف لاحقاً إلى تبيان تهافته عبر الانتصار للنّزعة الماديّة ضدّ النّزعة المثاليّة المسيطرة والّتي عرضها النّص المقتبس!
وكمثال لهذا التّشويه الذي قُدّم بلبوس “التّصرّف”، جاء في نهاية النّص المقتبس: «فبالنّسبة إلى أستاذ الفلسفة، ليست الفلسفة مادّة تدريس، ما الّذي يعمله أستاذ الفلسفة إذاً؟ يعلم تلامذته أن يفكّروا بقيامه أمامهم بتأويل كبريات النّصوص أو كبار المؤلفين في الفلسفة وبمساعدتهم على التّفكير بدورهم اقتداء به، وبكلمة، بإلهامهم حبّ التّفكير.» ما يوحي به النّص هو أنّ التّوسير يتّفق مع هذه الرؤيّة، في حين أنّ النّص الأصلي يُظهر من دون أي لبس أنّ التّوسير يعرض بذلك تأثير الممارسة المثاليّة للفلسفة على فهم مقولة “ليست الفلسفة مادة تدريس”، الأمر الّذي يوضّحه ويشرحه في الصّفحة التّالية للنّص المقتبس والّذي أسقطته دائرة المناهج. والحال أنّ التّوسير يريد أن يعرض لنا فهمين مختلفين لهذه المقولة – “إنّ الفلسفة لا تدرس” –، اختلاف المادّيين والمثاليين رغم اتفاقهم الشّكلي: «فالتّقليد المثاليّ يدافع عن هذه الأطروحة بجعل الفلسفة أرفع مقاماً من المعارف، وبدعوة كلّ إنسان إلى أن يوقظ الإلهام الفلسفيّ في دخيلته. أمّا التّقليد المادّي فلا يجعل الفلسفة أرفع مقاماً من المعارف، ويدعو النّاس إلى البحث خارج ذواتهم، في الممارسات –لكن دون إهمال الأعمال الفلسفيّة- وفي المعارف والصّراعات الاجتماعيّة عمّا يتعلّمون منه أن يتفلسفوا.»(4)
تكرّر التّشويه مع فيديو يعرض درساً نموذجياً عن تحليل نصّ التّوسير في موقع المنصة التّربويّة السوريّة على الويب حيث لم نلمس أي فكرة صحيحة عن نصّ التوسير الأصلي أو أفكاره، بل تمّ التّغاضي عن أحد المفاهيم الأساسيّة في فلسفة التّوسير والمذكورة في النّص المقتبس، أي: مقولة التّوسير “الفلسفة لا تاريخ خاصّ لها”. لا لوم على المدرّسة الّتي تقدّم الدّرس المذكور، فالمصطلح معقد وشرحه للطلاّب مرتبط برؤيّة التّوسير المستمدة من كتاب ماركس وإنغلز “الأيديولوجيّة الألمانيّة”، حيث بيّن ماركس أنّ الإيديولوجيا لا تاريخ خاصّ لها، وهي الفكرة الّتي طوّرها التوسير فيما بعد عندما درس العلاقة بين الفلسفة والعلم، وكذلك مقولة “الفلسفة أبديّة” المذكورة في النّص المقتبس فقد شُرحت خارج سياق أطروحة التوسير، فلها عنده معنى خاصّ إنّ تقدّم به فسينال درجة صفر، فهو يقصد بها أنّ لا فلسفة تنهزم أو تختفي جرّاء صراع الفلسفات، ولا تصير خطأً يستلزم الإلغاء. لا وجود للأخطاء في الفلسفة بخلاف العلم. فالمذاهب والأطروحات الفلسفيّة لا تموت بل تعيد باستمرار الصراع ذاته الّذي لا نهاية له.
