في السَّابع عشر من ديسمبر عام 1273م/ 672هـ، كانت جنازة المتصوِّف جلال الدِّين الرُّومي، في مشهد مهيب ورهيب، حيث شَيَّع جنازته كل أتباع الدّيانات، وهم يبكون، وكان اليهود يتلون التوراة، والنصارى يتلون الإنجيل، وكان المسلمون يُنَحُّونهم، فلا يتنحّون، وبلغ ذلك حاكم البلد، فقال لقساوستهم ورهبانهم: ما لكم ولهذا الأمر، وإنها لجنازة مسلم؟ فقالوا: به عرفنا حقيقة الأنبياء السابقين، وفيه رأينا سيرة الأولياء الكاملين. وكانت الجنازة قد خرجت في الصَّباح الباكر، ووصلت إلى مقبرة البلد عند المساء، ودفنت بالليل لكثرة ما خرج الناس لحضور جنازته.
لقد مَرّ على رحيل جلال الدّين الرُّومي نحو 744 عامًا، وما زال حضوره في ذاكرة البشرية قويًّا، ونصوصه في التّسامح والتّعايش متداولة وحيّة، وكلّما تحدّث الناس عن تعايش الأديان استُحضِرتْ سيرة هذا المتصوّف، نظرًا لما تمثله سيرته من نموذج للإنسان الفاضل، والمحبّ لغيره، الذي حظي بمحبّة الآخر البعيد من حيث الديانة، والقريب من حيث المحبة الإنسانية، تلك الرابطة التي لا يزيدها الدّين إلا عُمقًا ورسوخًا، وهي رابطة المحبَّة في الله، أي محبَّة الخلق لله، بما أنَّهُم خَلْقُ الله، ولذلك فإنَّ سيرة جلال الدين الرومي، تحمل كثيرًا من الدلالات الرمزية وبخاصة عند أهل المذاهب الإنسانية، كما تبيّن بجلاء دور المحبة في تحقيق تعايشٍ بين أهل الأديان وترسيخِ حوارٍ وجِوارٍ وتآلفٍ بين كل الطوائف الدينية، بعيدًا من الخلافات الأيديولوجية أو السِّياسية أو الذَّاتية المقيتة، وإنّما غاية الجميع جمعُ الشَّمل وتوحيد الجهود لبناء الإنسان الحقيقي، ولا شك أنّ مواصفات هذا الإنسان، يأتي على رأسها أن يكون «إنسانًا» على الحقيقة، فيحقِّقُ ما ترجوه منه الإنسانية جمعاء من برّ ووفاء وإحسان ونكران للذات ومحبة لكل الموجودات.. وغيرها من أخلاق النُّبَلاء.
إنَّ مجال الروحانيات بشكل عام، يركّز على جوهر الإنسان في بعده الرُّوحيّ والقيميّ والأخلاقي بعيدًا من كل خلفية عرقية أو قبلية أو دينية أو أيديولوجية ما تُضَيّقُ مفهوم الإنسان، وتجعل منه مرادفًا للأنانية والسّلطوية والتّعالي على الخلق، وإنما أهل التديّن الحقّ مَنْ رأوا في الإنسان بُنْيَان الله، وأنه كائن مقدّس لا تُنتَهَك حرمته، ولذلك شكّلت المحبَّة جسرًا آمنًا للعبور نحو الأمن والسلام، ومنطقة التعايش التي أثارت إعجاب أتباع كل الديانات، وكانت الخيط الرفيع الذي جمع الشتات، وألّفَ القلوب لتدخل الدائرة؛ دائرة الجود والعطاء، فيفتح المرء ذراعيه للجميع بِحُبٍّ وسَخاء، وفي هذا المعنى يقول جلال الدين الرومي: «انضم للدائرة، كمْ تستغرق من الوقت كي تدور حولها؟»