سيطالبنا القارئ بعد إلقاء نظرته الأولى على العنوان بتقديم تعريف للفن كيفما اتفق. قد يطالبنا أيضا بتقديم هذا التعريف على غرار التعاريف الأنيقة والشاعرية التي يقدمها الأدباء والمثقفون، أو قد يطالبنا بتعريف الفن وفق صياغات ماهوية تربطه بالحقيقة على شاكلة الفلاسفة. لكن السؤال؛ لماذا نحن مطالبون بتقديم تعريف حول الفن كيفما كان؟ ليس مبتغى السؤال الاستهزاء بنيافة القارئ، وإنما الغرض يدخل ضمن الإشكالات الكبرى لعلم اجتماع الفن. فقصة الفن تكمن بالخصوص في تعريفه، لأن عملية التعريف هي مسألة تقييم للفن وتحديده. يجرد هذا إلى التساؤل عما إذا كان استخدام العلم لدراسة الفن "فكرة صائبة". لقد سبق لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (P. Bourdieu)، وهو أحد مؤسسي سوسيولوجيا الفن، أن قال إن السوسيولوجيا والفن لن يكونا ثنائيا متوافقا"، السبب أن هذا العلم عمل كثيرا على تخييب آمال كل هؤلاء الذين ينظرون للفن كظاهرة عجائبية متعالية عن شروط المجتمع. لقد تحدث الفلاسفة عن الفن والجماليات، لكنهم لم يشكلوا يوما تهديدا للفن، بل قدموا إسهامات مختلفة في أمثلته وإعادة إنتاج قيمته، وذلك لأنهم صرفوا ما صرفوا في البحث عن جوهر الفن وأنطولوجيته. لكن يبدو أن ما أغفله معظم الفلاسفة هو الحديث عن الفن في علاقته مع "المجتمع". ليس الأمر بالهين، فالفن قدم نفسه في لحظة تاريخية ما، كمعطى موضوعي منزه عن أي شروط، تماما كما كان الحب والدين قبل ظهور العلوم الاجتماعية.
ما علاقة الفن بالمجتمع إذن؟
عمدت سوسيولوجيا الفن إلى تفكيك مفهومي الفن والفنان، حيث لم يعد بالإمكان اعتبارهما شيئين مستقلين عن الظروف التي صنعتهما
الفن والمجتمع
حددت الباحثة في سوسيولوجيا الفنون ناثالي إينيك (N. Heinich) تطور دراسات الفن في ثلاثة أجيال؛ الجيل الأول ربط الفن بالمجتمع، ويتكون هذا الجيل من التراث الماركسي ومدرسة فرانكفورت بالأساس، ثم الجيل الثاني الذي درس الفن في المجتمع، فكانت مقاربته للفن منصبة حول دراسته من الخارج عكس الجيل الأول. وفي الأخير، ظهر الجيل الثالث وهو الذي صار يدرس الفن، لا داخل المجتمع ولا خارجه، بل باعتباره مجتمعا بحد ذاته. فانتقلت إذن الدراسات على ثلاثة أطوار متتابعة: دراسة "الفن والمجتمع"، فدراسة "الفن في المجتمع"، وصولا إلى دراسة "الفن كمجتمع".
