حركة خارج السرب | جدل الكونية: التنوير والتنوير المضاد
جدل الكونية: التنوير والتنوير المضاد
2019-08-16 | 1501 مشاهدة
حاتم تنحيرت
مقالات

ما الذي يجعل من عصر التنوير الأوروبي الموروث عن القرن الثامن عشر مشروعاً مُميّزا، ما فتئ يطرح نفسه بإلحاح في العالم الإسلامي؟ لعل ذلك راجع إلى وعد الإنسان بمزيد من المعرفة والتقدم، إذا ما انتبه إلى الحقيقة الجامعة بين البشر؛ أي العقل. كما يَعِد بتقارب الجنس البشري؛ مادام العقل أعدل قسمة بين الناس كما أكد ديكارت، وكما رجّح ابن رشد فكرة استيعاب معارف الأمم المختلفة على أساس وحدة العقل؛ فخلف التباينات الثقافية والعرقية والدينية، نجد هذا الجوهر الجامع للإنسانية، وذلك هو مقتضى الكونية؛ إنه الفصل الأكثر إثارة من التاريخ الحديث، الذي سمي "عصر التنوير"، حاملا معه وعداً سَخياً، أصبحت الرؤية إلى العالم تتحدد انطلاقا من المسافة التي نضعها معه، داخل وخارج أوروبا. إذن فالتنوير مكانه أوروبا وزمانه القرن الثامن عشر. غير أن وعد الكونية عندما ينفتح على الإنسانية جمعاء، فإنه يتخذ جاذبية خاصة. لنلاحظ أن التنوير ليس كتلة متجانسة تخلص إلى نفس النتائج، بل هو حركة وزخم ورؤية للكون والإنسان. إلا أن مفهوم الكونية حمل تداعيات فكرية وسياسية حلّت في قلب الموقف من برنامج التنوير. ربما في كل مكان رافقت فيه سِلع الاقتصاد الرأسمالي ثقافة أوروبا نحو "بقية أجزاء العالم"، والتي نستطيع إيجاد صكها في شعار التنوير كما قدمه الفيلسوف الألماني إيمانيول كانط، في مَعرِض إجابته التي ضمّنها مقالته الشهيرة "جواباً على سؤال: ما التنوير؟: "تجرأ على استخدام فهمك الخاص هذا هو شعار التنوير". وهكذا يتحدد التنوير كعقل نقدي، غير أن صلاحيته لا يمكن أن تتم دون مفهوم الكونية، الذي يمنحه مشروعية حركته في ميادين المعرفة.

ليس الإشكال هنا هو طبيعة التنوير، أو مُسلماته، أو كيفية تلقيه في العالم الإسلامي استيعابا ونقداً، أو حتى جدل المسافة التي ارتضاها التنويريون من أولوية العقلانية في شؤون البشر والتاريخ، بل إن الغرض هو محاولة فحص وتحليل هذا التصدع في حقل الأفكار، الذي يخترق ذواتنا العميقة وهي تقابل، أو تجادل، أو تعمل على استيعاب وفهم، أو حتى رفض مشروع التنوير كما ورثته أوروبا عن القرن الثامن عشر؛ وذلك من خلال تتبع المخاض الذي رافق ولادة التنوير الأوروبي وجدله الداخلي، أو لنقل نقيضه وخصمه، مُجسداً فيما سُمي في مرحلة لاحقة بـالتنوير-المضاد، الذي نقض مُسلمات التنوير، مواجها العقلانية باندفاعات العاطفة، ومفهوم الكونية بدعوة القومية والمشترك الاجتماعي. ودون ادعاء الإحاطة بهذا الحدث الفريد؛ أي التنوير الأوروبي؛ أو الإمساك بمختلف الكتابات التي خاصمت مُسلماته، يمكننا التذكير بجدوى توضيح فكرة أن التنوير ليس لحظة كَشْفٍ صُوفي حَلّ على تاريخ ومكان مُعيّنين، بل هو حركة مُستمرة اعتمرت في قلب مجتمعات عرفت تحولات وصراعات متعددة الأشكال، وامتلكت تناقضاتها الداخلية وخصومها المُعلنين، الذين حملوا على عاتقهم مُهمة التبشير بـ "تنوير- مضاد"، ناضل من أجل تقديم نسخته من التاريخ وروايته عن الوجود الإنساني، ولتبيان ذلك حسبنا الاكتفاء بفحص مفهوم الكونية بوصفه مركز الثقل لجميع رهانات التنوير، في كل مكان يطرح فيه سؤال النهضة. لهذا، سنعمل على تحليل جدل التنوير والتنوير- المضاد، كما سنتلمس بعض ارتدادات تلك الجدلية في العالم الإسلامي، وهو يتلقى ويجادل موجة التنوير في مراحل لاحقة للقرن الثامن عشر، حتى يطرح الأسئلة ذاتها، ولو على مستوى تطلعات المفكرين العرب و"مشاريعهم" الفكرية المُختلفة.

