1- ردود حول التحديات الأخلاقية والوجودية في المجتمعات المعاصرة
فرضت التحولات السياسية والإجتماعية والعلمية والتقنية والطبية طرح أسئلة جديدة حول ماهية الإنسان وبنيته الجسدية وطبيعته البشرية ومشروعية التدخل في تغيير بنائه الجسمي والروحي. هكذا أصبح الحديث عن “ما بعد الإنسان” مع ما يطرحه من مشاكل عملية وأخلاقية وجمالية تستحضر أبعاد التدخل الصناعي والتقني في القدر الطبيعي للكائن البشري. رافق هذه التحولات نزوعا نحو التشكيك في مقولة “النظام الطبيعي” و”العناية الإلهية”، وردود فعل همّت الأساس الأخلاقي والقيمي لوجود الإنسان في العالم، خاصة من الأطراف التي لم تشارك في الثورات العلمية والبيولوجية والبيوتقنية الحديثة. هكذا تعالت الدعوات إلى الإرتداد ل”النفس العميقة” وإحياء “الهويات الخاصة والنوعية” وتنظيم هجرة إلى تلك “الإنسانية” التي تضمن وجودا مطمئنا دينيا وأخلاقيا. في هذا السياق يؤكد فتحي المسكيني أن “الشعوب لا تصبح واعية بهويتها أو بذاتها أو بوجودها التاريخي عندما تتبنى معرفة بالطبيعة أو تبني علما فيزيائيا أو فلسفة، بل إنها تصبح قادرة على الوعي بنفسها عندما ترسم لوحة عامة للخير والشر ولجملة القيم الأخلاقية، فانطلاقا من هذا الرسم يبدأ التاريخ الروحي أو حتى التاريخ السياسي، أو تاريخ التاريخ.
يكفي إذن إعادة تنشيط الثنائية التي رُسمت بها هذه اللوحة كي نستعيد أصالتنا، وبالتالي الإمساك مرة ثانية بموروثنا وبقواعدنا الدينية والأخلاقية، خاصة مع الدور الذي لعبته “فلسفة ما بعد الحداثة” في فتح الباب أما عودة الدين إلى ساحة النقاش والتداول. ويمكن هنا الإسترشاد بأفكار فلاسفة كبار كفريديريك شلايرماخر ويورغن هابرماس وجوزف راتسينغر(البابا بندكتس 16) وهانس غدامير وشارل تايلر وبول ريكور وميشيل أنفراي، حول دور الدين في ظل الدولة الرأسمالية الليبرالية ومجتمعات ما بعد العلمانية أو ما بعد الميتافيزيقا، وحول قيمة التعاون بين العقل والإيمان، ونجاعة المقاربة اللاهوتية والفهم الديني للواقع وللحقيقة، مع تلك الإمكانية التي يمنحها الدين لمراقبة عقل أنتج القنبلة الذرية والكارثة الإيكولوجية والهندسة الوراثية والتغيير الجيني المضاد لمشيئة الطبيعة أو الله.
كما يمكن الإستئناس بالعودة الحميدة للفلسفة التحليلية الأنجلوساكسونية للميتافيزيقا والأنطولوجيا، في ظل قصور المعقولية العلمية في بناء نموذج تفسيري للواقع، وللفلسفة الفرنسية التي راحت مع فلاسفتها المعاصرين إلى التأكيد على “الفضائل الكبرى” والقيم الأخلاقية والثقافية والروحية اليهودية والمسيحية كما عند أندري كومت سبونفيل، في ظل إحساس قوي بهشاشة الغرب وتراجع قوته وبداية أفول الحضارة اليهودية المسيحية كما عند ميشيل أنفراي.
تمنح أفكار ومواقف هؤلاء الفلاسفة مشروعية القول في الأخلاق والكلام عن فلسفة الدّين في مجتمعات تقليدية (يسميها الأستاذ نور الدين أفاية مجتمعات دينية أو متدينة) لها علاقة قوية مع الموروث الديني، أي مع تلك “الأبعاد الروحية والوجدانية والإجتماعية والقيم المتعالية”. وهنا وجب الإشارة إلى الهرولة الأخيرة للأساتذة الجامعيين إلى خلق مسالك تهم فلسفة الدّين، وتحرير نصوص في أمور الدّين والتديّن والإصلاح والتجديد الدينيين، رغم إنجازهم لأطروحات بعيدة عن الشأن الديني، وفتح نوافد مواقع إلكترونية لاحتضان حملة القلم المنشغلين بقضايا “النفس” و”الروح” و”الخلاص”، ووضع مداخل لفلسفة الأخلاق وتمهيد وتحضير لعمل الفلسفة على الدين.
تطلبت هذه المستجدات، إعادة طرح المشكلة الأخلاقية من الأساس، أي التفكير في القيم وقيمة الوجود المعاصر. فمن جهة القيم، من اللازم الإعتراف بالضغوط المتنوعة التي أصبحت تمارس على الجسد (على ميولاته وأهوائه وعواطفه وأعصابه) من أجل ترويضه وتدجينه واستعماله كموضوع لممارسة السلطة أو ك”وقود” للآلة الرأسمالية. أما من جهة العصر الذي نحيا – حيث هيمنة مظاهر التدهور(شبنغلر) والشيخوخة (توينبي) والنهاية(فوكوياما) والإنحطاط(أنفراي) والغرق(أمين معلوف) والإضمحلال(فتحي المسكيني) – من المستعجل مساءلة صلاحية “الثروة الأخلاقية” واللمسات الميتافيزيقية والفضائل الكلاسيكية لحضارات مُنهكة تريد إنجاز أفولها الخاص، ولعصر متسارع وقلق، غارق في الفوضى، فاقد للبوصلة ؟.