في البدء أخذ الماركسيون زمام الأمور وفق أطروحة البنية التحتية/البنية الفوقية. فاعتبروا الفن انعكاسا ميكانيكيا للبنية التحتية لمجتمع ما (الاقتصاد والشوط المادية بالخصوص). لكن ماركس نفسه لم يجازف في تطبيق هذه المقولة حتى وهو بصدد الحديث عن الفن اليوناني وسحره، وكما قال كوردون: "لم يكن لدى ماركس الشيء الكثير ليقوله حول الفن". لكن بعض الماركسيين مثل بليخانوف (Plekhanove 1912) هم من جعل الفن جزءا من البنية الفوقية المنعكسة عن سافلتها المادية. ورغم تقدم هذه الأطروحة المتسرعة، قياسا بزمنها حيث التعريفات الجوهرانية ذات الطبيعة الكانطية، إلا أن هذه الميكانيكية ألغت المجتمع ذاته لصالح الظروف المادية. استدرك جورج لوكاتش (G.Lukas 1923)، على اعتباره ماركسيا، الأمر وقدم مخرجا مغايرا، فاعتبر الفن جزءا من مجتمع كلي معقد يتأثر ويؤثر في الظروف الاقتصادية، فتنبه إلى قضية الوساطة، على اعتبارها عنصرا ضروريا يربط الفن بالقاعدة الاجتماعية والاقتصادية. سار تلميذه لوسيان كولدمان (L. Goldmann) في كتابة "الإله الخفي" سنة 1964 في نفس النهج، ودرس التماثل (analogie) بين البنية الأدبية ورؤية العالم لدى الجماعات الاجتماعية. وكان موضوعه منصبا في تراجيديا راسين وفلسفة باسكال، فربط بين النظرة المأساوية التي تضمرها أعمالها والطبقة الوسطى الصاعدة الساخطة على هيمنة الطبقة الأرستقراطية القديمة. لقد اتجه أيضا أدورنو (Adorno) نفس الاتجاه وعبر عن كون الفن أبعد ما يكون من مجرد تعبير عن أدلوجة طبقة، إنما هو على عكس ذلك تعبير عن كلية اجتماعية.
هناك مفهومان أساسيان في التراث الماركسي: العلم والأيديولوجيا؛ الأول يعني التجسيد الحقيقي للواقع، والثانية تعني التجسيد الزائف له. السؤال الآن أيهما يستوعب الفن؟ ذريعة السؤال تكمن في كونه الفاصل المحدد لموقع الفن في التراث الماركسي، إن كان تابعا أو صانعا للمجتمع. لقد توصل توني بنيت (Bennet) وهو ناقد ماركسي، بتأويله لماركس، إلى كون الفن لا هو علم ولا هو أيديولوجيا، وإنما يقع بينهما؛ فالفن ذو طبيعة مزدوجة، قد يقنع الواقع وقد يقول لنا عن حقيقته. هذا ما أسماه ألتوسير (Althusser) القدرة الإلماحية للفن؛ فهو يلمح ويجعلنا ندرك ونحس بالواقع. لكل هذا لا يعدو الفن مجرد انعكاس ميكانيكي للبنية الفوقية كما ذهب بوليخانوف ومن والاه من مفسري ماركس، بل هو أعقد من ذلك.
في الحقيقة، إن يكن من مغزى إزاء هذا العرض الوجيز للتراث الماركسي، فهو كالتالي: ساهم الاتجاه الماركسي في تدشين معالم تأسيس لـ "استيطيقا اجتماعية" تقطع مع التصور الجمالي الكانطي الذي حيد الفن عن شروط المنطق والتاريخ، وأصبغه صبغة لا تاريخية. لم تكن طبعا الماركسية هي السباقة لهذا التدشين، بل كان الفيلسوف هيجل (Hegel) يعتبر الفن تعبيرا عن روح الثقافة، وقبله هيردر (Herder 1800) الذي دعا إلى ربط الفن بسياقه الثقافي. فكان الإيطالي فيغو (Vico1744) قبلهم جميعا قدم دراسة حول حالة الشاعر الإغريقي هوميروس، فخلص إلى اعتبار هذا الأخير مجرد منتوج ثقافي للشعب الإغريقي، حيث لا وجود لهوميروس كشخص[5]. لكن رغم ذلك، فالماركسية فتحت المجال لأبحاث تاريخية واجتماعية وفق خطاطة نظرية مسبقة، هي المادية التاريخية، وإن كان الماركسيون المتأخرون قد اجتهدوا كثيرا في تعديل خطاطاتها. لقد أفضى هذا الاجتهاد فيما بعد إلى ميلاد سوسيولوجيا الفن، بدءا من أواخر الستينيات، لكن هذه المرة بالاستناد إلى الدراسات الميدانية والمناهج الإحصائية، وكان أول من أدخل الإحصاء إلى هذا الميدان عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (Bourdieu).
