فريق يقر بوجوده وآخر يرفضه.. وتيار ثالث يقف على الحياد:
هل يوجد فكر فلسفي معاصر في لبنان؟
++المؤيدون ينتمون إلى اليمين المحافظ والمعارضون يميلون لليسار الفكري.
_++الفلاسفة اللبنانيون مجرد باحثين في شؤون الفلسفة والفكر والتاريخ.
++_مرحلة التفلسف تتطلب النضج العقلي والتفاعل مع الثقافة الإنسانية.
_++اللبناني يولد ولديه عجز بنيوي مثلث الأضلاع.
++قيمة إسهامات الفلاسفة اللبنانيين ترتبط بعمق الطرح الذي ساقته.
بقلم :جهاد فاضل
إذا كان عنوان الكتاب «الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان»، فإن الخلاف يثور داخله حول مسألة «الفلسفة اللبنانية» ذلك بأن هذه القضية تقوم مقاماً خطيراً في قرائن الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان، ويتجادل في صحة هذه القضية أو بطلانها كثير من «الفلاسفة» اللبنانيين ويبدو أن عدد القائلين بصواب مقولة الفلسفة اللبنانية (شارل مالك، رينة حبشي، كمال يوسف الحاج، فريد جبر، إتيان صقر، أنطون حميد موراني، بشارة صارحي).
يوازي عدد القائلين ببطلان هذه المقولة (حسين مروة، مهدي عامل، عادل ضاهر، ناصيف نصار، علي حرب، موسى وهبة، جاد حاتم). فيما الآخرون إما يقفون موقف الحياد النقدي من هذا الجدل الفلسفي، وإما لا يدخلون القضية في صلب اعتناءاتهم الفلسفية (جيروم غث، بولس الخوري، ماجد فخري، حوزف أبو رزق، جان قلام، مشير عون) وإذا ما نظر المرء في انتماءات الفلاسفة المؤيدين لمقولة «الفلسفة اللبنانية» وللفلاسفة المناهضين لها، أوشك أن يستنتج أن الفريق الأول ينزع نزوعاً عفوياً إلى اليمين الفكري والسياسي المحافظ، بينما الفريق الثاني يميل ميلاً صريحاً إلى اليسار الفكري والسياسي، ما خلا جاد حاتم الذي يرفض المقولة لأنه يظن أن الفلسفة حمل ثقيل على الاجتماع اللبناني لكثرة ما تستوجبه من قابليات بنيوية يفتقر إليها الاجتماع اللبناني والمفكرون اللبنانيون.
وقد تعرض بعض المساهمين في الكتاب إلى مسألة الإسهام اللبناني في الفلسفة العربية المعاصرة وفي الفلسفة العالمية المعاصرة.
فذكر أن المرء يحار في وصف الإسهام الفلسفي اللبناني المعاصر لأن الفيلسوف الصادق في منزعه الموضوعي أدعى إلى أن يكون من المترددين المرجئين، لذلك يرى أن من غير اللازم إطلاق الأحكام، وترك المسألة تجري في أعنتها حتى يفصل الزمن فيها بمقتضى قيمة الإسهام اللبناني الذاتية، ولكن الفيلسوف اللبناني المعاصر عنده -شأنه في ذلك شأن الفيلسوف العربي المعاصر- يولد حاملاً في مستودعه الوراثي عجزاً بنيوياً في أحوال المجتمعات العربية، وعجزاً بنيوياً في أوضاع الفكر العربي، وعجزاً بنيوياً في طاقة اللغة العربية على التعبير الأمين عن معارف العصر، وقبل أن يجرؤ على ادعاء شيء عن التفكير الفلسفي الأصيل، يصاب للتوّ بمثل هذا العجز البنيوي المثلث الأضلاع، فإما أن يقنط وينكفئ إلى خلوة ذاته وإما أن يجتهد وفي يقينه أنه في تقصير متفاقم يقعده عن اللحاق بكثرة المعارف التي تتزّين بها العلوم الوضعية والعلوم الإنسانية في منتديات البحث الغربية.
