حركة خارج السرب | هاوية الماضي وسراب المستقبل
هاوية الماضي وسراب المستقبل
2019-08-18 | 1881 مشاهدة
نوري الجراح
مقالات

كثيرة هي الأسئلة المرجأة للفكر، ولعل أكثرها غيابا في طيات الوعي هو سؤال المستقبل، ففي ظل حاضر عربي مضطرب ومتفجر، تبدو الثقافة العربية عاجزة عن طرح هذا السؤال ومقاربته بصورة عقلانية، مادامت لم تنجز إجابة شافية تتعلق بالحاضر. أين نحن الآن؟ شعوبا ومجتمعات ونخبا ومثقفين؟ وما هو المشروع الذي يسوغ وجودنا كأمة لها لسان وإرث وتاريخ؟ وما هي طموحاتنا وتطلعاتنا؟ وكيف نرى ذواتنا أفرادا وجماعات في ظل الاضطراب الحاصل، والقلق العظيم الذي يملأ الصدور ويعصف بالوجدان، وقد وقع الزلزال وها هو الحريق يتسع ليلتهم البشر والحجر، ويكاد يفكك الجغرافيات ويأتي على وجود طالما ألفناه بحلوه ومره، واستنمنا إلى صوره فلم نشأ فيها تبديلا.

وإذا ما قلبنا في الأسباب وقفنا على حيرتنا من كثرة الأسباب، فاللغة القديمة سبب، وسؤال الهوية سبب، والتخلف العلمي سبب، والنكوص الفكري سبب، وهيمنة القديم على الجديد سبب، وضعف العقلانية سبب، وغياب الحريات سبب، والفساد المجتمعي المنتشر أفقيا وعموديا سبب، وكذا إلى آخر تلك السلسلة من الآفات الفاشية.


***

وإذا ما اعتبرنا أن الأسباب هي بدورها نتاج لخلل أكبر خلاصته تلك المراوحة الحضارية في ماض مقيم في حاضر ولا يريد أن يتزحزح عن درب المستقبل، أدركنا الوهدة العميقة التي أقمنا فيها قرونا، وما برحنا فيها نقيم، فما نكاد نميز الأفق من السراب.

فإذا ما لاح في أفق الوجود العربي في المجتمعات التي حكمتها أيديولوجيات العسكر سؤال التغيير، واجتمعت الحشود في الساحات، وارتفعت الصرخات تطالب بالحرية والكرامة والمجتمع المدني والدولة الحديثة، وبصيغ جديدة لأجيال جديدة، إذا بسماء الحاضر تغص برايات الماضي، ودعوات العودة إلى المثال تختطف الواقع، والحنين إلى أصول موهومة يصادر العقل ويدفع بالجموع إلى هاوية الخرافة العنف. فالأيديولوجيات الشمولية ماتت في كل مكان إلا في هذا الشرق المثقل بماضيه. والعقلانية نهضت ورسخت في الجوار الأوروبي وفي كل صقع، إلا هنا، في أرض الروايات الأولى، التي ما برحت تمد الاستبداد بأسباب تؤبده، وتعيد إنتاجه أشد قوة وأكثر مكرا، وتعطي الغريم الذرائع للهيمنة على الشعوب وخياراتها، وطرق التجارة وممراتها في مضائق البحار وشعاب اليابسة. فتتداخل أسباب المستبد بأسباب الغريم، وشره القوى المتسيدة في العالم بالتطلعات الثأرية لأمم في الإقليم مجاورة هزمها الصعود العربي في الماضي، وأورثها انتصاره عليها جروحا نرجسية ما برحت تغذي فيها رغبات الثأر. فإذا بأمثلتها حاضرة في رايات تقسّم الدين إلى مذاهب، والجموع إلى خنادق متعادية.

كرنفال دموي ومواكب جائعة إلى الموت كلما سقطت أمامها عاصمة ازداد شرّها وتطلعت إلى عاصمة أخرى من عواصم العرب.

