لا في الماضي ولا في الحاضر، خلت الأرض من ممارسة التمييز ضد مجموعة من الناس، لأسباب مختلفة، لا تستند إلى الفطرة الإنسانية أو الترجيحات العقلية. واليوم، يعد التمييز بين البشر على أساس اعتبارات متعددة، هو أحد أكبر التحديات التي تواجه المجتمعات الإنسانية على مستوى الأفراد والجماعات والدول.
ما معنى التمييز بين البشر؟ ما هي أسبابه وأنواعه؟ وماهي نتائجه وآثاره؟ ولماذا يعد أحد أهم التحديات التي تواجه حقوق الإنسان، بل هو أخطر تلك التحديات؟ وهل كل تمييز بين البشر هو تمييز مرفوض؟ وماهي المعايير التي ينبغي وضعها لإيجاد نوع من التمايز بين البشر يكون محققا للعدالة الاجتماعية؟ وماهي الحلول المقترحة لتحقق المساواة العادلة بين جميع البشر على أساس الفطرة والكرامة؟
مفهوم التمييز
تمييز لغة، يعني التفرقة أو الاختلاف في المعاملة. كما ورد في سورة (يس) في القرآن الكريم إذ قال تعالى: "وامتازوا اليوم أيها المجرمون" بمعنى انفردوا أيها المجرمون عن المؤمنين. أما التمييز قانونا، فيقصد به التفرقة في المعاملة بين الأفراد من ذوي المراكز القانونية المتماثلة، سواء كان ذلك عن طريق إعطاء مزايا أو فرض أعباء، والتي لا يبررها سبب مشروع. فالتمييز المحظور قانونا هو تفرقة، ولكنها تفرقة تعسفية أو غير عادلة أو غير مشروعة؛ لأنها تفتقر إلى أي أساس موضوعي أو معقول.
إن التمييز بالمفهوم اللغوي يعني التفرقة، في حين أن هذا التعريف في المفهوم القانوني قد لا يكون دوماً موفقاً. فالتمييز، وفق المفهوم القانوني، إنما يفيد مفهوم المعاملة الأقل تفضيلاً لشخص ما لسبب محظور، فالتمييز قانوناً ليس مجرد تفرقة وحسب، بل هو شكل من أشكال عدم المساواة بين الأشخاص، خصوصاً أولئك الذين لا يستفيدون من المزايا ذاتها التي يتمتع بها أقرانهم. بتعبير آخر التمييز يعرف بأنه اختلاف غير قانوني، أو اختلاف في المعاملة يقع بين شخصين أو مجموعتين لسبب محظور.
ويمكن تعريف التمييز بأنه (شعور باطني يجبر الإنسان على الإحساس بالفوقية والأفضلية للعنصري البشري الذي ينتمي إليه، سواءً على مستوى اللون أو الجنس أو الديانة أو على أي مستوى من الخصائص الإنسانية، ويتكون عن هذا الشعور سلوك ربما يكون عدوانيا في بعض صوره...)
ويعني (التمييز) في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، أنه (أي تفريق أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو اللغـة أو الدين أو الرأي السياسي أو غير السياسي أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو المولد أو أي وضع آخر ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بجميع حقـوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها على قدم المساواة)
إذن، التمييز هو معاملة شخص أو جماعة من الناس على نحو أقل تفضيلا من شخص أو جماعة أخرى، بسبب عرقهم أو لونهم أو أصلهم القومي أو العرقي أو الجنس أو الحمل أو الحالة الاجتماعية أو العمر أو الإعاقة أو الدين أو الميول الجنسي أو أية صفة أخرى. ويعد التهديد أو خلق جو من العدائية والتحقير او الإذلال نوعا من التمييز.
يحصل التمييز بين البشر على ثلاثة مستويات، هي: المستوى الأول وهو التمييز بين الأفراد، والمستوى الثاني وهو التمييز بين الجماعات، والمستوى الثالث وهو التمييز بين الدول، فأما التمييز بين الأفراد، فهو التمييز الذي يحدث عادة عندما يتعامل فرد أو أكثر ضد فرد أو أكثر بطريقة تختلف عن طريقة تعاملهم مع الآخرين، سواء بالكلام كالتحقير والتقليل من الشأن، أو بالفعل كالقيام بأعمال وتصرفات غير لائقة بحقهم. مثل التمييز الذي يمارسه صاحب العمل بين العمال الوافدين والعمال الأصليين من حيث الاحترام والأجور. وهذا النوع من التمييز قد يكون مقتصرا على حالة فردية يستنكرها المجتمع المحلي، أو قد يكون ظاهرة مجتمعية يمارسها أكثر من فرد، وهي مقبولة إلى حد ما عند المجتمع المحلي.
