“اِقرأ معناه أنج والنّجاة ليست أن يموت المرء ليحيا، ولا هي أن يرجع إلى الحياة. وليس ذلك من أمر التّناهي أو البعث… ولربّما وجب علينا الاكتفاء بشيء قد يكون من الأحسن تسميته «بعودة الحياة» كما نقول “عودة الحلم”1
هل يحقّ لنا اليوم قلب المواقع ومخاطبة الله بدافع المحبّة على نيّة الرّجاء، وصون نفسيّة الإنسان المقهور الحالم بالأمل المتجذر في أعماق نفسه، وإنقاذ وجه الله في عيوننا المفتوحة على أفق شموس أخويّة قادمة من كلّ بقاع العالم فاتحة ذراعيها لكلّ إنسان دون تمييز كشرط الملّة والدّين، إلاّ قداسة الحياة والكرامة الانسانيّة، إنقاذه من جثث الموتى الأشباح المقنعة برداء الملّة كجلد ميّت، بجنون كفن تلبس أفعى ضدّ منطق الصّيرورة في الحياة، أشباح عادت من المقبرة بمخالب مضرجة بدم الإنسان الّذي خلق في أحسن تقويم؟ هل صار الرّب مهدّدا إلى هذا الحدّ من توحّش الرّعب القاتل لمثلث الموت: القبيلة، الغنيمة، والعقيدة، وهو يرى فرسان القتل يتخلّون عن تعمير روح أنفسهم إستعدادا للولادة من جديد، يدمرون باسم الله المدينة تدميرا، في سبيل الله نصرة للملّة/ المقبرة، وهم مفعمون بحنين الغزو والسّبي وقهر النّاس بحكم الله، وباسم الدّين الحقّ الّذي لا دين سواه؟ ماذا بقي الآن هنا من الله فينا كي نشمخ ونعتزّ بأنفسنا ونخرج على النّاس ببهتان خير أمّة يمسك فيها الميّت بيد الحيّ، وتأمّر بالموت عشقا لبكاء الرثاء والنّدب، ولحقائق ثابتة في الوهم، وأنفس خالدة داخلنا على خلفية الظّلم والقهر، وتنهى عن الحياة تملقا لعبوديّة ذل الرحمن الّذي ولى هاربا تحت وقع ضربات نور انبلاج فجر شرق الرّوح الّذي حملته رياح الهزّات العنيفة لصيرورة الحياة المدنيّة الحديثة الّتي زعزعت عرش إله سلطة مثّلث الرّهبة والرّعب: القبيلة، الغنيمة والعقيدة ؟
أنج أيّها الرّب من عبادك الصّالحين فقد تجاهلوا جثثا نتنة داخلهم، فأصرّوا واستكبروا استكبارا، وأتوا على الأخضر واليابس، متنافسين على خنق صورتك في الدّين والملّة والفرقة النّاجية والطّائفة الكريمة…، حتّى لا تتّسع فكرتك لكلّ النّاس. كأنّ الرّجاء رجاؤهم، والإيمان إيمانهم، عاجزين عن معاودة إنتاج نور فكرتك في قلوبهم، كما لو كانوا يسارعون إلى الاجهاز عليك تشبّتا بمستنقع بقايا الميّت المتحلّل فينا، ورفضا لنهر الحياة المتغيّر باستمرار، حيث لا يمكن للمؤمن أن يفكّر الله نفسه مرّتين.