تسطيح أطروحات الفلاسفة والمفكّرين هو المظهر الرّابع. التّسطيح هو الغالب، والسّبب مرتبط بالمظهر الأوّل – غياب عمليّة التّأليف – حيث أنّ عمليّة النّسخ واللّصق تخلق نصّاً مشوّهاً غامضاً وملتبساً، وبالتّالي لا تقدّم عمليّة عرض المذاهب والأنساق الفلسفيّة للفلاسفة أو للمفكّرين أي فائدة تعليميّة بل وحتّى أي معلومة. لنتأمّل ما كتب بخصوص سبينوزا: «طور الفيلسوف سبينوزا في القرن السّابع عشر فلسفة منهجيّة، منطقيّة وعقلانيّة، فاعتقد أنّه لا يوجد إلّا عقلانيّة واحدة شاملة للإنسان والطّبيعة، ولذا سعى إلى تطبيق المنهج الرياضي في قضايا فلسفيّة مختلفة منها الأخلاق». وبعد ذلك يُعدِّد لنا الكتاب ثلاثة أسباب عامّة (في ثلاثة أسطر) لسعي سبينوزا إلى تطبيق المنهج الرياضي. السّؤال هنا ما الفائدة الّتي يقدّمها هذا العرض؟ فهو لم يقدّم أي معلومة عن فلسفة سبينوزا، بل إذا استبدلت اسم سبينوزا بأي فيلسوف آخر لن يختلف الأمر ولن يختلّ المعنى كثيراً، فلا ذكر لمفهوم سبيوزا الأساس عن الجوهر الواحد (الله/ الطبيعة)، ولا حضور لنسق سبينوزا الأخلاقي المؤسس بشكل هندسي. وإن أراد المعلم شرح ذلك للطلاب فهو يحتاج إلى أكثر من حصّة دراسيّة ليتمكن من شرح مفهوم واحد من مفاهيم الفيلسوف.
النّتيجة أنّ بعض الدّروس تحتاج بسبب عمليّة النّسخ واللّصق غير المسؤولة إلى زمن يتجاوز ما خصّصته وزارة التّربية لشرحه ومعالجته. على سبيل المثال لا الحصر، وضعت دائرة المناهج نصّاً عنونته “المحبّة”، هو عبارة عن أربعة عشر بيتاً من الشّعر من قصيدة لأحد أقطاب التّصوف الاهتيامي ابن الفارض، وخصّصت للدّرس خمساً وأربعين دقيقة لشرح ومناقشة هذه الأبيات، دون الانتباه إلى أنّ القصيدة تحتاج لتصل فكرتها للطّالب إلى عشرات الحصص الدّرسيّة، ذلك أنّ الطّالب لا يعرف ما هو التّصوف ولا مفاهيمه – الفناء، ووحدة الوجود، والوصال… – كما لا يوجد أي درس سابق في الكتاب ذاته ولا في الصّفين الأوّل والثّاني الثّانوي له علاقة بالتّصوف ومفاهيمه. بالتّالي، سيعالج النّص من قبل المعلم بالتّشارك مع الطلاّب بشكل سطحي لا يقدّم أي فكرة حقيقيّة عن التّصوف الاهتيامي. لنأخذ نموذجاً عن طريقة الشّرح المعتمدة من وزارة التّربية لهذه الأبيات. فقد وضع موقع المنصة التّربويّة السوريّة على الويب شرحاً “نموذجياً” لهذه الأبيات نقتبس منه شرح أو معنى البيت الأول لنرى عمليّة الاختزال غير التّعليمي:
«قلبي يُحدِّثُنِي بأنّك مُتلِفِي رُوحي فِدَاكَ عَرَفت أم لم تَعرفِ.»
تشرح المدرِّسة أو تحدّد معنى البيت السّابق بالعبارة التّالية: «إتلاف الحبّ لقلب الشّاعر أو إقرار الشّاعر بأنّ المحبّة قد أتلفت قلبه.»
الشّرح السّابق لم يقدّم أي معرفة أو معلومة عن مضمون البيت وشكله، فلكي يحصل الطّالب على معرفة حقيقة بمضمون البيت، يجب في البداية شرح المفردات ومعانيها الصوفيّة أو الاهتياميّة عند ابن الفارض أو في الفكر العربي الإسلامي عموماً والفكر الصّوفي خصوصاً. إنّ كلمة “قلب” الّتي يبدأ بها البيت، تعني في فضاء فكر ابن الفارض (والفكر الصّوفي الإسلامي) “العقل”، وذلك استناداً إلى النّص القرآني: “لهم قلوبٌ لا يفقهون بها”. وكلمة “متلفي” تعني “مهلكي”، وذلك انطلاقاً من النّص القرآني “كلُّ شيء هالكٌ إلّا وَجههُ” (أي أنّ هلاكي سيساعد في ظهور وجود الله الحقّ)، وقوله “عرفت أم لم تعرف” يعني: “جازيت أم لم تُجاز” أي أنّ المحبّ الصوفي لا ينتظر جزاء مقابل حبّه، فهو مجرّد محبّة لا لغرض أو منفعة، وهي فكرة من أهمّ مفاهيم الحبّ الصوفي.(5)
نختتم مع الأسئلة غير المدروسة. بعض الأسئلة الواردة لا تناسب المستوى الفكري والعلمي للطّالب بل أحياناً للمدرس. بمعنى آخر، هي أسئلة تُحلّق خارج سياق المقرر، بل إنّ الدّروس لا تساعد الطّالب على الإجابة عنها.