وأما التمييز بين الجماعات فهو التمييز الذي يصدر عن مجموعة مجتمعية تتصف بصفات معينة بحق المجتمع كله أو بحق مجموعة مجتمعية أخرى لا تتمتع بتلك الصفات، مثل التمييز الذي تمارسه بعض المجموعات القومية التي تتفاخر بأصلها وعرقها بحق مجموعات عرقية أخرى لا تنتسب إلى ذلك الأصل والعرق، ومثل التمييز الذي تمارسه بعض المجموعات الدينية ضد المجموعات الدينية الأخرى أو المجموعات غير الدينية الأخرى، ومثل التمييز الذي يمارسه سكان منطقة ما ضد سكان المناطق الأخرى، مثل التمييز الذي يمارسه بعض سكان العاصمة ضد سكان الولايات الأخرى، أو التمييز الذي يمارسه سكان المدينة ضد سكان الريف من حيث الحضرية والريفية.
وأما التمييز بين الدول فهو التمييز الذي تمارسه بعض الدول ضد دول أخرى لاعتبارات مثل القوة أو الثروة أو التقدم أو التحضر أو ما شابه ذلك. كالتمييز الذي تمارسه الدول المحتلة ضد الدول المحتلة(بالفتح) والتمييز الذي تمارسه الدول الغنية ضد الدول الفقيرة، والتمييز الذي تمارسه الدول الغربية والولايات المتحدة ضد الدول الآسيوية والأفريقية.
وسواء كان التمييز على مستوى الأفراد أنفسهم، أو على مستوى الجماعات المختلفة، أو على مستوى الدول المتعددة، فهو إما أن يكون تمييزا مباشرا، وإما أن يكون تمييزا غير مباشر. والتمييز المباشر هو التمييز الذي يكون بين الطرف المُمارِس للتمييز والطرف المُمارَس التمييز عليه بشكلٍ مباشر ومُعلَن، مثل: رفض قبول شخص ما في مؤسسة تعليمية لكونه ينتمي إلى قومية أو طائفة معينة، والتمييز غير مباشر، وهو التمييز الذي يقع بين الطرف المُمارِس للتمييز والطرف المُمارَس التمييز عليه بشكلٍ غير مباشر وغير مُعلَن، مثل: وضع شروط وقوانين معينة تمنع شخصا ما أو جماعة ما أو مواطنين دولة ما من العمل في منطقة معينة أو دولة معينة بدون سبب واضح لذلك.
والتمييز بين البشر، قد يكون تمييزا غير قانوني، وقد يكون تمييزا قانوني، فأما التمييز غير القانوني فهو التمييز الذي يمارسه أحد الأطراف بحق الطرف الأخر المختلف عنه دون أي سند من قانون أو نظام أو توجيه رسمية، أو عرف أو تقليد اجتماعي، بل هو تصرف استفزازي أو انفعالي، وهو تصرف عابر ومدان، وقد يحاسب مرتكبه. وأما التمييز القانوني فهو التمييز الذي يمارسه أحد الأطراف بحق الطرف الآخر المختلف معه، وله سند من قانون أو نظام أو توجيه رسمية، أو عرف أو تقليد اجتماعي، وهو تصرف محمي إلى حد ما، وقد يتكرر يوميا بناء على الاعتقاد به.
والتمييز بين البشر لا يشمل شريحة مجتمعية بعينها، بل هو يشمل جميع الشرائح المجتمعية باختلاف الأفراد والمجتمعات والدول، فهو قد يمارس ضد أشخاص من شتى الأصـول العنصرية أو الأثنية أو الوطنية أو الاجتماعية، وقد يمارس ضد الأشخاص المنتمين إلى مختلف الأصـول الثقافيـة أو اللغويـة أو الدينيـة. وقد يمارس التمييز ضد أشخاص مستضعفين مثل الأطفال والنساء وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة والمعاقين جسديا أو ذهنيا وغيرهم. وقد يمارس التمييز ضد المهاجرين واللاجئين أو النازحين، ففي السنوات الأخيرة شهدت عدد من بلدان أوروبية زيـادة مقلقـة فـي الاعتداءات على ملتمسي اللجوء والأجانب بصفة عامة بسبب العنصر أو كره الأجانب.