سوسيولوجيا الفن
لم تعد تنظر سوسيولوجيا الفن إلى هذا الأخير كشيء خاص. وكما أشار الأمريكي هوارد بيكر في دراسته الفريدة "عوالم الفن"؛ فالاتجاه المهيمن من قبل هو ذلك الذي يدرس الفن كشيء خاص، ويعلي من شأن الإبداع، ومن ثم ينظر إلى جوهر المجتمع من خلاله. لم يعد الفن شيئا خاصا خلاقا يشير إلى عبقرية صاحبه، لأن هذه الأطروحة هي بحد ذاتها تضمر رهانات نشأت عن ظروف تاريخية مرتبطة بالقرن التاسع عشر. فالفن والفنان لا يتعدى عمرهما قرنين من الزمن. قبل ذلك، كان "الفن" عبارة عن حرفة ومهارة تستأجر لراع من الطبقة الأرستقراطية أو الحاكمة، فتوجه عمله وتملي عليه تفاصيله، فيسري العمل بشكل جماعي لا فردي. لقد ابتكر رومانسيو القرن التاسع عشر لفظة (Art) بحرف كبير للإشارة إلى فضاء مقدس متعال لا يمسه إلا أولئك العباقرة من المنعزلين متقلبي المزاج، الذين يشجبون تفاهة الواقع، ويذمون انحطاطه، فأنتجوا صورة نمطية عن الفنان.
فحسب إينيك (Heinich)، ولدت كلمة (Artiste) في أواخر القرن الثامن عشر للدلالة على الرسامين والنحاتين الذين كانوا يسمون قبل حرفيين. ثم ما لبثت أن اتسع نطاق الدلالة، ليشمل منذ القرن 19 عازفي الموسيقى وممثلي المسرح ثم ممثلي السينما في القرن العشرين[8]. لقد تطورت التسمية من مجرد تصنيف محايد إلى وصف تقويمي يحمل أحكام قيمة إيجابية. يدل هذا طبعا، على التغير التاريخي الحاصل في تثمين الإبداع. لقد كان القرن التاسع عشر زمن بداية انبثاق القيمة الفنية كما نفهما الآن. الشيء الذي جعل تلك الفترة وجهة للباحثين للتنقيب عن أسس نشوء وتطور القيمة الفنية والمجال الفني والحقل الفني. ومن أشهر تلك الدراسات دراسة "قواعد الفن" لصاحبها بيير بورديو الذي درس سيرورة استقلالية الحقل الفني، والأدبي خاصة، باتخاذ نماذج مثل فلوبير وبودلير وكل هؤلاء البوهيمين الذين اختاروا القطع مع حياة البورجوازية المترفة، والابتعاد عن الطبقات الشعبية في نفس الوقت. وذلك في سبيل بناء نمط ثقافي خاص يكون الفن والممارسة الفنية أحد ركائزه الخاصة. يطلق بورديو على هذا الاستقلالية (autonomie). لقد وجد الباحث في شخصية فريديريك بطل رواية "التربية العاطفية"، التجسيد الرمزي لهذا المنزع نحو الاستقلالية. فهناك "تمثل عند فريديريك لحياة المثقف ينزع إلى اعتباره متنصلا من كل الجذور الانتمائية. يظهر ذلك في حياة التنطع الفكري (dilettantisme) الذي يميز المراهقين البرجوازيين"[9]. كان هذا الطموح الوجودي نحو التنزه من الاجتماعي هو الذي جعل جماعة من الفنانين يؤسسون لحقل الفن وفق مبدأ الفن للفن.
لقد عمدت سوسيولوجيا الفن إلى تفكيك مفهومي الفن والفنان، حيث لم يعد بالإمكان اعتبارهما شيئين مستقلين عن الظروف التي صنعتهما، لكن هذا لا يعني أن الفن لم يؤسس له فضاء خاصا ينظم به ذاته وعلاقته مع المجتمع. وسواء اعتبرنا هذا الفضاء "حقلا" (champ) بلغة بورديو، أو عالما-فنيا (art-world) بلغة بيكر، فالأمر يشير في آن إلى وجود علاقات داخلية وخارجية تفعل ما تفعل، ليكون الفن ما هو عليه من قيمة وتأثير. فيحكى مثلا أن أحد جيران فان غوغ استخدم إحدى لوحاته ليسد بها ثغرة في خم دجاجه، فهل يمكن القول بأن تلك اللوحة عمل فني؟ وعكس هذا، هل يمكن اعتبار مبولة دوشان (Duchamp) عملا فنيا، وهي مجرد أداة سيراميك صناعية تستعمل للتبول، وجدها دوشان فعرضها كقطعة فنية؟
لقد حددت إينيك ثلاثة شروط ليكون العمل فنيا؛ أولها أن يستثنى العمل من أية وظيفة غير جمالية. كان هذا الشرط هو جواب لجنة فناني نيويورك المستقلين (AIA) حين عرض عليهم المبولة. الشرط الثاني هو أن يحمل العمل لقبا يعرف به صاحبه، ثم في الأخير، أن يكون العمل متميزا، حيث لا يقوم مقامه عمل فني آخر. لم تنتبه إينيك إلى كون الفن المعاصر، وخصوصا ما يشبه عمل دوشان، عصيا على أن تنطبق عليه بالضرورة هذه الشروط. فيمكن أن تعرض المبولات وإطارات الدراجات والملابس المستعملة، وكل الأشياء ذات الطبيعة الاستعمالية اليومية كأعمال فنية... وهي في آخر المطاف، واضحة من حيث وظيفتها الاجتماعية، كما أنها أعمال ليست مرتبطة بالضرورة باسم معين، وهي في الأخير أعمال متكررة.