مسألة المنهج عند العروي تستدعي البحث في كونية العقل البشري، أي في القواسم المشتركة بين العرب والغرب، في مستقبل الإنسانية الواحد

الكونية في التنوير الأوروبي:

إن "هذا المشروع التنويري يقوم أساسا على ثلاثة أصول وأفكار، ما انفكت تنمو وتتطور أيضا بحكم نتائجها التي لا تحصى، وهي الاستقلالية، والغائية الإنسانية لأفعالنا، والكونية. لقد رافق مشروع التنوير رهان على كونية العقل ووحدة الطبيعة الإنسانية. أما "في فرنسا [فقد] صرّح تريقو (Turgot) في مقالة له بعنوان لوحة فلسفية عن خطوات التقدم المتتالية للفكر البشري أن "العادات هي الآن تتهذب، والفكر البشري يستنير، والأمم المعزولة أخذت تقترب من بعضها البعض [...] وكتلة الجنس البشري برمتها [...] هي الآن تمشي قدما وإن بخطى بطيئة في اتجاه وضع أفضل فأفضل، (لا غرابة في هذا التفاؤل، فقد كان عمر المؤلف وهو يكتب هذه الجملة ثلاثا وعشرين سنة).". وهكذا ستتعدد المؤلفات ذات العناوين الدالة على فكرة التقدم، لكتاب كانوا يعتقدون "أن البشرية بمستطاعها بلوغ مرحلة الرشد بفضل انتشار الثقافة والمعرفة، رغم كل ما حصل من تأخير وبطء، وسيعول هيجل على هذه الرؤية للتاريخ، باعتباره إنجازا لهدف مخطط له مسبقاً ويدعّمها، ثم انتقل هذا التصور بفضل ماركس إلى المذهب الشيوعي".

إننا عندما نجد ما هو جامع ومشترك بين البشر، فإننا نتعرف على كونية العقل البشري، و"عندما يتعرف الباحث على مجتمعات تختلف عن مجتمعه، فإنه يصبح قادرا كذلك على أن ينظر إلى ذاته بأقلَ سذاجة من ذي قبل، ويكفَ من ثمة فصاعدا على اعتبار تقاليد مجتمعه النظام الطبيعي للعالم. ولهذا كان بإمكان مونتيسكيو أن ينتقد الفرس، ولكن أن يتصور كذلك أناسا من الفرس ينتقدون الفرنسيين عن جدارة. هذا هو إذن في خُطوطه العريضة البرنامج السَّخي الذي تَبلور خلال قرن الأنوار.

هذا عموما هو ما رافق تشكل فلسفة التنوير في بداياتها، بينما يمثل التراجع عن الثقة في مفهوم الكونية إحدى السمات المميزة للقرن العشرين وتوابعه. "فالقرن العشرون بصفة خاصة الذي شهد مجازر حربين عالميتين وقيام أنظمة شمولية في أوروبا وخارجها، بالإضافة إلى ما أدت إليه الاختراعات مما دفع الكثيرين إلى الكف عن الانتساب إلى الأنوار، وصارت الأفكار التي تتضمنها كلمات من قبيل "إنسية"، "تحرر"، "تقدم"، "عمل" و"إرادة حرة" فاقدة لكل اعتبار.

تنوير العالم الإسلامي: الكونية

أما العالم الإسلامي، فقد أخذ كذلك يُظهر علامات هذا الوعي بتراجع الثقة في الكونية، نتيجة تداعيات القرن العشرين. ولنأخذ مثلا واحداُ مُجسدا في ما طرحه عبد الله العروي حول تراجع أغلب المثقفين شرقا وغربا عن فكرة العقل الكوني. لماذا يتمسك العروي إذن بهذا المفهوم؟ "لقد تبين للغرب المخاطر الكامنة في دعوى ما تمثله من خطر على مصالحه، وبذلك سَيُقر بحتمية التنوع والاختلاف. لهذا بالتحديد يجد العروي المبرر الكافي للتساؤل: هل يعقل أن نصحح الخطأ بخطأ يناقضه؟"

لكن، ما كونية العقل؟ يعني العروي بكونية العقل ذات اصطلاح الفلاسفة الغربيين الكلاسيكيين، ويعنون به الحقيقة البديهية التي يقرّ بها الإنسان حيثما كان. ويقابله اصطلاح الإجماع عند الفقهاء والأصوليين. الفرق بين المصطلحين أن الإجماع يعتمد على نص مُنزَّل، هو ضامن المطابقة للحق في حين أن العقل الكوني أصل وحجة في نفسه.