ومع أن التمييز بين البشر هو ظاهرة مجتمعية سلبية مرفوضة إلا أن الأمر ليس مطلقا، بل يمكن أن يكون هناك تمييز إيجابي، يحقق المساواة والعدالة المجتمعية، أي أن الحق في المساواة أمام القانون والمساواة في التمتع بحماية القانون بدون تمييز لا يجعل من كل تمايز في المعاملة تمييزا. فالتمايز القـائم علـى أسـاس المعـايير المعقولة والموضوعية لا يعد من قبيل التمييز المحظور، بل هو مطلوب في ظروف معينة لاعتبارات تتعلق بالجدارة والإبداع والمهارة أو الإنصاف.
فالتمييز بين الذكور والإناث في الوظيفة على أساس الجنس هو تمييز سلبي، ولكن التمييز بين الذكور والأثاث على أساس المهارة في العمل هو تمييز إيجابي. والتمييز في التعامل بين الطلبة في المدارس على أساس الغنى والفقر هو تمييز سلبي، ولكن التمييز في التعامل بين الطلبة المتفوقين وغير المتفوقين هو تمييز إيجابي. والتمييز بين العمال في الأجور على أساس المواطنة هو تمييز سلبي، ولكن التمييز بين العمال على أساس مهارة كل منهم هو تمييز إيجابي.
كما يمكن القول إن التمييز يكون تمييزا إيجابيا أيضا عندما يكون الهدف منه إنصاف شريحة اجتماعية ما قد لحقها ضرر ما، وذلك من خلال اتخاذ جمله من الإجراءات التفضيلية، التي تعطى أفراد هذه الفئة الأولوية في المجالات المختلفة للحياة العامة كالتعليم وتوظيف والتمثيل التشريعي، بهدف إلغاء التمييز (السلبي) الذي مورس ضدها في السابق، وتحقيق المساواة (الفعلية) بينها وبين باقي فئات المجتمع، من خلال منحها حقوقها التي سلبت منها في الماضي، بناء على هذا التعريف فان مفهوم التمييز الايجابي يتناقض مع مفهوم التمييز السلبي ، ولكنه يتسق مع مفهوم المساواة .
وتأسيسا على ما سبق لا يقوم التمييز إذا كان التمايز في المعاملة يستند إلى غايـة مشروعة وإذا لم يفض إلى وقوع حالات تتنافى مع العدالة أو المنطق أو طبيعة الأشـياء. ويلزم عن ذلك أنه لا تمييز في التمايز في معاملة الدولة للأفراد عندما تستند التصـنيفات المختارة إلى تمايز حقيقي واضح، وعندما توجد علاقة تناسبية معقولة بين التمايز وبين أهداف القاعدة القانونية قيد النظر. وقد لا تكون الأهداف غير منصفة أو غير معقولـة، أي أنها قد لا تكون تعسفية أو تحكمية أو استبدادية أو منافية لما هو جوهري من وحدة وكرامة البشر.
وبناء على ما تقدم يمكن القول إن:
1. الناس جميعا سواء أمام القانون، وهم يتساوون في حق التمتع بحماية القانون دونما تمييز، كما يتساوون في حق التمتع بالحماية من أي تمييز، ومن أي تحـريض على مثل هذا التمييز، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولـد، أو أي وضع آخر.
2. التمييز بين البشر وإن كان ظاهرة اجتماعية متكررة ومتجددة؛ لكنه يتنافى مع الفطرة الإنسانية والعقل السليم، وترفضها القوانين الدولية والوطنية الحديثة، لاسيما تلك التي تتصل بحقوق الإنسان وحرياته.
3. التمييز لم يستثن فردا أو مجموعة أو دولة، بل شمل جميع المستويات والفئات المجتمعية، بما فيهم النساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن، وقد تسبب بكوارث اجتماعية لهذه الشرائح وحرمها من حقوقها وحرياتها، وفي مختلف المجالات، مثل السياسة والتعليم والعمل والخدمات الاجتماعية والطبية والإسكان والنظام التأديبي وإنفاذ القوانين وإقامة العدل على وجه العموم.
4. التمييز بين البشر قد يكون تمييزا إيجابيا مقبولا في بعض الأحيان؛ وذلك عندما يستند إلى اختلافات جوهرية عند البشر، وعندما يستند إلى الجدارة والإبداع والمهارة، وعندما يستند إلى قواعد قانونية واجتماعية تنصف فئات مجتمعية عانت من التمييز السلبي ردحا من الزمن، ولكن لابد أن يتقيد هذا الاستثناء بمعايير موضوعية محددة خشية أن ينفلت.