الكثير من الأسئلة الّتي طرحت، من مثل لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم الأوروبيون؟، منذ حملة نابليون على مصر وما خلّفته صدمة الحداثة من هزّات وتحوّلات، كانت مجرّد أسئلة ميّتة مسكونة بهوس الموت، وهي تعتقد أنّها تنفتح على الحياة دون أن تدرك أنّها تفعل ذلك من خلال أفق موت الماضي البعيد كليّا عن اللّحظة التاريخيّة والمرحلة الحضاريّة وما تطرحه من مهام وتعيشه من تحديات، ومن فرص ومخاطر، متفاوتة التّطور والفعل، والتّأثير والعمق من مجتمع لآخر. لذلك كانت مصطلحات بحد ذاتها طاغية في وهم “التّفكير” العربيّ الاسلاميّ مثل: العودة، الانبعاث والبعث، والإحياء…، وحتّى مفهوم النّهضة كان محمّلا بهذه الدّلالات في الحلم بمفارقة عودة الميّت لعيش الحياة من خلال سرديّة المتخيّل التاريخيّ الذهبيّ الّذي تمّ توارثه أبا عن جدّ اعتمادا على آليات الذّاكرة والذّكر والذّكرى إحياء لهويّة ونفس خالدة…
لكن ما السّر في هذا التّقمص النّفسيّ إلى حدّ التّماهي مع المتحلّل فينا إلى درجة عدم القدرة على التّخلص من هذا الارتباط السّادي الأعمى بالموات الأبدي؟ أو بتعبير آخر أكثر دقّة لماذا هذا التّثبيت النّفسي، الفكري والإيماني؟ وماذا يعني نكران الواقع إلى درجة عدم القدرة على عيش عالم التّغير والتّطور والصيرورة الّذي لا يعترف بأنفس خالدة داخلنا ولا بحقائق هويّة منزلة، وملّة جاهزة ونهائيّة وصراطا واحدا ووحيدا هو المستقيم وما عداه سبل الشّيطان والضّلال المبين؟
هل نجد الأجوبة في محدوديّة الإطار المعرفيّ الاجتماعيّ التاريخيّ لمجتمعاتنا وما أنتجه من أسئلة زائفة عاجزة عن تحقيق وعي بشروط وظروف ومعطيات المرحلة الحديثة والحداثيّة الّتي أجهزت على مفهوم وواقع الملّة، الّذي لم يعد أكثر من ذكرى عابرة في الزّمن، أو بتعبير أدقّ صارت الملّة مجرّد شاهدة قبر لسماء كشطت لأنّها لم تكن تتّسع للإنسانيّة إلّا بصفتهم عبيدا، جواري، ذمّيين، أو كفّارا يحلّ دمهم…
الإله هو الشّيء الوحيد الّذي لا يمكن إنقاذه، لكن يمكن لفكرة جديدة أن تكون أملا لإشراق حريّة العبور..
كما أنّ حمى التّنوير الديني، والاصلاح التّديني الّتي تجري على قدم وساق من ندوة لأخرى، ومن موقع ومنبر لآخر، لن تنقد شيئا واضحا شفّافا في النّفس ليس كمثله شيء، قد انكسر ولا يمكن ترميمه إلّا من خلال الوعي والإلمام بمعطيات اللّحظة التاريخيّة والمرحلة الحضاريّة الانسانيّة، حيث تشرق بكلّ ألوان الطّيف روح فكرة الله على الجميع، وهي تكذّب نفسها باستمرار، كما لو كان كمالها في نقصانها، تحققها في أزمتها…
” أعتقد بأنّ لديّ أحلاما حقيقيّة. حلم الانبثاق من تكوين آخر. من طوفان آخر. التّشكل في فجر أرض أخرى لا تكون الصّدفة فيها قد نهبّت الخلق. الانبعاث في إشراقة مستقبل غير واقعي بتمامه. سيكون الخيال في جدول أعمال كلّ يوم. بحث دون هدف. إجابات صادقة على ألغاز أبي الهول البشري. مهام متواضعة مثل إنجاد الورود المهدّدة. مداعبة نفوس الأشجار المطهريّة. غناء تهويدة للطّائر الصّغير الّذي سقط من العشّ. وبين البشر، تبادل الابتسام. إظهار خطوط اليد، وتعلم قراءة كلمة الحبّ المتردّدة على الشّفاه”