لنتأمل بعض الأسئلة كنماذج:
نموذج (1): «أوضح: يقول باشلار بأنّ الإبستمولوجيا يمكن أن تستفيد من منهج التّحليل النّفسي في علم النّفس في بلوغ أهدافها الأساسيّة من تحليل المعرفة العلميّة.»
لنوضّح هنا أن لا وجود لأي حضور للفيلسوف باشلار ولا لأيّ فكرة عن نسقه الفلسفي في أيّ درس من دروس الكتاب ولا في كتب الأوّل والثّاني الثّانوي الأدبي من جهة، ومن جهة أخرى صعوبة نسق باشلار الفكري، لذا فإنّ المدرس غير قادر على تبسيطه للطلبة. فلكي نجيب عن السّؤال السّابق لا بد من العودة إلى كتاب باشلار “تكوين العقل العلمي” الّذي حدّد فيه مفهوم “العقبة الإبستمولوجيّة” وحصرها بالشّروط والأبعاد النّفسيّة للباحث. والمذهل في هذا السّياق سهولة تقديم إجابة عن هذا السّؤال من قبل المنصة التّربويّة السوريّة التّابعة لدائرة المناهج حيث قدمت إجابة سطحيّة عامّة لا معنى لها.
نموذج (2): في تقويم درس الوجوديّة وضعت دائرة المناهج السّؤال التّالي: «أوضح معنى المصطلح التّالي: السّقوط؟»
يجب أن يعلم القارئ أنّه لا وجود لأيّ شرح في الدّرس لمعنى السّقوط في الفلسفة الوجوديّة. الدّرس عموماً نسخ ولصق من مقالات وكتب عديدة وبشكل اعتباطي. كما أنّ مفهوم السّقوط مرتبط بـ هيدغر الّذي مازال نسقه الفلسفي غامضاً لكثير من الباحثين من العرب وغيرهم.
بعد عرض أبرز مظاهر مشكلة الكتاب موضوع النّقد لا بدّ من السّؤال عن آليّة تسمح بتجاوز هكذا مشكلة والّتي هي أقرب إلى الكارثة التّربويّة. والواقع أنّ الحلول لا تصدر من أفراد بل هي نتاج عمل مؤسّساتي. ومع ذلك، سنقدّم بعض المقترحات: أوّلاً، تشكيل لجنة من النّخب الفلسفيّة العربيّة تعمل على عمليّة التّأليف، ولا بدّ هنا من التّذكير بالمقرر المدرسي الّذي توقف اعتماده في عام 1995. كان المقرّر متميزاً من حيث الطّرح والابتعاد عن التّسطيح والاختزال، كما اكتفى بعرض مشكلتين فقط هما مشكلة المعرفة ومشكلة العمل، وقام بتأليفه اثنان من أهمّ النّخب الفكريّة في سوريّة: تيسير شيخ الأرض وأنطوان مقدسي. ثانياً، إيفاد مجموعة من خريجي قسم الفلسفة إلى بعض الدّول المتقدّمة علمياً حيث البحث العلمي متقدّم، بهدف دراسة طرائق تدريس مادّة الفلسفة. وعند تحقيق ذلك يتكوّن كادر مختصّ بعمليّة تأليف كتب الفلسفة المدرسيّة.
وأخيرا نقول إنّ أمام هكذا مقرّرات مدرسيّة، يحقّ لمدرسي الفلسفة أن يهتفوا مع الشّاعر إبراهيم طوقان:
يَا مَنْ يُرِيدُ الانْتِحَارَ وَجَدْتـهُ إِنَّ الْمُعَلِّمَ لاَ يَعِيشُ طَويلا.