، ويؤكد أنَّ نِيَّة المحبّة تجلب المحبَّة، فيقول: «افتحْ ذراعيك طالما تشتاق إلى مَنْ يحضنك»، فتتجسّد المحبة في جسد المتصوف، المقبل على الحياة فاتحًا ذراعيه، في طوافٍ لا متناهي حول القلب، وفي رحلة دائمة بحثًا عن الأفضل، وتعبّر حركات الصوفية في طريقة الرُّوميّ المسماة المولوية عن هذا الشُّعور، حيث «يبدأ الدَّراويش رقصتهم ضامِّين أيديهم إلى صدورهم، لامسين أكتافهم براحتيهم آخذين بالدَّوران البطيء، ثم يفتحون أيديهم كما الأجنحة: اليُمنى مرفوعة إلى السَّماء كما لقطف ثمار النعمة، واليُسرى ممدودة نحو الأرض لينثروا عليها النِّعمة التي دخلت قلوبهم وها هي تتفجر وتتدفق لتدفئ العالم بحرارة الحبّ الإلهيّ»، ومَنْ كانَ هذا حالُهُ لا يمكن أن يُنْتِجَ إلا الأمن والطمأنينة في المجتمع، وضمن نطاق الأمكنة التي يمرّ منها، ضمن الدائرة الكبيرة؛ دائرة الكون والحياة والوجود، بل تغدو الأفكار أيضًا بوصفها جغرافيا الذاكرة منتجة للمحبّة وللخير، فتَنْسَى كُلّ خِلافٍ أو شِقاقٍ، وتُبقي نِداء العيش بسلام يصدح في الكون أنشودة الزمان، ولذلك لا يدري المتصوف كمْ مِنَ الوقت يستغرق كي يدور حول الدائرة، ولا شكَّ أنَّ هذه المعاني نجدها أيضًا عند الشيخ ابن عربي الحاتمي، في أبياته المشهورة:
لقد صار قلبي قابلًا كل صورة
وبيتٍ لأوثان وكعبة طائـــف
أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت
فمرعًــى لغــزلان ودير لرهبان
وألواح توراة ومصحف قرآن
ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني
أحد المواكب الصوفية بمصر
هكذا، يمكن النّظر إلى المحبّة بوصفها ذاكرة للخير والعطاء، منتجة لدائرة التَّسامح بين الأديان وحوار الثقافات، فمن الملاحظ أنَّ حوار الأديان الذي تقوم به المؤسسات الرسمية، غالبًا ما يجري التَّركيز عليه إعلاميًّا، لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية، في حين يمكن للبحث العلمي في ذاكرة المحبة أن يحقّق ما لم تحقّقه السياسة والمال والأعمال، فالثّقافة تملك القدرة على الإقناع وعلى التغلغل في النفوس ومحاورة العقول والضمائر، ولكي ينتقل مضمون البحث العلمي في هذا المجال، من حقل النظريات إلى حيّز التطبيق العملي، على الحُكَّام وأهل تدبير الشَّأن العام أن يوظفوا في برامجهم السياسية والتنموية حصيلة البحوث العلمية، من أجل تجنبّ الدمار المرتقب والإسراع بتحقيق السَّلام العالميّ وترسيخ العيش الإنساني المشترك، وهذا جانب مهم من جوانب الديمقراطية التي تستهدف حماية الحياة على الأرض واقتسام ثروات الكون من خلال منظومةٍ للقيمِ المشتركة والقوانين العُليا السّامية، ولعل ذلك ما يُفسّر تصاعد وتيرة التيارات الإنسانية عبر العالم التي تعمل على إذابة الفروق الفردية والمجتمعية، من خلال التركيز على الإيمان وعلى الروحانيات، لكي تستقيم الأخلاق، فيُعَدَّل السلوك الإنساني ليطابق مقتضى رسالة وجود الإنسان في الأرض، وهي العيش بسلام، من دون سفك دماء الأبرياء أو الإفساد في الأرض، فالإيمان بمبادئ ميتافيزيقية أو دينية سماوية أمر ضروري كي تستقيم الأخلاق، ولأجل هذه الغاية بَعَثَ اللهُ الرُّسُل والأنبياء.