لنعد إلى مثال فان غوغ. إذا كانت اللوحة تحمل قيمة في ذاتها، فلم استعملت بتلك "الحقارة"؟ إنه في الحقيقة، لا يمكن لعمل فني أن يقدم نفسه كذلك إلا من خلال سيرورة من التفاعلات التي يدخل فيها الفنان، ومحيطه، والنقاد وأصحاب المعارض والمتلقي والإعلام، وغيرهم. كل هؤلاء يسهمون في إنتاج العمل الفني، وإذا لم يقم أحد هؤلاء بمهمته كما يجب سيتخذ العمل مجرى مغايرا. أليس حري بنا أن نتساءل هنا، كما فعل بيكر؛ أي هؤلاء يعتبر فنانا بحق؟ هكذا إذن تسري عملية إنتاج القيمة. فالباحث لا يتساءل عن الفنية في المنتوج الفني، إنما يتساءل عن سيرورة إنتاجه. لقد اقتفت سوسيولوجيا الفن أثر الأنثروبولوجي مارسيل موس (M. Mauss) في نظرية السحر، التي تقول بعدم وجود السحر، إنما يوجد فقط سكان محليون يؤمنون بفاعليته، ويعتقدون بعجائبيته. تماما كما تحكي أحداث الفيلم المصري "البيضة والحجر"، حيث وجد أستاذ منبوذ للفلسفة نفسه متورطا في سياق شعبي يؤمن بالعرافة والكهانة، بعد أن اكترى غرفة بالصدفة فوق السطوح سكنها قبله عراف مشهور. لقد ظن الناس أن المدرس تنطبق عليه صفات العراف الذي سبقه، فجعلوا منه باعتقادهم ذاك أشهر عراف في مصر، دون أن تكون للرجل أية صفة تشير إلى قدرة عجائبية. يسري هذا التسلسل الاعتقادي، على الفن، فقد سبق لشارل لالو (C. Lalo) أن قال إننا "لا نعجب بلوحة فينوس للفنان ميلو (Milo) لأنها لوحة جميلة، بل هي جميلة لأننا نعجب بها".
الفن هنا والمجتمع هناك
هل تميل سوسيولوجيا الفن إلى نزع الطابع الرومانسي عن الفن؟
سوسيولوجيا الفن هي مثل سوسيولوجيا الدين، لا تناقش صحة المعتقدان أو بطلانها، إنما تناقش سيرورات انبثاقها والتفاعلات التي تسري بها إلى أضاع ممارسة واستهلاك محددة.
من خلال استقصاء بسيط أجريناه على موقع التواصل "فيسبوك"، تمكنا من جمع ما معدله 26 تعريفا عن الفن من قبل متفاعلين شباب ذكورا وإناثا، ممارسين للفن وغير ممارسين. وكانت التعريفات التي جمعناها عبارة عن إجابة لسؤال طرحناه عليهم مسبقا: "ما الفن في اعتقادكم؟".