يحمل العقل الكوني إذن علاجا للتصالح مع الذات كما يكتب العروي: "إن التعرف على حقيقة كونية هو في واقع الأمر طريق التصالح مع الذات[...] فالعقل العربي لا يفتأ يبحث، منذ أواسط القرن الماضي، عن تلك الحقيقة الجامعة بينه وبين غيره. كما يحمل الكوني أيضا سؤالا جوهريا عن حقيقة المناهج الملائمة لقراءة الوقائع الطبيعية والبشرية." أما المجتمع العربي، فَيَرفض أن تكون للمناهج الغربية قيمة مُطلقة. ويدّعي أنه وحده يستطيع أن يتعرف إلى ذاته بفضل حَدْس اخْتُصَّ به. لكنه، لكي يعيد بناء ذاته، يستخدم مثالا يستأنس به، وهو مثل، مَهما قِيل عنه، مأخوذ من الغرب. فهذه الخطوة الإجرائية تكون في حد ذاتها اعترافاً ضمنيا بامتياز الغرب؛ أي احتواؤه على شيء يستحق الاقتداء به، شيء صالح للتعميم على البشرية جمعاء.

يناقش العروي اعتراضا ممكنا حول مفهوم الكوني، عبر حجة الاختلاف بين المجتمع العربي والغربي، أين هي إذن الوحدة التي يتجسد فيها العقل الكوني على مستوى الحياة الاجتماعية؟ يجيب أن هذا اعتراض معقول من جهة الواقع، غير أنه يستهدف رصد مستوى الأفكار، حيث يلاحظ أنها إذ تتأمل ذاتها تكتشف في تلك الذات فترة من فترات الوعي الغربي في مسيرته نحو الأمام. هذا الكشف ليس مجرد اتفاق أو انتقاء عرضي، بل يَرى فيه العروي إشارة موضوعية إلى الاتجاه نحو توحيد النوع البشري، توحيد هو هدف ونتيجة، لا أساس التطور التاريخي. هنا يُفصح العروي عن همّ كوني توحيدي ينفتح على الإنسانية جمعاء، ويحاول أن يثبت أن التعارض بين التقارب الحاصل على مستوى التقنيات، من جهة، والتباعد المتزايد على صعيد الأفكار والعقائد، من جهة ثانية، تعارض ظاهري إذا استطعنا أن نثبت أنه يوجد رغم المظاهر، عملية غير مرئية، لكنها حقيقية، تهدف إلى التماثل والمماهاة، حتى على مستوى الفكر، يعود حينذاك التعارض المشار إليه، مجرد صعوبة عابرة.

ذلك أن "الفكر الإصلاحي العربي نفسه، إذا قلنا إنه يتوجه تدريجيا بصعوبة وألم وتأسف، نحو التصالح مع الإنسانية الجديدة، إنسانية العهد الحديث. ومهما ظهر للبعض مفهوم العقل الكوني هزيلا عقيما، فإنه في نهاية المطاف أكثر عطاءً من الدعوة إلى المخالفة والتميز، حتى وإن وَعدت بما لا عَين رأت..في عالم الأحلام!.

إن مسألة المنهج على المستويين الفكري والعملي عند العروي تستدعي البحث في كونية العقل البشري، أي في القواسم المشتركة بين العرب والغرب، في مستقبل الإنسانية الواحد. هذا المستقل المشترك ينزع كل أهمية عن المساءل العالقة في ما يخُص الذات والتاريخ.[15]

يرصد علال الفاسي بنباهة هذا التطور، فيتكلم عن المسخ وعن "الأرواح المسكونة التي لا تجعل منا غربيين، بل تجعل منا كائنا مستغرباَ ليس هو ذاته ولا هو الآخر." وهكذا تكون الهوية قد تفسخت ولم تعد تُدرك إلا من خلال الحنين. تحول الدين الإسلامي إلى مجرد تقوى فردية ولم يعد يستلهم عند البحث عن الحلول لكبريات القضايا القومية. ذلك أن تقارب البشرية إنما تشكل بفعل عوامل مادية نتيجة عمل العقل البرجوازي، الذي دفعته المصالح الاقتصادية إلى مُجاوزة الحدود القديمة بين الشر. يقول العروي: "يتحامل هؤلاء على "العقل البرجوازي" الذي نجح حيث أخفقت كل الديانات ووحّد بين سكان المعمور ولو على مستوى معين وفي نطاق محدود.

