حركة خارج السرب | عودة جدل "العثمانلي" إلى جبل لبنان.. وقائع التاريخ في خضم السياسة
عودة جدل "العثمانلي" إلى جبل لبنان.. وقائع التاريخ في خضم السياسة
2019-09-07 | 1951 مشاهدة
عمران عبد الله - الجزيرة
مقالات

تصاعدت على مدار الأيام الأخيرة وتيرة ردود الفعل على تصريحات الرئيس اللبناني ميشال عون بشأن الحقبة العثمانية في لبنان.

وكان عون قد كتب عدة تغريدات على حسابه الشخصي على موقع تويتر بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس لبنان، واتهم فيها "إرهاب الدولة الذي مارسه العثمانيون" بالمسؤولية عن مئات آلاف الضحايا.

 

 

وأدانت الخارجية التركية تصريحات عون واعتبرته تصريحاً كيدياً وتحريفاً للتاريخ، مؤكدةً أن العهد العثماني كان عهد استقرار طويل في الشرق الأوسط وساد فيه التسامح أجواء المجتمعات المختلفة دينياً.

 

 

وتداول نشطاء لبنانيون في تعليقات امتزجت فيها السياسة بالوقائع التاريخية وجهات نظر متباينة حول الحقبة العثمانية في تاريخ لبنان.

رغم أن السياق الإقليمي والمحلي المحتقن قد يفسر تصريحات الرئيس اللبناني أكثر من الوقائع التاريخية، فقد استخدم مصطلح "الإرهاب" الذي لم يكن متداولاً حينها، ويرتبط بدلالة معاصرة خاصة.

ويرى كثير من المؤرخين أن "اللبنانيين" أي أهل جبل لبنان تميزوا عن عموم المواطنين العثمانيين بحكم ذاتي يشبه الاستقلال بضمانات أوروبية بالعهد العثماني، حتى جاءت الحرب العالمية الأولى بكوارثها في أوروبا والشرق الأوسط.

"لبنان العثمانية"
عام 1516 بسط السلطان سليم الأول نفوذه على أراضي لبنان الحالية ضمن المناطق الجبلية من سوريا وفلسطين، وتولى فخر الدين المعني من الأسرة المعنية الدرزية إدارة البلاد بتكليف من العثمانيين.

وبعدها حكمت أسر آل حرفوش وآل علي الصغير والأسرة الشهابية -التي أسست الإمارة الشهابية اللبنانية- والجنبلاطيون وآل أرسلان المناطق التي سميت لبنان فيما بعد، وكان الوالي في الغالب يُنتخب من قبل الأعيان المسلمين والمسيحيين، ويتعهد بدفع الضرائب للسلطات حتى سقوط لبنان في قبضة الوالي المصري المتمرد على السلطنة محمد علي باشا عام 1831م.

وبعد إجبار الباشا المصري على الرحيل بداية أربعينيات القرن 19 حدثت انتفاضات شعبية وصراعات عنيفة بين الدروز والموارنة، فأرسل العثمانيون قوات عسكرية سيطرت على البلاد وتحولت إمارة لبنان إلى ولاية عثمانية عادية بعد أن كانت شبه مستقلة عن السلطنة، وأجرى الحاكم التركي استفتاء عام 1842 أظهر رغبة الموارنة في حكم أسرة الشهاب في حين رغب الدروز بالحكم التركي المباشر.


وبعد انهيار الإمارة الشهابية اللبنانية نتيجة الخلاف الدرزي المسيحي، توصل الباب العالي العثماني وممثلو الدول الأوروبية في الآستانة لمشروع جديد لحكم جبل لبنان عبر مقاطعتين شمالية يحكمها قائممقام مسيحي وجنوبية يحكمها قائممقام درزي، وكان البريطانيون يدعمون الدروز في وقت دعم الفرنسيون حلفاءهم الموارنة.

وبسبب الفتن الطائفية انتهى عهد "القائممقاميتين" سنة 1861، وقام نظام "المتصرفية" الذي أقرته السلطنة العثمانية مع خمس دول أوروبية.

ويقر النظام الجديد إدارة جبل لبنان عبر متصرف مسيحي عثماني ومجلس إدارة يشترك فيه الموارنة والدروز مع ممثلين من السنة والشيعة وبقية الطوائف.

ورغم التدخلات الأوروبية الواسعة، استمر نظام المتصرفية حتى الحرب الكونية الأولى، وشهدت سنوات الحرب مجاعات واضطرابات هائلة، خصوصاً عهد جمال باشا الحاكم العسكري على سوريا. وبعد الحرب اقتسمت بريطانيا وفرنسا المشرق العربي وأصبحت البلاد تحت الانتداب الفرنسي بقرار من عصبة الأمم 1918.

قراءات المعاصرين
في كتابها "البلاد العربية في ظل الحكم العثماني 1516-1800" تقدم الأكاديمية الأميركية جين هاثاوي ما تسميه إعادة تقويم آثار الحكم العثماني بالبلاد العربية.

ويتحدى الكتاب -الذي صدرت ترجمته حديثاً عن دار الروافد الثقافية- الصورة النمطية عن العثمانية كمرحلة فاسدة مهدت لصعود القومية العربية والدول الوطنية بالقرنين 19 و20، في المقابل ترى هاثاوي أن جذور المشرق الحديث اليوم تعود للحقبة العثمانية.


وترى المؤلفة أن النخبة الإدارية الحاكمة في البلاد العربية لم تكن منفصلة عن السكان الأصليين، في المقابل مارس القضاة سلطات مستقلة عن الوالي، وترى أن الإنتاج الزراعي كان موجهاً في الغالب للاستهلاك المحلي في نفس الولايات التي تزرعه حتى منتصف القرن 19 على الأقل.

وتخالف هاثاوي الفرضية القومية التي تعتبر أن السيطرة العثمانية على الأراضي العربية أدت إلى قرون من الصراع والاضطهاد، مؤكدة أنه لا يمكن فهم العرب -في هذه الحقبة- خارج اندماجهم في المجال العثماني.

كما أنها تعرضت لموقع العلماء والنخبة بالمجتمع والطرق الصوفية والحياة الحضرية والريفية، وكذلك المجموعات الهامشية والأقليات، معتبرة أن العرب كانوا كياناً متميزاً داخل الامبراطورية وعبروا عن تميزهم من خلال تقديم مساهمات سياسية وثقافية فريدة في سير الدولة لتحويلها إلى شيء جديد. وبشكل عام، فإن الأراضي العربية تحت الحكم العثماني غنية بالتفاصيل بحيث لا يمكن تلخيصها.


عربستان
ويتفق الأكاديمي الأميركي بروس ماسترز في كتابه "عرب الإمبراطورية العثمانية.. تاريخ ثقافي واجتماعي 1516-1918" مع هاثاوي في التأكيد على تعاون العرب مع الأتراك بالمشروع العثماني، مركزاً على دور علماء الدين وطبقة الأعيان في إضفاء الشرعية على النظام العثماني وتأييده والحفاظ على الإمبراطورية.

ويرى ماسترز -في كتابه الذي نشرت ترجمته دار الروافد أيضاً- الدولة العثمانية إمبراطورية فيدرالية فضفاضة تجتمع عبر نظام امتيازات الضرائب، ويحسب أن العرب بشكل عام كانوا راضين عن الحكم العثماني وأن التمردات كانت تهدف عادة إلى عزل مسؤولين محليين وليس الانفصال عن الحكم العثماني ككل، لكن التعدي الأوروبي وحل الإمبراطورية نهاية المطاف جعل البلاد العربية على مفترق طرق.

كما تعرض في كتابه الثاني "المسيحيون واليهود في العالم العربي العثماني.. جذور الطائفية" لموقع المسيحيين داخل الإمبراطورية بالأناضول وبلاد الشام والعراق، وللمدارس الدينية والكنائس المختلفة، متناولاً الإصلاحات الدستورية "التنظيمات" التي دعمها الأرمن واليهود والأقباط والمسيحيون الأرثوذكس في حين أثارت استياء غالبية المسلمين بسبب ما اعتبروه امتيازات تفضيلية.

وسمى العثمانيون الأراضي جنوب البلاد "عربستان" أي بلاد العرب، وكانت بلاد الشام تطلق على الأرياف والبلدان التابعة لدمشق. في المقابل كان لبنان تسمية محلية تشير إلى منطقة جبلية أصغر، وعلى جانب آخر كان الأوروبيون وحدهم الذين يميزون بين سوريا وفلسطين.