وبالعبارة الصريحة، هناك ثلاثة مشاريع مستحيلة، إنما يمكن للفشل العربي في مواجهتها أن يحيلها إلى كابوس ماحق يذهب بكل ما أنجزه العرب في تاريخهم الحديث: مشروع أيديولوجي إيراني يريد أن يسيِّد الخرافة على العقل، ومشروع انتهازي تركي يريد أن يملأ الفراغ ويحصد الغنائم، ومشروع استيطاني إسرائيلي مقيم في قلب الخارطة العربية، متمتع بأسباب القوة العلمية ومتخم بالسلاح، ويملك القدرة على تغذية أشكال عدة من الصراعات في المنطقة، ويعتاش على وجوده مستبدون رفعوا رايات القومية وعسكروا تحتها الحياة العربية، فصادروا الحريات وانتهكوا الكرامات، ومن ثم أفسدوا كل شكل من أشكال الحياة الطبيعية في المنطقة.

أما وقد نبتت لكلا المشروعين، الإيراني والتركي أنياب ومستوطنات في سوريا ولبنان والعراق واليمن، فقد تساويا في النزعة العسكرية مع المشروع الثالث، وباتت خمس من عواصم العرب تحت الاحتلال.

ما سلف ليس خبرا جديدا، فقد طارت أخبار العرب وأحوالهم الغريبة والأليمة في أربع جهات الأرض. فحارت بهم الأمم كما حارت بهم أقدامهم؛ أين يمضون، وأي السبل يمكن لأجيالهم الجديدة أن تسلك لتتجنب هاويات الماضي، وتعثرَ على ضوء المستقبل.


***

هل يكفي أن نتعلق بأذيال الذرائع لئلا نجيب عن الأسئلة الصعبة. وكيف لنا أن نزحزح صخرة الحاضر عن سبيل المستقبل، مادمنا نهرب من الحقائق إلى الأوهام، ونملأ الحاضر بالعثرات.

وكيف لنا بعد كل ما جرى ويجري من دم ودموع وانهيارات أن نزحزح ونفكك لغز السؤال، إن لم نستنجد بالعقل ونحرر أجنحة الحلم من قيود الخرافة؟ وهل هناك مرآة أوضح من ثقافة الحقيقة يمكن للأمم أن ترى ذاتها من خلالها؟ هل من أفق يمكن تَرَسُّمه بعيدا عن الفكر وقراءاته للواقع والأحوال وللوقائع والتحولات، لا سيما في المنعطفات الكبرى التي تشهدها الأمم والاضطرابات التي تحيق بالمجتمعات؟


***

مبكرا، ومنذ العدد الأول من “الجديد” طرحنا السؤال في الأسباب التي أدت إلى طغيان المشاريع غير العربية في المنطقة مقابل غياب فادح لأي ملمح يوحي بإمكان توليد مشروع حضاري عربي؛ اقتصادي، ثقافي، سياسي بعيد عن آفات الأيديولوجيا، مشروع عقلاني عربي متعدد الأوجه، يسمح بمواجهة طموحات المشروعات ذات الطابع الأيديولوجي الشمولي، أو تلك التي تتطلع إلى الهيمنة على المنطقة العربية. لا سيما ما ظهر منها بفعل الفرص التي أتاحتها ارتدادات “الربيع العربي” وأدت إلى تكامل الأهداف بين المشروعات الثلاثة المشار إليها في ظل تعثر ولادة مشروع تحديثي عربي جريء وطموح ينقل العرب من أشكال الحياة المراوحة في الماضي إلى نظم حكم ومجتمعات تعترف بسنن التطور ومقتضياته وتنقل العرب من الظلمة على النور وتضعهم مرة أخرى تحت شمس العصر.

***

إن غياب العقلانية عن جل المشروعات التي نظمت حياة الناس في العالم العربي، ما خلا بعض الاستثناءات، ولجوء النخب الحاكمة إلى الهيمنة على المجتمعات تحت شعارات قومية باهظة (على رأسها قضية فلسطين بوصفها “قضية مركزية”) لم تقدم لأجل معانيها إلا الهزائم والخسارات، مقابل مصادرة الحقوق المدنية وطرائق التفكير، وحشد الجموع تحت شعارات أفرغت من المعنى، هو من بين أولى الأسباب التي أوصلت المجتمعات إلى الحضيض. فلا حياة آمنة مطمئنة ومنتجة للأفراد والجماعات، ولا إدراك لقيمة التنوع، إثنيا كان أو قوميا، أو ثقافيا، في ظل الفكرة العربية، والشعار العربي، وقد التقطته النخبة العسكرية وجعلته سلاحها الأمضى في مواجهة الناس لتحكمهم بالحديد والنار متعللة ومتقنعة بأقنعة زائفة وباسم قضاياهم الكبرى.