حتما إن التخلف التاريخي ليس سمة جوهرية تلتصق بشعب أو أمة ما، بل هي أمور عارضة تخضع لحركات التاريخ، "نعتقد اليوم أن لعنة تلاحقنا، لكن ألم يعتقد التتار والجرمان والكلتيون والسلافيون أنهم ملعونون؟ [..وهاهم اليوم يعاملوننا بنفس الازدراء [...] إذا كان عدونا الوحيد هو الزمان الذي لا ينضغط، إذا كان السوء المحدق بنا يأتي من الظروف لا من طبيعة الأشياء، هل يحق لنا ان نواصل الأنين والشكوى؟ إنها اذن مسارات التاريخ. إن كانت إدانة الغرب التنوير الأوروبي غالبا ما تستثمر زمن الاستعمال والتذكير بغرب المصالح لا غرب الآمال، فإن العروي يميّز بين الغرب الظاهر، الذي يفرض نفسه علينا كوحدة متماسكة متعالية. وغرب الحلم، غرب القيم العليا والآمال العريضة، تلك التي توحي بها علومه وفنونه. الغرب المتطلع الى المستقبل الذي يحي الآمال القديمة في إنسان مُطمئن يجب أن نسمح له.[20] ذلك أن "محاكمة الضمير ولّدت عند الرومان الفلسفة الرواقية وعند المسلمين التصوف وفي أوروبا الاشتراكية الديمقراطية". لم يولد هذا الموفق لدينا سوى ثقافة الاحتماء بالتراث وإشهار دعوة الأصالة كذرع أيديولوجي، أو تزييف يخفي حقيقة التأخر التاريخي؛ ذلك أن "عبارات الرفض تجاه الثقافة الغربية لا يمكن أن تشكل بحد ذاتها ثقافة، والشطحات على آثار الذات السلبية لا تعيدها إلى الحياة. مع مرور الأيام سيزداد حتما عدد من لا يغرق في التقنية ويسأم من نواح عقيم فيدرك حقيقة التحول الذي حصل يوماَ في تاريخ أوروبا". هذا التحول إنما يفصح عن مسار التاريخ الذي يشكل استيعابه مدخلا لعقل العالم الحديث ومنجزاته الكبرى.

"مرة أخرى تتحقق قاعدة تكاد تكون مطردة في التاريخ، ألا وهي أن ما من أمة تجاوزت فترة تحول تاريخي عنيف إلا ونظرت بإشفاق ومقت إلى الأمم الأخرى التي تقتفي أثرها، ناسية ما ذاقت من آلام وما أدّت من ثمن باهظ. هذه بريطانيا، بعد أن فعلت ما فعلت في ثورتها أواسط القرن 17 م، تنعى على فرنسا إعدام ملكها وتنظيمها الإرهاب أواخر القرن 18. وهذه فرنسا بدورها تندهش لانتشار الحركة الرومنسية الألمانية ولا عقلانيتها العمياء. وهذه أوروبا الغربية جمعاء تستشيط غيظاَ أمام قيام ثورة 1917. وهذه روسيا تغضب لثورة الصين الثقافية.

يطالب المستشرق الغربي العرب باستعادة التوازن بسرعة، ثم يستغرب تقلبات احوالهم مع أن منطقه هذا لو يطبق على حال أوروبا إبان تقلباتها الكبرى وحروبها وثوراتها قبل أن تستعيد توازنها وتكافؤها -لو طبق- لكان مدعاة لتفهم أكبر لحال العرب.

مواجهة الكونية تتم أيضا بين العقل التقليدي والعلم الحديث في ساحة منهج التعامل مع الظواهر. "إن من يظن أن العلم الحديث يعطي تفسيرات كاملة لكل المظاهر الطبيعية لا يدري مفهوم العلم الحديث الذي نشأ بالضبط عندما وضع محل العلل الشاملة الدائمة عللا مؤقتة جزئية. (إن هذه الرؤية التقليدية) لا تكتشف أبدا شيئا من القواعد الوضعية التي مكّنت الانسان من الاستفادة من الطبيعة، ويستمر في غرارته داخل الميثولوجيات غير النافعة. الجواب المقترح إذن يخطئ النقطة الأساسية، وهي أن النصوص التي يدعو إلى التشبث بظاهرها فسرت دائما على ضوء "علم" القرون الوسطى، فإذا اعتمدناها سنبقى سجناء تلك التفاسير والتأويلات. الحل إذن هو قبول مبادئ العلم الحديث مهما كانت نتائجه الوقتية. إن المجتمع الحي اليوم هو الذي يقبل ضمنيات العلم الحديث بما فيها إلغاء تفاسير النصوص المتأثرة بظروف الماضي.