مبتكرات الفلاسفة اللبنانيين
يأخذ الكتاب على العالم العربي أنه وإن كان يتوفر على نخبة من الفلاسفة المعاصرين اللامعين، يعوزه التأمل في مبتكرات الفلاسفة اللبنانيين الجريئة، «غير أن فرادة الإسهام الفلسفي في لبنان تظل مرتبطة بالقرائن الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تطبع الاجتماع اللبناني، وكما أنه ما من أحد في العالم العربي يشبه الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود في فلسفته الوضعية، والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحباي في شخصانيته الغدية، والفيلسوف الجزائري محمد أركون في حفرياته المغربية والفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي في ترميمه الإشكالي الملتبس للمذهب الرسمي الكلامي العربي الوسيطي، كذلك ما من أحد في العالم العربي يشبه شارل مالك في جمعه بين التومائية والليبرالية، وحسين مروة في قراءته الماركسية للتراث العربي، وجيروم غيث في ربطه الروحية الأفلاطونية بالمادية الماركسية، ورينه حبشي في عمارته القيمية المتوسطية، وبولس الخوري في خيبته الخلاقة وربطه جوهر التراث العربي بجوهر الحداثة، وفريد جبر في نظريته التكاملية التعبيرية، وإتيان صقر في بنائه هوية المجتمعات الإنسانية على التفاعل التقابسي بين الثقافات، وجوزف أبو رزق في اعتماده التعاطف الشعوري أصلاً في تكون هوية الوجود الإنساني، وأنطون حميد موراني في تأويليته البناءة للحقيقة في تضاعيف التاريخ، وبشرة صارجي في أنطولوجيته التشاركية، ومهدي عامل في افتضاحه بِنى الإنتاج الكولونيالي في المجتمعات العربية، وعادل ضاهر في تأصيله الفلسفي للعلمانية، وناصيف نصار في إيثاره الاستقلال الفلسفي واستثماره وطاقات الحرية البناءة وشيد العمارة النظرية الخليقة بنهضة عربية ثانية، وعلي حرب في فلسفته البعدية ومنطقة التحويلي، وموسى وهبة في تأصيله القول الفلسفي بالعربية وتعريباته الفلسفية الفذة.
ولا عجب بعد ذلك أن ينعقد في الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان، بنظر بعض الباحثين في الكتاب، شيء من الفرادة يتيح لهذا الفكر الغربي المعاصر، ومثل هذه الفرادة إنما تظهر في أوضح صورها في الحقل الأول (تأصيل المعايشة، وفي قطاع واحد من الحقل الثاني، أي إصلاح الفكر العربي، وفي قطاع واحد من الحقل الثالث، ألا وهو القول الفلسفي بالعربية.
إنهاض الفكر العربي
ولا يكتفي «الفلاسفة» اللبنانيون المعاصرين بأداء مثل هذه المهام دون سواها، بل لديهم طموحات أخرى، فالإسهام الفلسفي اللبناني في قطاع إصلاح الفكر العربي قد يُلهم أيضاً كل الفلاسفة العرب المعاصرين الذين يبحثون عن إنهاض الفكر العربي من تأزمه الحديث المزمن.
ويضيف الكتاب: أما إسهامات الفلاسفة اللبنانيين الأخرى، فقيمتها تظل مقترنة بطبيعة الحاجة التي استثارتها، وبعمق الطرح الذي ساقته، وبواقع الأثر الذي تركته في الأذهان وفي البنى، هي قيمة معرفية تاريخية في الحد الأدنى، وستظل على هذا المقام إلى أن يُقبل عليها قوم يستخرجون منها قابلياتها التغييرية الكامنة في ثنايا مبانيها النظرية.