اختلفت التعريفات ظاهريا من متفاعل إلى آخر. ورغم إشارتنا القبلية بإمكانية اختيار اللغة المتاحة للجواب عن سؤالنا، وخصوصا اللغة اليومية، إلا أن كل الفاعلين اختاروا استعمال اللغة العربية الكلاسيكية. قد يفهم هذا بهاجس القداسة القبلية التي أحاطها المتفاعلون بالفن، حيث لا يستساغ الحديث عنه إلا بلغة مجردة مثل اللغة العربية. فاللغة العربية بحكم ترادفاتها الوجدانية الشاسعة تتيح الفرصة أكثر للاستراتيجيات المناورة الخطابية والتعبيرية. فتتيح بذلك استعمال عبارات عالية التجريد مثل: مكنونات، كينونة، أحاسيس، سمو الروح، التعبير عن الأنا، التعبير عن الذات، الإبداع، هوية التعبير، الهبة الربانية، النفس، الالتزام، الوجدان، الإيحاء. اكتشاف الذات.. مثل هذه العبارات غير متاحة سوى في لغة مغرقة الوجدانيات والتجريد، يتقنها الجميع، وهي اللغة العربية الكلاسيكية. كان هذا دوما هو دور اللغة الكلاسيكية في المجتمع؛ أي لغة الخطاب لا الممارسة، أن تكون ذلك الملاذ المريح الذي نلجأ إليه في وضعيات حرجة، للحديث عن المجرد والعاطفي والصوفي، وأحيانا قد نلجأ لها للممارسة السفسطة والخطابة. وكما قال برنار لايير: "حين نتحدث عن الفن، فإننا نستعمل حقلا دلاليا يرجع إلى علاقة السيد والعبد، القوي والضعيف". فعلاقتنا مع الفن علاقة تملك، لكنه هو من يمتلكنا لا نحن.
استراتيجية الإجابة هذه، قد تفهم على أنها تقليد بدأه الأول واتبعه الآخرون في التعليق، خصوصا أن معظم الفاعلين الذين علقوا نادرا ما يكتبون باللغة الكلاسيكية في صفحاتهم، وحتى إن كتبوا فالتعليقات غالبا ما تكون باللغات اليومية. أما إن كانوا طلبة أو أساتذة، فهم في الغالب يستعملون لغة الدراسة (إنجليزية أو فرنسية، وذلك متعلق طبعا بتنشئتهم اللغوية التعبيرية). لكن استعمال اللغة بدافع التقليد ليس يدخل سوى في استراتيجية "التعبير الأنيق عن موضوع أنيق". فمادام تعريف الفن بذاته يحتاج إلى استراتيجية لغوية، فهو دوما ذلك الشيء الذي يتعالى عن المجتمع، وإن كان يخرج منه، هو تلك الهبة الربانية وإن كان يكتسب، هو ذلك الشيء الجميل، وإن كان تعبيرا عن أحاسيس نفسية، هو ملجأ الهموم وإن كان تعبيرا عن الواقع. إنه ذلك الشيء الموجود هنا دون أن يكون من هنا. لكن ما الذي يجعلنا نعتقد أن المتفاعلين يعتقدون بمثالية الفن، فيلجؤون إلى لغة مثالية؟
تمكن الفن تاريخيا من بناء صرح ميتافيزيقي حول نفسه مستندا بذلك على أسس نفسية ووجودية، وفكرية، وهي كلها اجتماعية، تماما مثل ظاهرتي الدين والحب
سيكون الجواب عن طريق عرض مضامين التعاريف، وتحويلها إلى اتجاهات تحليلية. في الحقيقة هناك أربعة أسئلة أساسية يجيب عنها المتفاعلون بطريقة غير مباشرة أثناء تعريفهم للفن.
- ما قيمة الفن؟: يجمل هذا السؤال التعاريف التي تربط الفن بالقيمة، فيغدو الفن "شيء جميل".
- ما مصدر الفن؟: يجمل هذا السؤال الأجوبة التي تبحث في ماهية الفن، فيغدو الفن "هبة ربانية".
- ما فائدة الفن؟: يجمل هذا السؤال الأجوبة التي تربط الفن بجانبه البراغماتي والنفسي، فيغدو الفن "تعبير عن الأحاسيس أو ملجأ لها".
- ماذا تعني تجربة الفن؟: يجمل هذا السؤال الأجوبة التي تربط الفن بالجانب الإشراقي، فيغدو الفن "سموا بالروح".