بناء على ذلك، تصبح الكونية مرادفة لدعوة الحداثة عند العروي فـ"إذا أردنا أن نعطي فعالية لعملنا الجماعي وإبداعية حقيقية لممارستنا السياسية والثقافية، فلا بد من ثورة ثقافية، تعم المجتمع بجميع فئاته، وتُغَلِّبُ المنهج الحديث في الصورة التي ظهر بها في بقعة معينة من العالم، لا في ثوب مُستعار من الماضي- وهذه الثورة مازالت في جدول الأعمال [ولا أمل لنا في التأثير في العالم من حولنا] إذا انعزلنا فرحين بما لدينا من حقائق لا يفهمها إلا نحن.

لا وجود لظاهرة ثابتة في التاريخ، لذلك يميز العروي بين الخصوصية التي تعني بناء شخصية متميزة في الحاضرة التي هي أيضا من نتاج الماضي، وبين الأصالة أي الإبقاء على نمط اجتماعي، سلوكي...إلخ، كان أصلا لمسيرتنا، ولم يعد صالحا للظروف الحالية. فقوى التطور دائما غالبة ما دام في الإنسان حب الحياة. هكذا يعدنا العروي بحل المفارقة التاريخية: جاذبية الأصالة؛ التي انحلت في التاريخ ولم تعد تدرك إلا كحنين إلى الماضي، بينما يفسح مجالا للخصوصية الثقافية؛ والحداثة، القادرة وحدها على التلاؤم مع ضرورات استيعاب عقل العالم الحديث كاختيار لا مِرية فيه، فتنحل مُعضلة الكونية.

التنوير-المضاد: نقض الكونية

إن عقل التنوير الأوروبي كما جسده القرن الثامن عشر عرف مجموعة من المفكرين الذين اعترضوا على مسلماته الأساسية، فأصبحت بعض الكتابات اللاحقة تطلق عليها وسم التنوير-المضاد. ويبدو جليا تأثير الباحث الإنجليزي إشعيا برلين، الذي يعود له الفضل في إنقاذ ذكر بعضهم وإحياء الاطلاع على تراثهم المُنزَوي في ظل التاريخ، خاصة حول مُسلمات مثل كونية العقل، والقول بوحدة معينة للتاريخ البشري. ويبدو ـ في حدود علمنا ـ أن هذا التوجه قلّما تعرف عليه قارئ العربية، والذي يعود في جانب منه إلى تأثير الخطابات الأكاديمية، التي تجمد حقب التاريخ لغايات مدرسية، أو بفعل انتصار خطاب التنوير الأكثر جاذبية. لكن التنوير المضاد ربما لديه ما يخبرنا به، فعموما ليس التنوير حقبة سادها العقل والمعرفة وتطور الدراسة الموضوعية للظواهر، بقدر ما كان حركة غير متطابقة الأفكار من جهة؛ وقابلها كُتاب ألقوا ظلالا من الشك في أخص وأعز مسلمات عقل التنوير؛ أي الكونية ووحدة العقل والطبيعة الشرية، من جهة أخرى؛ مدفوعين بنظرة مُحافظة تعيد النّظر في الكونية مقابل القومية والعقل مقابل اندفاعات المشاعر الإنسانية، خاصة مع الرومنسيين الألمان أمثال يوهان هردر.

"تأسست شهرة هردر على كونه رائد الثورة الرومانسية ضد العقلانية، والإيمان بالقدرة المطلقة للمنهج العلمي، باختصار. إنه أعظم خصم للفلاسفة الفرنسيين وأشياعهم الألمان ... خاصة فولتير وديدرو، وهما الأكثر مكانة بينهم. واللذَان كانا يعتقدان أن الواقع منظم وفق معايير كونية، أبدية، موضوعية، وذات قوانين غير قابلة للتغيير، والتي يشكل استقراؤها العقلاني أمراً قابلا للاكتشاف".

