حركة خارج السرب | المَرْحُوم: ماذا لو أصبحت الثّقافة قبْراً؟!
المَرْحُوم: ماذا لو أصبحت الثّقافة قبْراً؟!
2019-11-15 | 1681 مشاهدة
سامي عبد العال
مقالات

” عندما لا ندري ما هي الحياة، كيف يمكننا معرفة ما هو الموت”

     ” الشّجاعة تقودُ إلى الّنجوم… والخوف يقودُ إلى الموتِ”

” المرْحُوم ” كلمة تُطلق على منْ ماتَ، أي انتهى أَجله وأَفِلَّتْ حياتُه. وهي ” نحتٌ ثقافي تاريخي” يبثّ أملاً في رحمة السّماء لمن سقط بالموت. أحياناً استعمال الكلمات يروض الأقدار لصالح آمالنا المنتظرة. ويَبْرِز معناها كنوعٍ من الوعد، العهد، الميثاق بين إله خالص الرّحمة وبين مخلوقاته. لأنَّ كلمة المرحُوم تأتي بصيغة المفعول به تحت ضمان فاعل قادر( أي الله).

فاعلٌ يُفهم تلقائيَّاً بمنطوق الكلمة طالما قررنا الاعتقاد خلفها، وهذا هو جوهر الإيمان الّذي يحرّك ما يصبو إليه المؤمن طبقاً لما يعتقد. ودلالة المرحُوم بها أثر من الانجاز يبقى سارياً مع عملية التكرار. مؤدَّاهٌ: أنَّ هناك سنداً في الدّلالة يترجم المستوى المنطقي لما يتعلّق بها ( أي تمت الرّحمة ). فلو كانت للمرحوم ذكرى معينةٌ أو مواقف مّا، فإنَّه يترك آثاراً من قبيلها عبر الكلام الشّائع ( كانت صفته كذا وكذا: الله يرحمه).

غير أنَّ المعنى ( ثقافياً ) مختلفٌ بالكلية ويناقض ذلك تماماً. حيث يُظْهِر بلوغ الميّت مرحلة السّكون النّشط في اللّغة (هكذا هي مفارقته). فالميّت – بصيغة الغياب لأنَّه لم يعد حياً- كامنٌ في اللغة، ولكن تستدعيه الذاكرة أثناء الحياة من وقت لآخر. هو عندئذ إنسانٌ في صورة الغائب وفي صورة الحاضر معاً. وقد تُنسب إليه عبارات لم تذكر إلاَّ تواً، ذلك كونِّه ميتاً منذ فترة قصرت أو طالت، وأيضاً أصبحت مكانتُه قيدَ التواتر بين الناس. أي أنَّه غدا ميتاً معتَّقاً له قيمته التي ربما لم تُعرف أثناء حياته.

ومعنى المرحُوم يبلغ في مناوشة للاوعينا الجمعي درجةً بعيدة، حتى أنَّه يُسائل الحياة، حياتنا وحياة الآخرين. لأنَّه سيمثل معياراً norm لما ينبغي فعله، حاملاً معه ماذا سيكون موضوع التفكير وكيف سنفكر وإلى أي مدى سنرتبط بالزمن الماضي دون سواه كما سنحلل تباعاً. لأنه صار موضوعاً ثقافياً مهماً لمن يعيش الثقافة ويمارس المفقود منها.

على سبيل التّوضيح، حين يموت “مثقف” يصبح خلال الفضاءات الثقافيّة – كالفضاء العربي الإسلامي- أيقونةً بعدما كان مُهملاً. قُلْ ذلك حول الساسة والفقهاء والشيوخ وأصحاب المناصب ورجال العلم ورموز الأوطان وأبطال القصص. وربما تلاصقهم ايحاءات وإشارات لم تكن لترد عنهم وهم أحياء فوق الأرض. ولربما تذهب صورتهم إلى خيال يعطى الأفراد أبعاداً أخرى للواقع والأشياء. ورغم انسحاب الفكرة على ما يحدث وراء دلالة الموت بحكم الذاكرة والحنين إلى الماضي، إلاَّ أنها ضمن حدود الثقافة السائدة تعدُّ آليةَ حياةٍ وذهنيةَ تفكيرٍ في المجتمعات الشرقية عرباً وغير عربٍ( الثقافة الصينية والهندية واليابانية).