يصير الفن إذن حسب المتفاعلين تجربة جمالية، ووجدانية، وروحانية، وربانية؛ فهو إذن تجربة فردية داخلية تمتد إلى النفس أو الروح. لم يكن لهذا المنزع "الوجودي" للفن سوى أن يعبر عن "سوسيولوجية الشباب" بما هي فضاء صراع ذاتي وجودي مع المجتمع العام. فيعيد بذلك، إنتاج التوصيف القيمي الذي تأسس في القرن التاسع عشر مع الأدباء الرومانسيين. لكن هل للفن صيغة أخرى غير هذه التي قدمه بها الشباب؟
في الحقيقة، لقد تمكن الفن تاريخيا من بناء صرح ميتافيزيقي حول نفسه مستندا بذلك على أسس نفسية ووجودية، وفكرية، وهي كلها اجتماعية، تماما مثل ظاهرتي الدين والحب، حتى يحافظ على بقائه منزها عن كل الأغراض الاجتماعية الواضحة. في حالة المتفاعلين، فالفن لا يمكنه أن يكون سوى "تجربة فنية" معزولة، وهي معزولة لأنها منزهة. وهذه التجربة الفنية تتضمن ثلاثة عناصر أساسية: أولا، الفن كعملية اندماج في سياق فني معين، أكان الفرد ممارسا أو متلقيا في الموسيقى والمسرح والشعر وغيرها. ثانيا، الفن كاستراتيجية للتعبير عما يصعب التعبير عنه، ووسيلة تطهيرية نفسانية. ثالثا، الفن كعملية تذويت (subjectivation)، حيث يسمو الفاعل بذاته صوب رهانات فوق اجتماعية أكان ذلك "سموا بالروح" أو "رقيا بالذات".
باختصار، يعتقد المتفاعلون كسائر أفراد المجتمع بسحرية العمل الفني، وتلك السحرية إنما تجد شرعيتها عندهم في تلك القدرة التعبيرية والجمالية، بل والربانية أحيانا التي يسحبونها عليه. فالفن إذن بالنسبة إليهم هو شيء في ذاته. هم بذلك يعيدون إنتاج نفس الاعتقاد السحري المعتاد حول مثالية الفن، لاغين بذلك كل إمكانيات التفاعل والصراع والتواطؤ والفضاءات التي تنفعل كلها في لحظة ما لتقدم شيئا ما يعترف به أخيرا كعمل فني. لكن ماذا لو افترضنا أن الفاعلين قدموا تعريفات مناقضة لما قدموه من قبل؟ ستكون الإجابة زوال الفن بالمرة عن الوجود؛ فالفن في آخر المطاف يبرر وجوده باعتراف الآخرين، وبدون معترفين لا يوجد فن، لأن صاحب العمل ليس إلا جزءا في اللعبة. يبقى السؤال عن طبيعة هذا الاعتراف وماهيته. يشير باونز (A. Bowness) إلى أربع دوائر للاعتراف تسهم في إنتاج قيمة العمل الفني: الأولى دائرة معارف الفنان، والثانية هواة جمع الأعمال والتجار، الثالثة أهل الاختصاص والخبراء، الرابعة الجمهور. تعطي الدائرة الأولى والثالثة للفنان اعترافا قيميا، في حين تعطيه الدائرة الثانية والرابعة اعترافا مرتبطا بالمال والشهرة. وبدون دوائر الاعتراف الأربع لا يوجد فنان إلا بصيغته البوهيمية.
خاتمة
ليس الفن في علم الاجتماع سوى "شيء ما" اعتبرته "جماعة ما" على أنه فن. إذا تجاوز العلم هذا التعريف، سينخرط في عملية إنتاج قيمته، فيفوت على نفسه فرصة فهمه وفهم الأفهام المنسوجة حوله. سيلاحظ القارئ أننا لم نطرق باب الفن كملية إبداع قد ترتبط بسيرة الفرد البيوغرافية أو الاجتماعية، كما أننا لم ندخل في جدال الفطرية والاكتساب في الإنتاج الفني، بل سلطنا الضوء فقط بمقاربتنا التحليلية حول الفن كلغز. لأنه بالنسبة إلينا، ليس السؤال "ما الفن؟"، بل لماذا يكثر "الكلام حول الفن؟". هذا السؤال لا ينزع بالضرورة عن الفن شرعيته، إنما يعيد بناء ونسج الخطاطة الثقافية والتاريخية التي جعلت من الفن فنا ومن الفنان فنانا.