الكونية إذن، حسب هذه الرؤية، تهدف إلى إخفاء الاختلافات في الظواهر المدروسة، سواء كانت في الطبيعة أو التاريخ، وتعويضها بقوانين كونية ونماذج ومعايير أبدية، في الرياضيات والفيزياء، ولكن أيضا في الجماليات والأخلاق. و"في سياق هذه الدعاية ضد العلم الموحد والعقلانية، والمنهج العلمي، والسلطة الكونية للقوانين العقلية فقد عمل على تحفيز[...] اللاعقلانية السياسية والدينية".

وإذا كان التاريخ البشري قابلا للدراسة الموحدة وفق قوانين عقلانية، فإن هردر يقدم مؤلفا مُغايرا لبرنامج التنويريين عبر عنوان كتابه الدال: "فلسفة أخرى للتاريخ" يحمل من السُّخرية ما يجابه خصوم هردر الكبار، فولتير وفلاسفة باريس وأشياعهم الألمان. أو تنوير القرن الثامن عشر، خاصة نزعة المركزية الأوروبية وادعاء التفوق الحضاري، أو الاحتجاج ضد وحدة القوانين العامة للتاريخ."

لقد انتقد هردر كونية جوفاء حمّل وزرها لفلاسفة التنوير الفرنسيين، رافضا أي معيار مُطلق للتقدم؛ فكل مجتمع إنساني يجب أن نحكم عليه وفق معاييره الداخلية الخاصة. بغض النظر عن حقيقة أن هردر نفسه حاول في مراحل متأخرة من حياته أن يبني نظرية في التاريخ تستوعب للجنس البشري قاطبة.

مقابل الكونية التنويرية يضعنا هردر أمام مفهوم التعددية؛ أي "الإيمان ليس فقط بالتعددية، ولكن أيضا باستحالة وضع مقياس (incommensurability) موحد لقيم الثقافات والمجتمعات المختلفة، بالإضافة إلى عدم تطابق الأفكار وصلاحيتها الموحدة.[31] هذه الرؤية بقيت على يسار التنوير، وتذكره بحدود مُسلماته الفلسفية.

إنها أطروحة تناقض قلب مُسَلَّمات التنوير في التاريخ والأخلاق والجماليات. لذلك، فإن هردر وهامن وغيرهما سيصنفون ضد التيار، كما وصفهم إشعيا برلين، بينما اعترضت الكنيسة على شكل التربية الجديدة التي اقترحها جان جاك روسو في كتابه "إميل"، لأنه انطلق من الطبيعة الخيِّرة للإنسان التي تفسدها المؤسسات أو التربية، والتي لا تسترجع سوى عبر إعادة التنظيم الثورية للمجتمع. الأمر الذي جلب له إدانة الكنيسة، رغم شقه لطريق وسط بين الدين التقليدي والفلاسفة الماديين، فيما ظهرت الكتابات المعادية للتنوير من قبل ثورة مضادة، أبرزها بونالد وشاتوبرايان، بينما وصف ميستر حركة التنوير بالحماقة. هذا هو التنوير المضاد، لكن، مسار التاريخ سلك دروباً مُغايرة لزمن القرون الوسطى فاتحا أبوابه للعالم الحديث الذي غيّر الرؤية للإنسان والسياسة والتاريخ، فلم يَعُد بإمكان خصوم التحولات التالية أن يجدوا مكانا داخل حركته؛ إلا أن فهم وفحص مُنطلقات التنوير-المضاد يخبرنا عن هذا الجدل الشيء الكثير.

يقول لويس دي بونالد، أحد أكثر خصوم الأنوار ضراوة "لقد بدأت الثورة بوثيقة الإعلان عن حقوق الإنسان، ولهذا السبب بالذات انتهت إلى حمام من الدّم."

هنا تبدو السخرية واضحة من مآلات كونية إعلان حقوق الانسان، ومُثلها العليا، واضعا إياه في مواجهة مع إحدى نهايات هذا المشروع المأساوية؛ أي العنف الذي رافق الثورة الفرنسية.

يتمثل خطأ الأنوار عند بونالد في كونها وضعت الإنسان محل الله، واعتبرته مصدر مُثلها العُليا، ووضعت العقل الذي يرغب كل إنسان في استخدامه بحرية موضع التقاليد المشتركة، ووضعت المساواة موضع المراتبيّة"

