بقلم اسماء محمد مصطفى
فيه شيء من كذب او ازدواجية حيناً، نلمسه في موقف او كلمة او حتى نصيحة، يتجسد مثلاً في وصولي يدعي ارتقاء السلالم بنزاهة او اجتهاد، او في امرأة تخاف فأراً وتخيف اقوى عشاقها، او في شخص يعلم سواه القيم النبيلة لكنه لا يطبقها في أفعاله، او في سياسة الكيل بمكيالين.. هو ليس بشعاً دائماً فقد ينطوي على حكمة او نلمسه في ظاهر ضعيف يخفي وراءه أعماق صلبة، إنه التناقض، هالة من التناقضات في السلوكيات والأقوال والأفعال، تملأ العالم بأسره، فالحياة نفسها تجمع بين المتناقضات الخير والشر، الصواب والخطأ، الحار والبارد الأبيض والأسود.
إن أشد التناقضات مرارة تلك التي تكون مع النفس، إنها أشبه بالضحك القسري في أشد حالات المرارة .. فقد يتصرف الإنسان تحت ضغط ظرف ما او رغبة ملحة بطريقة لايؤمن بها، وقد نجد التناقض في شخص يدعي شيئاً ويتصرف على نحو معاكس تماماً ، كالأب الذي يعلّم أبناءه القيم الخلقية العالية، في الوقت الذي ينضح بالبشاعة خارج حدود بيته .. ونراه أيضاً في آخر ينتقد سلوك غيره علناً، إلاّ إنه وفي قرارة نفسه يتمنى أن يتصرف مثله! ونجده أيضاً في متدين غير مرن وغير معتدل حين يتشدد في نصح أفراد أسرته او مجتمعه بأداء الفرائض التي يؤديها هو على أكمل وجه، لكنه في الوقت نفسه يرتكب أفعالاً قبيحة، كأن يسرق أموال الناس او ينم او ينافق او يطعن في شرف الناس او يدخل بيوتهم من غير أبوابها!!.
مثلما يتجسد التناقض في شخص يدعي التقدم وايمانه بالأفكار التقدمية لكنه آخر شخص يطبق ما يدعيه في تعامله مع أفراد أسرته ، كأن يمنع بناته او أخواته من إكمال تعلميهن الجامعي خوفاً عليهن من إقامة العلاقات العاطفية في الجامعة ! في الوقت الذي يتزوج من خريجة جامعية!، ونراه أيضاً في آخر يبدي إعجابه بالعصريات والمثقفات من النساء، لكنه يحجم زوجته ويمنعها عن تطوير نفسها!!
كما نجد التناقض في شخص يساعد أرملة وأيتاماً تحت عنوان فعل الخير لكنه لايبرّ بأمه، وهنا يكمن الرياء، وترتبط التناقضات السلوكية بطبيعة التربية البيتية والمجتمعية والمفاهيم والتقاليد والعادات التي يفرضها المجتمع على الفرد الذي قد ينزع في داخله الى نقيضها فضلاً عما يراه المرء من مظاهر ازدواجية حوله منذ نعومة أظفاره فيتأثر بها ، الى جانب ما تتطلبه المصلحة الذاتية من أن يكون البعض متناقضاً في رغباته وسلوكياته .
التناقض يتمثل في أخوة متناقضين كالأخوة كرامازوف .. وفي أمزجة متعاكسة وأفكار وأخلاق متضادة بين أبناء أسرة واحدة تلقوا التنشئة البيتية نفسها .. وفي ممثل طيب يمثل أدوار الشر وبالعكس .. وفي سياسي متجبر ظالم يصرع أقوى الرجال لكنه يتحول الى طفل ضعيف بين يدي عشيقته !! بل إن التناقض يبلغ قمته في عالم السياسة نفسه.
إن بعض الحقائق تكشف عن تناقضات ما، فاينشتاين عبقري الرياضيات كان تلميذاً ضعيفاً في مستواه الدراسي، وإحسان عبد القدوس مناصر الحب في رواياته رفض فكرة زواج ابنه من ممثلة معروفة يحبها، ذلك إن الواقع شيء وما في رواياته شيء آخر! كما إن برنادشو التقى تشرشل في لقاء كشف عن تناقض حجميهما وطبيعة حياتهما، فالأول كان نحيلاً ـ قد يحسب الناظر اليه أن في بلاده مجاعة ـ والثاني كان بديناً ـ يعرف الناظر اليه سبب تلك المجاعة!.
والتناقض أن يكون اللاوعي أحياناً هو قمة الوعي . بهذه الجملة أختم هذا الموضوع ، تاركة للقراء استحضار تناقضات أخرى في كل مجالات الحياة عسى أن يبحثوا معي عن سبل لعلاج التناقضات ـ هذا إذا كان ذلك ممكناً في مجتمعات مريضة بالتناقضات ولاتستطيع الحياة إلاّ بها ـ فيما أهبط من عش التناقضات بسلام آملة ألا أكون متناقضة مع نفسي!.