ولكن الكتاب يحسب حسابا للذين ينكرون كل هذه المهام والطموحات لما يسميه بالفكر الفلسفي اللبناني، فيقول:
«أما إذا اعترض بعضهم على مثل هذه الفرادة في الإسهام اللبناني، فأظهر عقم الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان وعجزه عن تغيير الواقع اللبناني، فإن الاعتراض لا يستقيم على وجه، لا بل يظلم الفلاسفة اللبنانيين عوضًا عن أن ينصفهم، ذلك بأن مالات الفكر، مهما تنوعت منابته، تقترن بسيرورة تاريخية شديدة التعقيد، والسيرورة التاريخية اللبنانية المعاصرة مرتهنة بالواقع الجيوسياسي العربي الأوسع، فإذا كانت قد نشأت في منتصف القرن العشرين مشاريع فلسفية عربية واتخذت أشكالاً شتى، ولكن من غير أن تفضي إلى تغيير عمق الواقع العربي، فلمَ الانتقاص من القيمة الفكرية التي قد تنطوي عليها مشاريع الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان حين يثبت للمرأ أنها ما اسهمت إلا بالقدر اليسير في إصلاح الواقع اللبناني؟ فهل تنعكس آراء الفلاسفة العرب المعاصرين في مجتمعاتهم على نحو ما تنعكس آراء فلاسفة الغرب المعاصرين في مجتمعاتهم الغربية؟ إذا أردنا أن نتحرى عن أثر الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان، كان علينا أولاً أن نتحرى عن أثر الفكر الفلسفي المعاصر في المجتمعات العربية كلها. «الفلسفة في لبنان شأنها شأن الفلسفة في جميع المجتمعات العربية، لا بل أكاد أقول في جميع المجتمعات الإنسانية.
الأفكار الإنسانية الجديدة
بيد أن مجتمعات الغرب المتقدمة أخذت تقيم وزناً، منذ عصر الأنوار، لمضامين الأفكار الإنسانية الجديدة التي يتناولها أهل المجتمعات الغربية في يسر وشغف، وهذا له أسباب بنيوية لا مجال للتبسط فيها الآن، حسبُ الفلسفة في لبنان أنها استضاءت بإسهامات فردية يليق بأهل الفكر في المجتمعات العربية أن يعتنوا بها، وأن يستجلوا عناصر خصوبتها الكامنة فيها».
ويعرّف الكتاب بهؤلاء «الفلاسفة» اللبنانيين وبنبذة عن سيرة كل منهم في عالم الفلسفة، فمن هؤلاء «الفلاسفة» من كان غزيراً في كتاباته حتى ناهز الثمانين مؤلفاً (شارل مالك وكمال يوسف الحاج وبولس الخوري وجاد حاتم) على تنوع عظيم في المحاور والموضوعات.
(الفلسفة والدين والسياسة والصوفية والشعر)، ومنهم من اعتدل في إنتاجه فلم يتجاوز العشرين مؤلفاً (رينيه حبشي وفريد جبر وأنطون حميد موراني وناصيف نصار وعلي حرب). ومنهم من اكتفى ببضعة كتب (جيروم غيث ومادج فخري وإيان صقر وجوزف أبو رزق وحسين مروة ومهدي عامل وبشارة صارجي وعادل ضاهر وموسى وهبة) ومنهم من يواصل إلى اليوم الإنشاء الفلسفي في نشاط مطرّد (جاد حاتم وجان قلام ومشير عون).
ومنهم من هم معروفون وأوسع شهرة في العالم العربي (حسين مروة وفريد جبر وماجد فخري ومهدي عامل وناصيف نصار وموسى وهبة).
ومنهم من هم معروفون في العالم الغربي (شارل مالك ورينيه حبشي وبولس الخوري، وإتيان صقر وجاد حاتم وجان قلام ومشير عون) ومنهم من ذاع له صيت سياسي اجتماعي نضالي في المجتمع اللبناني (شارل مالك وحسين مروة وكمال يوسف الحاج وأنطون حميد موراني ومهدي عامل)، ومنهم من نبغوا في إتقان فن الإلهام الفلسفي واستقطاب المريدين من حولهم (جيروم غيث، كمال يوسف الحاج، فريد جبر، جوزف أبو رزق، بشارة صارحي، موسى وهبة) ومنهم من تميزوا بنسكهم وعزلتهم (رينيه حبشي وبولس الخوري، وإتيان صقر ومشير عون) إلا أن معظم هؤلاء الفلاسفة تناولهم البحث الأكاديمي في مقادير شتى، فأُنشئت في أعمالهم أطروحات في الدكتور ورسائل في الماجستير في عدد من الجامعات اللبنانية والعربية والغربية.
باحثون في الفلسفة
هذه هي ملامح عامة عن كتاب: الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان الذي يتضمن فصولاً عن عدد من هؤلاء الفلاسفة، وقد أثرنا تقديم عرض حيادي نزيه للكتاب قبل أن ندلي برأي فيه وفي الفلاسفة الذين يعرض لهم.
ورأينا، بإيجاز، هو أنه من التعسف اعتبار أن هؤلاء الذين يعرض لهم الكتاب، أو أكثرهم على الأقل، هم فلاسفته بالمعنى العلمي للكلمة، فما هم في واقع أمرهم سوى باحثين في شؤون الفكر أو الفلسفة، ولا يرقون إلى مصاف الفلاسفة، باحثون في الفلسفة، أو أساتذة لها، أو دارسون أو مفكرون، وقسم كبير منهم من المثقفين ثقافة غربية، والطامحين إلى حيازة اللقب، ولا يعني هذا أن «الفلاسفة» الآخرين في العالم العربي، أو أكثرهم، يتجاوزونهم بكثير، إذ ليس لدينا في الواقع سوى محاولات محدودة الأهمية في باب الفلسفة لا أكثر ولا أقل. وحتى المتقدم بينهم، وهو الدكتور عبدالرحمن بدوي الذي حذا في فلسفته حذو الفيلسوف الألماني هايدغر، ليس سوى باحث في شؤون الفلسفة لا أكثر ولا أقل رغم إصراره على أنه فيلسوف.
مرحلة التفلسف
ويبدو أن مرحلة التفلسف، أو الفلسفة، في الثقافة العربية، لم يحن أوانها بعد لأسباب موضوعية بحتة، فهذه المرحلة تتطلب نضجاً في الثقافة وفي الفكر، ورقياً في العقل والعقلانية، وتفاعلاً مع الثقافات والحضارات الأخرى، وهذا ما يؤكده تاريخ الفلسفة عند العرب القدماء وعند سواهم، فعند العرب لم تبدأ الفلسفة في الظهور إلا ابتداء من القرن الثالث الهجري، ولم تبدأ الفلسفة عند الغربيين في الظهور إلا بعد أن نضجت ثقافاتهم ومجتمعاتهم، وليس قبل ذلك.
ثم إن التأثر بالثقافة الأجنبية لا ينتج وحده فلسفة، فلا بد للفلسفة من شروط أخرى، ومن هذه الشروط أن تكون أصيلة، أي يكون لها موجب ووظيفة، فالفلسفة ليست ترفا، وإنما هي وثيقة الصلة بالنخبة وبالجمهور وبالواقع على حد سواء.
والواقع أن قسماً من «الفلاسفة» اللبنانيين الذين عرض لهم الكتاب، لا أثر البتة لفلسفتهم في الواقع، ولا يمسّ هذا الذي ينظّرون له، الواقع في شيء
++++يخرج الكاتب بخلاصة :
_عقم الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان وعجزه عن تغيير الواقع.
_السيرورة التاريخية اللبنانية مرتهنة بالواقع الجيوسياسي العربي الأوسع.
_نشأت مشاريع فلسفية عربية لكنها لم تساهم في تغيير الواقع العربي.
_مشاريع الفكر الفلسفي أسهمت بقدر يسير في إصلاح الواقع اللبناني.
_مجتمعات الغرب المتقدمة تقيم وزناً لمضامين الأفكار الإنسانية الجديدة.
_مرحلة التفلسف في الثقافة العربية لم يحن أوانها بعد لأسباب موضوعية.