من جهة مقابلة "كان روسو متيقّنا أن عليه الاستعداد لمناظرة "المادية الحديثة" (كما جسدها شِق من التنوير الفرنسي) بمجرد الانتهاء من مناظرة النسّاك.. فقام بشق طريق وسط بينهما على أساس دين الفطرة، من خلال كتابه: "عقيدة قس من جبال السافوا". بحثا عن منطلق روحي جامع بين البشرية قاطبة. مقابل دعوى الكونية، دافع التنوير المضاد عن الشعبوية بوصفها "الإيمان بالانتماء إلى جماعة أو ثقافة، والتي هي بالنسبة إلى هردر على الأقل، ليست (شعبوية) سياسية، وهي حقاً، إلى درجة معينة، مضادة للسياسة، ومُختلفة ومضادة حتى للقومية.[36] بينما اندفعت أوروبا الغربية إلى المرحلة التالية لعقل التنوير الكوني في القرن الثامن عشرة، كان بقية الخصوم يرون أنه قدم لسلطان الاستعمار مُبررات غزو بقية بقاع الأرض. و"من الانتقادات التي توجه عادة إلى الأنوار كونها قد وفرت المستندات الأيديولوجية للاستعمار الأوروبي خلال القرن XIX والنصف الأول من القرن XX ويقوم هذا الانتقاد على المنطق التالي: بما أن الأنوار تُقِرُّ بوحدة الجنس البشري، فهي تقرّ إذن بكونية القيم. ولما كانت الدول الأوروبية مقتنعة بأنّها تحمل قِيما أرْقَى من القيم السائدة عند غيرها من الأمم، اعتقدت أن من حقها حمل حضارتها إلى الذين هم أقلّ حظّا منها. ولكي تضمن نجاحها في أداء هذه المهمّة كانت مجبرة على احتلال المناطق التي يقطنها سكان تلك الأمم.

هكذا تشكل الاعتراض على الكونية بواسطة المشترك الثقافي والأصالة، والذي ما فتئ يُشهر مراراً وتكراراً في وجه كل دعوة لاستيعاب العقل الحديث، مستثمراً الموجات الاستعمارية للقرن التاسع عشر والقرن العشرين. هذه الظلال/ الأشباح، مازالت تحوم حول مجتمعات مُتعددة في سعيها إلى محاولة استيعاب منجزات العقل الحديث؛ للتنوير إذن مسار جدلي.

اعتراض على الكونية

إذا كانت الكونية هي ما يشمل أفراد البشر جميعا من حيث هم كائنات عاقلة، فإن تجربة الاستعمار التي عمّت القرن التاسع عشر مسؤولة بشكل كبير عن تحويل مفهوم الكونية إلى رهان سياسي، ما شكّل أحد أهم تجليات تلقيه في العالم الإسلامي، إذ تُقابَل عادة بمفهوم مناقض هو الأصالة. ذلك ما نجد أحد أصدائه عند طه عبد الرحمن، الذي أخذ على عاتقه مُهمّة "إبطال دعوى كونية الفلسفة وإثبات صبغتها القومية" وتبعا لذلك تكون الفلسفة الإغريقية ليست فلسفة كونية كما شاع وذاع، وإنما هي، على الحقيقة، فلسفة قومية كما كان تاريخها تاريخا قوميا. لذلك يوجه طه عبد الرحمن اعتراضاته على دعوى "الكونية الكيانية للفلسفة" عبر تفكيك وحدة العقل "على اعتبار أن العقل فعالية" مثله مثل الإدراكات الإنسانية الأخرى كالسمع والبصر، وشأن الفعالية أن تتغير بتغير الأسباب والظروف. وتكون النتيجة أن فلسفة التنوير التي تلت الإصلاح الديني مع "مارتن لوتر" جعلت أوروبا تدعو إلى الكونية وتنشر دعوتها في العالم، والحال أنها في ادعاء طه عبد الرحمن، فلسفة قومية ترتبط بأوروبا خصوصا، التي هي وحدها من أبدعت الفلسفة، وأن غير "الأوروبيين" لا حظ لهم في هذا الإبداع. ثم يستفيض طه عبد الرحمن بعد ذلك في تخصيص دعوة الفلسفة وحصرها في مجال قومي وديني مُحددين، وتضييق مجالها من أجل فسح مجال "للحق العربي في الاختلاف الفلسفي"، كما ينطق عنوان مؤلفه، بينما نجد شيئا من هذا التذكير بالسياقات الداخلية للأفكار الفلسفية عند بعض المؤرخين الغربيين أيضا، فنقرأ مثلا عن "استيلاء" الفرنسيين على التنوير، "الذين تحكموا فيه واستولوا عليه عنوة".. لكن أيضا أصبح تنوير القرن الثامن عشر يستدعي تقويضا أخر حمله تيار ما بعد الحداثة، أو يُنظر إليه كمجرد نتيجة أيديولوجية للإمبريالية الغربية. كما تمرّدت عليه ما بعد الحداثة مشبهة إياه بالنظام القديم بالنسبة إلى الثورة الفرنسية.