2- في بيان أصل أخلاقية العادات والتقاليد
لم يتردد فريديريك نيتشه في ربط الأخلاقية بالعادات والتمسك بها، والحالة أن العادات هي الطريقة المعتادة في الفعل وإصدار الأحكام. لذلك دعا نيتشه وبإلزام، إلى إعادة التفكير في الحيّز الزمني الكبير الذي هيمنت فيه “أخلاقيات العادات” والذي يأتي قبل “تاريخ العالم”، حقبة حقيقية وحاسمة، ذات أهمية تاريخية بالغة، رسّخت طبع الإنسانية، حقبة كانت فيها المعاناة فيها فضيلة، والقسوة فضيلة، والرياء فضيلة، والإنتقام فضيلة، وجحود العقل فضيلة، بينما كانت الرفاهية خطرا، والحث على الشفقة شيئا مخجلا، والعمل شيئا مخجلا، والجنون شيئا ربانيا، والتغيير شيئا لاأخلاقيا، ويحمل في طياته مخاطر كثيرة !. تمثل هذه العادات والتقاليد، تجارب الناس السابقين وموقفهم مما يعتبرونه نافعا وضارا، كما أن الإنسان الأخلاقي أكثر هو الذي يضحي كثيرا من أجل العادات. لكن الشعور بالعادات (بالأخلاقية) لا يمت بصلة إلى تلك التجارب، بل بقدم العادات، وقدسيتها، وكونها لا تقبل الجدل كما يؤكد نيتشه. إن الأمر الخطير في هذا الشعور هو وقوفه في وجه رغبة الناس في القيام بتجارب جديدة وتصحيح العادات، وهو ما يعني أن الاخلاقية تعارض قيام عادات جديدة تكون أفضل من سابقتها: إنها تُبلّد الناس.
إن الإحترام الواجب للعادات والتقاليد؛ أي للأخلاقية، دفع الناس -حتى في عز عصر النقد- إلى عدم مخالفة الآخرين، والإلتزام بالقواعد، وتحقير الذات، كل هذا نجده، باعتباره أخلاقا اجتماعية. أخلاقا تتطلب كثيرا من التنكر والتشبّه، وصرامة في التقليد تتحول مع مرور الزمن إلى أحاسيس تتطلب التشبّع والتعلم والتمرّس فقط، مع الحرص على عدم التساؤل عن أصل هاته الأحاسيس الأخلاقية، والتمسك بالثقة فيها؛ أي طاعة الأجداد والجدات والآباء الأولين، كما يقول نيتشه. أكيد أن وراء هذه الاحاسيس أحكام وتقديرات نقلت إلينا على شكل أحاسيس (الميل لهذا العمل والنفور من ذلك)، وكذا غرائز حولتها الأحكام الأخلاقية إلى إحساس مهين بالجبن، تحت وطأة اللوم الذي أثقلتها به العادات. يصبح الأمر أكثر تعقيدا ومثيرا للقرف حين تدخل هذه الأحاسيس والغرائز في علاقة مع غرائز أخرى تعلمت من قبل معنى الخير والشر، وبالتالي تشبّعت بقيم وأخلاق ثابتة، بحيث تفقد على إثرها الأمور الطبيعية براءتها الاصلية والأحاسيس البشرية عفويتها وحيويتها، وينشر “المثال الأعلى الزهدي” خيوطه المنسوجة من الإضطغان والإحساس بالخطإ إلى أبعد نقطة ممكنة.
تتخذ التقاليد والعادات والأحكام الأخلاقية هيئة قواعد وقوانين، سُنن وشرائع ، يصير معها الشيء غير المعقول مقدسا أشدّ ما يكون التقديس، ومدعاة للرضى والتبجيل من طرف العامة والخاصة أيضا. هكذا يأتي الخضوع لقانون الأخلاق نتيجة لغريزة العبودية أو الغرور، أو الأنانية أو الإستسلام، أوالتعصب أو الطيش، ونتيجة للعمل الجبار الذي قام بها “الأسلاف العظام” والمتمثل في تحديد مفهومي الحقيقة والباطل، وابتكار “جملة مصادر أنفسنا العميقة”، والتشريع لخير الإنسانية وشرّها أولا وأخيرا.
من الضروري الإنفتاح على نتائج الأبحاث التي همّت الشروط والأوساط التي ولّدت هذه التقاليد والعادات والأحكام الأخلاقية، والتي سمحت بحل “النص الهيروغليفي” للأخلاق، حيث ثم اكتشاف علامات الإنحدار والإنحطاط المتمثلة في فقدان الثقل الجسدي، ومناقضة الغرائز؛ أي نكران الذات. كما تم الكشف عن المعاناة المتواصلة التي لازالت تعاني منها البشرية، والتي تتمثل في مضاعفات العلاج الساذج الذي تخيّله الكهنة والقساوسة واللاهوتيين، والذي كان من نتائجه، اكتساب النفس البشرية “عمقها وخبثها” بتعبير نيتشه.