***

واليوم بات في وسع العربي أن يتحدث عن غياب العقلانية على كل صعيد، فكريا وسياسيا واقتصاديا. فكل شيء هنا، في الشعار، على مدار العقود كان كبيرا وباهظ الثمن.. والمقابل لا شيء؛ فقر وافتقار وفساد وإفساد، وانحطاط تلو انحطاط. وصولا إلى الدرك الأسفل من كل خطأ وخطيئة.


***

لقد أدى فساد النظم ذات الطابع العسكري والأيديولوجيات الشمولية بفعل عسكرة المجتمعات بصورة قهرية، ومصادرة حقوق الأفراد وتطلعاتهم، وتكميم أفواه المعبرين عنهم إلى تهميش النخب المثقفة وشل إرادتها، ثم استتباعها أو تدميرها، وتحويل الجموع إلى قطعان مسلوبة الإرادة تدين للحاكم المطلق بالصلاحيات المتصرف بها تصرف الآلهة بعبيدها، يقرر لها ما يراه، ويحدد لها مصائرها وفق مصلحته الشخصية وما يتفق ومصالح منظومته العائلية ذات الطابع المافيوي، في ظل مناخ من الصمت المهول عن جرائمه ومفاسده، حتى باتت هذه الجموع تلهج باسمه ليل نهار، وتمجد شخصه المهيمن، وقد ملأت صوره جدران المدن واحتلت حتى الحائط الشخصي في البيت والمتجر والنادي والمدرسة والحديقة العامة، ناهيك عن البنك ومركز البريد وسائر مباني الحكومة والإدارات والوزارات والبلديات، بل والملهى الليلي، وكل متنفس يمكن أن يهبّ منه هواء تتلقفه الرئات التائقة إلى الحياة.


***

إنه الدكتاتور. وهو الأب والمعلم والقائد والقدوة في المجتمع. حتى إذا بلغ القهر ذروته وتكشفت الحقائق عن الفساد والظلم والاستعباد ذروة لا احتمال للناس بعدها، وباتت الحياة للناس فضيحة أخلاقية، وانتفض الشباب يطالب بالتغيير، طلبا للخلاص، أخرج الدكتاتور عسكره إلى الشارع وأطلق يد زبانيته فإذا بها عصابات لا تنتمي إلى المجتمع، وإنما هي أيضا قطعان مأمورة يسوقها ربّها الأرضي إلى حيث تصطدم بالمواطنين المحرومين من مواطنيتهم، فتهلكهم أو تهلك.

***

على أن الفتق بات واسعا وما من راتق يمكنه أن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه. هنا، عند هذه الحقيقة، سوف يقف الدكتاتور المهدد من قبل شعبه أمام المرآة، ويفكر: أكون أو لا أكون.. إذن ما العمل؟

حقا، ما العمل بالنسبة إلى من وضع نفسه في مواجهة المجتمع كله. الجواب بسيط، فما دامت قواه الذاتية لا تكفي فلا بد إذن من فتح الأبواب للحلفاء والمرتزقة ولكل من له مصلحة في مشاركته بإخماد هذا الغضب واستغلال التطورات لمصلحته. هكذا فكر الأخ الأكبر، وهكذا تصرف لتحل الكوارث الكبرى في أربع عواصم عربية شهدت الهبّات الغاضبة وعرفت الاحتلال الأجنبي.


***

إن الضربات التي وجهت إلى التطلعات الشبابية من بغداد إلى بيروت ومن دمشق إلى صنعاء، بفعل عسكرة الاحتجاجات السلمية، واستقدام المرتزقة من كل مكان إنما استهدفت تحويل الآدميين إلى وحوش، وأحلام المستقبل إلى كوابيس. لكن الأجيال العربية الجديدة التي تنسمت هواء الحرية، وتمكنت من أدوات العصر، أدركت بالخبرة ما للثقافة الحديثة القائمة على قوة العقل من دور في التغيير، وهي لن تقبل أن تعود إلى كهوف الظلام، ولا أن تسمح لأشباح الماضي وعصور الخرافة بمواصلة احتلال ثقافة الحاضر، فهي في الخلاصة تنتمي إلى هذا العصر أكثر من كافة الأجيال التي سبقت، وستظل تنظر جهة المستقبل.