هكذا نجد أن تلقي دعوة الكونية كما خلّفتها فلسفة التنوير الأوروبية الموروث عن القرن الثامن عشر، سيظهر اعتراضات داخل حقل الأفكار في العالم الإسلامي، وهذا الافتراض متى ما قبلنا أسسه يمكن أن نستنتج منه حركية دعوة التنوير الأوروبي، وإثارتها لاعتراضات تنطلق من أرضية الأصالة والذات والمشترك الاجتماعي.

إن عقل التنوير يستحق الدفاع عنه، لأنه يجسد موقفا يشكل مدخلا إلى العالم الحديث، الذي يتطلّع العالم الإسلامي إلى استيعاب أسسه الفلسفية والمعرفية والعلمية

يقول عبد الله العروي: "إن القرن الثامن العشر الأوروبي أحب القرون إلى وجداننا، وحُق لعلال الفاسي أن يستشهد بقولة المؤرخ الفرنسي جول ميشله: القرن الأعظم، وأعني به الثامن عشر. نحبه لأسباب نبيلة وأخرى مغرضة. يستهوينا لأنه يفضح الكنيسة وجرائمها، فيمدنا بكل ما نحتاج إليه لاتهامها ومحاكمتها. ويستهوينا أيضا لأنه يبرر أشياء مُحببة إلى نفوسنا[...] يأتي وقت ندرك فيه أن فلسفة التنوير تمثل نسقا فكريا يحاكم نظاما معينا أينما وُجد وتصرّفاً معيّناً أينما شوهد."

إن الكونية ليست مفهوما مُجرّداً فحسب، بل إن بعده السياسي يتحدد حسب المسافة التي نأخذها منه. لنحظ أن تلقي فلسفة التنوير الأوروبي في العالم الإسلامي خلّفت بفعل تجربة الاستعمار خلطا بين "الغرب المهيمن والغرب التنويري". أما الكونية، فأصبحت تجابه بدعوة الأصالة والتراث.

إن التنوير حدث تاريخي مُعقد، كما يُعدُّ مُنطلقا تأسس على النقد كجزء من نسيجه، وهو كذلك ليس بالبرنامج الموحد الذي اعتنقته مجموعة مُنسجمة في حقبة تاريخية محددة هي القرن الثامن عشر إذ لا يمكننا الوفاء لفلسفة التنوير دون نقدها وبذلك فقد نطبق الدرس الذي علّمتناه.[45] وأخيرا، فإن كونية التنوير ليست مجرد دعوة أوروبية ترمي إلى تذويب بقية "الأصالات" في بوتقة الغرب المنتصر، حيث نخلط الكونية مع استراتيجية الهيمنة السياسية، فتصبح نتيجة لذلك مجرد دعوة أو أيديولوجيا. لقد حمل التنوير مجهودات الحضارات البشرية في البحث عن المشترك بين النوع البشري الواحد والمتعددة في آن. لذلك، فإن عقل التنوير يستحق الدفاع عنه، لأنه يجسد موقفا يشكل مدخلا إلى العالم الحديث، وأحد مقوماته، هذا العالم الحديث، الذي يتطلّع العالم الإسلامي إلى استيعاب أسسه الفلسفية والمعرفية والعلمية، فيجد عوائق متعددة في سبيل تفاهم مُمكن حول كونية تربطه بالقيم الإنسانية المشتركة، مقابل رسم حدود وتعاقدات انتقائية مع أصالته الحضارية. هذا التشظي بين مطالب متباينة، وعقد توافقات تلفيقية أو هجينة بين مطالب متناقضة، أو البحث عن مَعالم للعالم الحديث بين ثنايا مراحل سابقة عليه، يجعل من تراث الماضي دليل إدانة في وجه الحاضر، كل هذا لا يعدو كونه مجرد ادعاءات نخفي واقع تأخرنا التاريخي، إذ نروم دخول العالم الحديث دون المرور عبر مُسلماته الفكرية والعلمية والسياسية، أو بواسطة انتقاء أحد أبعاده المَخصوصة، غير أن ذلك ليس إلا تشويه لا يفضي بنا سوى إلى نتائج مُجتزأة من سياقاتها. فإن الخيالات التي تغمرنا ونحن نمشي مغمضي الأعين لا يمكن أن تعوض رؤية الطريق بعيون مفتوحة، وهي طريق الحسم في استيعاب مكونات العقل الذي شكل العالم الحديث.

 

عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود