أفرز الحراك الشعبي الجزائري ضدّ العهدة الرئاسيّة الخامسة، على مدى الأربعة أسابيع الماضيّة، ابتداء من الجمعة 22 فيفري 2019، وعيا وواقعا جديدين فاقا كلّ التصوّرات والتنظيرات الممكنة، ولعلّ أبلغ رسائل الشارع كان دور المرأة اللافت في هذا الحراك وحضورها الكبير والمكثّف وفاعليتها فيه بشكل غير مسبوق، فإلى عهد قريب ظلّ الشارع ذكوريّا بامتياز تتخلّله بعض الأصوات القليلة للنساء اللواتي ينخرطن فيه في محاولة لتغيير السياقات الثقافيّة الأبويّة المكرّسة في المجتمع، ولكن رغم محاولتهنّ تلك يظلّ الحضور النسوي مُحتشما وعلى استحياء بفعل عوامل ثقافيّة واجتماعيّة ودينية قلّصتْ من أهميّته في المشهد السياسي والاجتماعي، يُضاف إلى تلك العوامل كلّها تنامي ظاهرة الإسلام السياسي وإيديولوجيته المتطرّفة، فما فتئ يُحرضّ على المرأة ويقزّمها في المجتمع، ويضغط عليها من أجل ترك كل دور لها والانسحاب من مسؤولياتها والعودة بها إلى البيت لعزلها عن أي نشاط أو مشاركة في التنمية وصنع المستقبل. لكن المكان تأنّث في حراك الجزائر الشعبي وتملّص من مفاهيم التراتبيّة الهرميّة، والمركز والهامش والذكر والأنثى، ولو لحين، ليغذو المشهد أكثر إنسانيّة بفعل المساواة في الفعل بين الجنسين التي أطرت الميادين والساحات والقرى والمداشر والمدن والأحياء والأزقة، فقد هبّ الناس دفعة واحدة على امتداد الجغرافيا الجزائرية، يؤكدون رفضهم للوضع القائم ويعلنون
في الصورة الأكاديميّة والروائية الجزائريّة الدكتورة فيروز رشّام
عن رغبتهم الأكيدة في سياسات بديلة تنحاز للشعب ومطالبه المشروعة من أجل البناء والتغيير. جاء تأنيث المكان في حراك الجزائر الشعبي بشكل عفوي، وقد عكس درجة كبيرة من التحضر والرقيّ والتسامح بين جميع الأطياف، وبين الرجال والنساء على حدّ سواء، في مشهد ملحمي أسال الكثير من المداد في وسائل الإعلام المحليّة والعربيّة والأجنبيّة، كما يلاحظه المراقب للشأن السياسي الجزائري الراهن.
قال محي الدين بن عربي عبارته الشهيرة ومضى: ((المكان الذي لا يؤنّث لا يعوّل عليه))، وحتى وإن جاءت عبارة ابن عربي في سياقات خاصّة تاريخيّة أو دينيّة أو صوفيّة، فإن معانيها ذات حمولات مكثّفة، تنتهي إلى أنّ المكان الذي لا يحتفي بالمرأة يفقد مكانته وقيمته وإشعاعه، فهي من يضيف المكانة للمكان بلا منازع، وعدا ذلك يظلّ هذا الأخير باهتا ناقصا موحشا. من الواضح جدّا أنّ المكان في أيّ من تمظهراته يعكس شخوصه الفاعلة فيه، وهذا الكلام يذكّرنا بعديد الأمثلة التي سنسوق بعضها هنا على نطاق ضيّق للإيضاح فحسب، أمثلة عن كيفية تحوّل السياق المكاني بفعل التأنيث إلى مَعِينٍ لا ينضب من القيم الفكريّة والمعرفيّة والنضاليّة العميقة. وفي هذه العجالة سوف يتم المرور على تجربة تأنيث المكان عند الفيلسوفة المالطيّة أسبازيا، وعند الأديبة مي زيادة، فالأولى اشتهرت بالحكمة والذكاء وعمق التفكير، وكانت تدير حلقات فكريّة وتلقي محاضرات في صالونها الفكري الخاصّ، كان يستمع إليها القائد بركليس وسقراط وأنكساغوراس وفيدياس وغيرهم من مفكري العصر، الذين كانوا ينصاعون لضوابط المكان وقواعده التي وضعتها أسبازيا، رغم القيم الذكورية التي كانت راسخة في المجتمع، ويُحدّثنا التاريخ عن أسبازيا التي كانت عضوة بارزة في النقاشات الفلسفيّة، في مرحلة تاريخيّة تنكّرت للدور الإيجابي للمرأة، ولكنّها رغم ذلك استطاعت إحداث الفارق وصنع الاستثناء، وخاضت في حياتها كفاحا بطوليا من أجل تغيير ذهنيّة المجتمع لتمكين المرأة من المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية، ومن أجل انخراطها في المكان بصورة فعليّة وليست شكليّة. أما الثانيّة فحوّلت منزلها في بداية القرن الماضي إلى صالون أدبي، كان بمثابة منتدى فكري وملتقى للأدباء والشعراء والفنانين من مصر ومن مختلف البلاد العربيّة وحتى من أوروبا فضلا عن ذلك. لا شكّ أنّ الصالون الأدبي لمي زيادة كان في زمانه ثورة على العادات والتقاليد التي كبّلتْ المرأة، وفرصة سانحة للانعتاق والحريّة، فقد كان يعقد ندواته الفكرية كل يوم ثلاثاء، ومن أشهر رواده لطفي السيّد وخليل مطران ومحمود عباس العقاد، وطه حسين، ويعقوب صروف، وأحمد شوقي وكثيرون آخرون، ما جعله يتحوّل إلى منبر للتفكير الحرّ والنقد النزيه، فيساهم في إثراء الحياة الثقافية. وليس من قبيل المبالغة أن تطلق ألقاب كثيرة على مي زيادة جراء ذلك، مثل ”أميرة البيان” من طرف فارس الخوري و”فريدة العصر” من قبل خليل مطران وغيرها من الألقاب التي تشهد على جهود فريدة من طرف الأديبة لتأنيث المكان وإكسابه نبضا جديدا وفريدا.
وعطفا عما قيل فإنّ تأنيث المكان في فضاءاتنا المختلفة يكتسب أهميّته في إشاعة قيم التسامح والاختلاف والتعايش والمساواة بين الجنسين، وفي النهوض بمجتمعاتنا وترسيخ قيم الديمقراطية والحريّة فيها للانخراط في التاريخ المحلي والكوكبي. فالمكان الذي لا يؤنّث لا يعوّل عليه، وإنّ هذه العبارة الآتية من أعماق زمن مضى لا تزال تطمح إلى تفعيلها في أزمنتنا الحاضرة وفي كل الأزمنة الانسانيّة، التي تسعى نحو قيم الحقّ والخير والجمال.
عن كوة