إنَّ هناك قداسةً خاصة للآباء والأجداد في الثقافة الصينية، لدرجة أنَّ خرائط الأنساب والنسل في الصين تحفظ عن ظهر قلب وتورث من جيل إلى آخر، تحفظ بواسطة مدونات سردية لهذه الأغراض وتدوَّن بجوارها الحِكم والمأثورات والقصص وسير الحياة والخطب والنصائح والمواعظ. أي يدبج الناس كتيبات وأوراق كصحائف تنقش عليها الأعمال والإحداث الشخصية( كتاب الأعمال بالنسبة للأفراد). وقد اعتبر الصينيون أنَّ النسل( سلفاً وخلفاً) يحدد الولاء لأقدار الطبيعة داخل الإنسان، ويلحقها بقيم العائلة والطاعة والانتماء والخلاص والتراتب والرأسمال الاجتماعي.

والفكرة ذاتها متغلغلة في ثقافتنا الشعبية التقليدية، فهناك خرائط الانساب وحفاظها واشجار العائلات التي تتفرع منها رأسمالية النسب لدى العرب، لأنها معتمدة على القداسة والشرف والفضائل وخلوص المصاهرة وبذور السلف الصالح. وقد لعبت القبيلة والعشيرة والأسرة دوراً في دفن هذا الوضع المتراتب ضمن حفريات الثقافة واعادة انتاجها. وقد دخلت الفكرة كمعيار في التنقيب عن تاريخ الأشخاص وافعالهم وماذا سيؤولون إليه تبعاً لشجرة العائلة. ورغم أن الأجيال هم ثمار اشجار النسب إلاَّ أن جذورها وبذورها لا يمتلكونها ولا فضل لهم في زرع فسائل جديدة. والخلط لا يعوزه الشرح بين نسب أشخاص خارج ارادتهم وبين الاعمال والمسؤولية الموكلة إليهم إزاء المستقبل، حيث لا تفيد حتى غابة من النسب والأصول!!

إلى تلك النقطة: هل يمكن أنْ تحول الثقافة أحياءَها إلى مجرد سرديات ” قبور” لندرك أهميتهم؟ وهل تزداد قيمة المثقف( مفكراً، أديباً، كاتباً) بعد مماته رغم أنَّه كان حياً؟ ماذا يُضاف إلى الإنسان حين يموت ليستعيد مكانته؟ لماذا كلمات الرحمة على الأموات تتعلق بمعان ترتبط بالأصالة والقيمة والخيال؟! وهل يمثل ذلك قضية مهمةً على خريطة الأفكار والعقل؟!

بؤرة الإشكال أنَّ هذا المرحوم” مقولة مسيَّسة” في الثقافة العربية الاسلامية إزاء مجالات الفكر والإبداع والكتابة. وتكاد تمثل منزلة ليس بين المنزلتين على طريقة المعتزلة في مرتكب الكبيرة، إنما تدخل في كل المنازل لدينا. فقد تخطى المرحوم حاجز الحياة والوعي الغُفل. الطريف أن المرحوم تصبح له نكهة خاصة وأكثر دلالة بمجرد أن يقطن القبر. مع أنه عندما كان حيا ًلم يلتفت إليه أحدٌ، وكم أكله الاهمال وكان طي الظلال لا يكاد يطفو.

ومن جراء التقديس، يقال كان المثقف المرحوم(فلان) يتحدث في كذا وكذا، كان الأديب( فلان) الذي اسهم هنا أو هناك، كان المناضل (فلان) له مواقف من الجرأة والحماسة ما تراه الاجيال اللاحقة جديراً بالاعتبار. رغم أن هؤلاء المثقفين سواء أكانوا أدباء أم مفكرين أم مناضلين لم يعرهم أحدٌ أيَّة عناية، وكانوا مادة متواصلة للسخرية واستهزاء الأنظمة الاجتماعية والسياسية. كيف تتجاهل ثقافة الحياة بينما تعطي أهمية لمن يغادرها؟!

” قبور الثقافة” عبارة عن تحول بعض المساحات الثقافية إلى قبر ضخم( حفرة رمزية وسلطوية) للإنسان حياً وميتاً. الفارق أنَّ دلالة الحياة بالنسبة لهذه الثقافة تُغيِّب قيمة الأحياء لصالح الأموات. حتى إذا كان الإنسان حيَّاً، فلا يحظى بالمكانة والتأثير والفاعلية كما يجب. ويظل كائناً مقصيَّاً على هامش المجتمع، فإنْ مات صارت له صبغة التقديس. والثقافة العربية باسم آخر قد تحول القدرات الحية للأشخاص والرموز والأفعال إلى أرصدة لسلفٍ يجب أن تمر عليهم دهورٌ حتى ينالوا مكانةً في اللاوعي الجمعي.

أي أن هناك في المجتمعات العربية الاسلامية مجالاً لتقديس الأموات وتنصيب الغابرين كأسلاف أفذاذ في الفكر والدين والاعتقاد والحياة ذاتها. حتى قيل ” ليس في الإمكان أبدع مما كان”. وهذا النوع من الحياة يقلل من شأن الإنسان ويكتب سيراً ذاتية للأفراد والعلاقات والجماعات بصيغة الموت ويعطي الحياة المعيشة مرتبة أدنى باستمرار. وهو ما ينعكس على  رؤيتنا لأنفسنا ولتطور الحضارة والاسهام في مسيرة الإنسانية وبأي معنى نعيش عصرنا الراهن وكيف نحيا داخل الزمن و أية مواضع لأقدامنا من العالم والثقافات الأخرى. بالإجمال إنه موقف يلغي وجود الاجيال الجديدة ويجعل من المستقبل تبغاً فارغاً للقدماء.

هل سيظل المثقفون العرب ينتظرون حتى يموتوا لنيل مكانتهم في الحياة؟ اللعبة التاريخية أن قبور الثقافة( أو موت ثقافة) تعيش بأفرادها الحياة لإلقاء الأهمية على الموت دون مبرر إلا من ميراث طويل يمجد الماضي ويحتقر الحاضر، يضفي هالات النورانية والخلود على الموتى، يركز عنايته صوب الأطلال والآثار وصور العابرين وأئمة السلف وكبراء القوم والرموز الماضية دون التفات إلى صناعة الحياة. حتى سميت الحياة – في شرقنا العربي الإسلامي- بالحياة الدُّنيا كدلالة على الازدراء والحط من قدر الأحياء الزائلين.  وإذا كانت التسمية مأخوذة من الدين، فالسرديات الدينية تستعاد مع ثقافة الأموات على نحو يحمل نكاية وتشفي بلغة الموت في الأحياء حتى وهم على قيد الحياة.

الوضع مقلوب رأساً على عقب، فالموت يغدُو كأنَّه شرط لممارسة الحياة. تقول الثقافة في هذا الشرط: عليكم أن تموتوا كي تستطيعون أن تعيشوا في ذاكرة المجتمعات، بل حتى تكونوا مؤثرين يجب لكم الموت كمداً. وهذا أحد الأمور الغريبة التي لا توجد إلاَّ في ثقافات شرقية تهتم بعبادة الأجداد وتعتبرهم الأحياء الحقيقيين وأنَّهم من يحكم تصورات أبنائهم وعلاقاتهم من القبور. والأخطر أنْ الدعوة مفتوحة للموت في شكل اهمال أو ديكتاتورية أو فساد أو تفاهة أو سيادة أنماط التخلف. لأنَّ الحياة والأحياء لا اعتبار لهم ولن يؤثروا بالمنطق ذاته في الحياة الاجتماعية.

ولكم رأينا في ثقافتنا العربية مفكرين ماتوا وهم أحياء بينما نالوا من الشهرة بعد موتهم ما نالوا، وكم رأينا سياسيين نفقوا نتيجة مواقفهم التي لم تذكر إلاَّ حين اغتيلوا أو تلاعبت بهم الأقدار. وكم رأينا العلماء والباحثين الذين دهستهم الحياة وأكلهم الفقر دون مُنقذ، وكم  عرفنا عن أدباء أدمنوا التشرد والصعلكة حتى سقطت مهابتهم بلا طائل، وكم عرفنا مناضلين تلاشت سيرهم وهم أحياء يصارعون الصمت، وكم ذابت حقائق ومواقف وأحداث كأنها شيء لم يكن نتيجة النسيان. وأنا وأنت وهم وهؤلاء والمجهول سواء بسواء على المصير نفسه. كان نجيب محفوظ يردد” إنَّ آفة حارتنا النسيان”، يقصد آفة المجتمعات العربية (ومصر خاصة) هو السقوط في الزمن من أول وهلةٍ. وكأن الزمن ليس إلا مادة سحرية تذيب أية فاعلية انسانية في الحياة. ولا يحملنا على التعلم والتطور إلا لماماً وراء الأشباح والصور الباهتة.