نعيش اليوم كثيراً من مشكلات الصراع بين الثقافات التي انجبت مشاكل جمة ابرزها مشكلة الارهاب والعنف المتزايد فتحولت علاقة الأنا بالاخر الى علاقة قلقة. فان الاعتراف بالاختلاف الثقافي يصبح الضامن الوحيد للسلام حيث انه الضامن الاكيد للسلام ضد حرب عالمية كبرى هو الاعتراف بعالم متعدد الحضارات والثقافات.
بنى الدكتور شريعتي جدلية الاستعمار والاستحمار على النقد الاجتماعي للاستعمار القديم والجديد. فالاستعمار هو الامبريالية التي تقوم على السيطرة على المستعمرات بغية التوسع على صعيد عالمي، من خلال فتح الأسواق لمنتجاتها الرأسمالية، ونهب موارد الشعوب، والمواد الخام النادرة على أنواعها بهدف السيطرة على المعمورة. أما الاستحمار فهو الاستعمار ـ الجديد، القائم على السيطرة النفسية والروحية غير المباشرة على الشعوب والجماعات والأفراد في العالم.
وكما استعان ملوك المجتمعات القديمة بالكهنة والسحرة في استحمار الناس، واستعان القيصر بالقساوسة، وبالتجار (شيلوك الرأسمالي »تاجر البندقية« رمز الرأسمالية الربوية في العصر الوسيط)، فان الرأسمالية المعاصرة، تسخّر منطوق حضارة الاستهلاك للسيطرة على الفكر والوعي والإرادة، من خلال عملية من الاستحمار النفساني بآلياتها الخفية، بحيث يقوم الطرف القابيلي (أو الأوليغارشي أي السلطة القائمة على المال والسياسة والدين) بتسخير الناس كالحمير، ومن هنا جاء معنى الاستحمار، وهي سيكولوجية نفسانية نجد لها في القرآن الكريم مثالا (كالحمار يحمل أسفاراً) ونجد لها في المأثور الشعبي حكايات جحا، وقراقوش، التي يستحمر فيها الحكام والملوك عامة الشعب بحيث لا نعد نعرف من يحمل من؟ الحمار أم الإنسان؟ وكذلك قصة جبران خليل جبران عن »(حمار أنطاكية) الذي مر على الجسر ووجد النصب المكتوب عليها هذا ما بناه الملك الروماني فلان. فيقول الحمار: »كان الأحق أن يكتب هذا ما بناه »حمار إنطاكية« بالأحرى!
والشعوب، والطبقات الدنيا، والمضطهدون والمستضعفون هم بمثابة »حمار أنطاكية« للقوى المالكة، والحاكمة، والمهيمنة والمشعوذة.
على هذا الأساس وجد شريعتي أن إشكاليات العصر الحديث ترتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالاستعمار الحديث، وأن الآلية المحورية للاستعمار الحديث هي (الاستحمار) عينه أو الاستعمار ـ الجديد (السيكولوجي أو التربوي، أو الثقافي).
فالعقل المستحمر عند شريعتي هو نفسه العقل المستقيل ، ذلك العقل والفكر الذي يفتقد للنباهة الاجتماعية والانسانية هذه النباهة الانسانية التي تعني ان يعرف الانسان ذاته ويعود اليها بحيث يتحرر من قيود التخلف والجهل في حين ان النباهة الاجتماعية فهي ان يتحلى الفرد بالمسؤولية لمصيره الاجتماعي والحضاري وينخرط في النضال الاجتماعي والممارسة السياسية على احسن وجه.
الاستعمار الذي يمثل سقوط العالم الاسلامي تحت يدي الاستعمار الاوروبي ويرى شريعتي بان الاستحمار الداخلي يعمل على اشغال الشعوب والهاءها عن النباهة الانسانية والنباهة الاجتماعية. فهو قائم على الغزو الثقافي ويعمل على القضاء على النباهتين بنشر قشور الحداثة الغربية.
يرى شريعتي استحالة تطبيق نموذج الحداثة الاوروبية بنمطية على المجتمعات الاسلامية فالمجتمع الاسلامي يقوم في الاساس على الدين فهذا التعارض بين الديني والانساني جعل من الطبيعي ان يسير الفكر الغربي للتوجه اللاديني بحيث ان الاستحمار الداخلي والمتاجرة بالدين هي سبب انهيار العقل الديني وجعله مضادا للتقدم وللإنسانية.
ويعتمد شريعتي منهج الثورية والتقدمية من جهة والتمسك بهوية ثابتة للاختلاف الحضاري الإسلامي فيناهض التعصب الديني بين الشيعة والسنة ويهاجم رجال الكهنوت الديني وكل القوى الاستحمارية، ويشدد على قيم الانسان تلك التي بدأ منها لاسيما الرفض وعدم التسليم وما يلخص بكلمة (لا) حيث منها بدأ ادم ابو البشر.
تتمثل استراتيجية المقاومة الثقافية عند شريعتي في البدء بفضح الاستحمار بكل اشكاله والغزو الثقافي الغربي المتمثل في الثقافة الاستهلاكية وتحويله الى حيوان اقتصادي استهلاكي او ذلك الاستحمار الديني منه بكل صيغة العقائدية والفلسفية. بهذا يمكن اعتبار شريعتي مفكر تقدمي يدعو لالتحاق بالحداثة ودخول العصر العلمي مع الاحتفاظ بتلك السمات الروحية للثقافة الاسلامية وذلك بالعودة للجوهر الحقيقي للدين فيما يسميه بالعودة للذات عبر تخليصها من آثار الزمن وما سببه من موت العقل السياسي الذي اتبعه موت الوعي او النباهة بجميع اشكاله. كما يدعو الى فلسفة العمل ومقولته هذه هي خير اختصار لفلسفته هذه: عندما يشب حريق في بيت ويدعوك احدهم للصلاة والتضرع الى الله ينبغي عليك ان تعلم انها دعوة خائن لأن الاهتمام بغير اطفاء الحريق والانصراف عنه الى عمل آخر هو الاستحمار وان كان عملاً مقدسا، فالعبادة يجب ان تكون بالجوهر لا بالمظاهر والعبادة لا يجب ان تقف في طريق العمل فالعمل وحده الطريق المعبد للنهضة.
ان اعادة احياء المشاريع الثورية التقدمية الاسلامية في الفكر الاسلامي من طرف ما يعرف بالسلفية الجهادية الذي نعرف, ما انتجه لنا من استلابة وجمود وكوارث اضافة بسبب احتكاره للمشهد في الساحة الثورية, ينطلق من ارضية الانسان ذي الجوهر الواحد وعليه, فمن يحسن تحقيق نهضته يتمكن من صناعة مستقبله.