حركة التواصل والتفاعل
كلما اتسعت دائرة العطاء ضاقت الكراهية، ولأنَّ أحبّ الناس إلى الله أنفعهم، فقد تسابق أهل المحبّة لتوسيع الدائرة؛ دائرة الجود والعطاء غير المحدود، لخدمة الناس والتنافس على نفع الخلائق، وبذل الجهد في سبيل إدخال السرور على الآخرين، بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، من دون انتظار لأيّ شكر أو جزاء، مِصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾، وهكذا لم ينشغل أهلُ العِرفان بالحقائق وترك العلائق، وإنما سَعَوْا إلى نفع الخلائق والاختلاط بالناس والتفاعل معهم، مصداقًا للحديث الشريف: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ»، ولذلك شاعت تقاليد إطعام الطعام، وتدريس أبناء الفقراء، وممارسة التَّطبيب، والإصلاح بين المتخاصمين، وتقديم ما يُستطاع من نصح وعون لأفراد المجتمع، سيرًا على نهج السلف الصَّالح؛ فقد كان الصحابة علماء مجاهدين، وعلماء تجارًا، وعلماء مزارعين، فلم يتفرّغوا فقط للعلم الدّيني ولا الدُّنيويّ، ولم ينصرفوا إلى الدُّنيا أو إلى الآخرة، بل جَمَعوا بين الحُسنيين، وهو ما ينسجم مع مفهوم المواطنة الفاعلة والحكامة الجَيّدة التي تنشدها مجتمعات هذا العصر، وأمثال هذه الشخصيات الخالدة لا يمكن أن تكون إلا متصالحة مع ذاتها ومع غيرها، فلا مجال للتطرّف أو التهرّب من الحوار ومن التَّعايش مع الآخرين مهما كان الخِلاف كبيرًا، ما دام إيمان المؤمن بقيمة الإنسان مُوجِّهًا لحركة التواصل والتفاعل.
قد يوفّق المتديّن بين الظَّاهر والباطن، فيقول: إنَّ الشَّريعة من غير الحقيقة رياء وكذب، وإنَّ الحقيقة من غير الشريعة إباحة وفسوق، وقد يوفَّق بين الأمور الدنيوية والأمور الأخروية بمذهب معتدل بين الطَّرفين، فليس الزَّاهد من لا يملك شيئًا، بل الزَّاهد عنده من لا يملكه شيء، فهو مالك للدنيا غير مملوك لها بحال، فهذا أبو الحسن الشاذلي دعا جهارًا إلى التنعُّم بالملابس والمراكب وغير ذلك، وكان يلبس الفاخر من الثياب، ويركب الفاره من الدّواب، ويتّخذ الخيل الجياد، وهذا الشيخ التهامي الوزاني، على الرغم من زهده وورعه، كان من كبار الأثرياء، يملك أراضي فلاحية تستغل في زراعة الحبوب، وكان حريصًا على توجيه أبنائه لتعاطي الأسباب حتى لا يقع لهم طمع في الناس، حيث كان تركيز القوم على امتهان مهنة أو حرفة يقتات منها، ويحقّق استقلاله المادي، بل إنَّ عملهم في التدريس كان تطوّعيًّا ومن دون الحصول على أيّ أجر، بل وُجِدَ من الصوفية مَنْ أسّس مذهبه على الجود والعطاء، ومنهم الشيخ أبو العباس السّبتي الذي لخَّص منهجه في أنَّ «الوجود ينفعلُ بالجُود».
كل ذلك دليل على انخراط المتديّن الصّادق في نفع الخلائق، والاهتمام بالعلائق، ونسج الصّداقات، والجود بالصَّدَقات، وهو ما ساعدهم على حل كثير من مشاكل المجتمع، وتوجيه مسار الحياة وجهة سليمة، ولعل من أسمى مظاهر نفع الخلائق؛ نشر العلوم والتزام مكارم الأخلاق في المعاملات ورعاية الفضيلة، فكانت السّيرة الحُسنى لكثير من أهل التّزكية، وسيلة مُثلى لنشر قِيم العَدل والحُرّية، بوسائل سِلميَّة كالتِّجارة والتَّعليم والاختلاط بالطَّبقات الشَّعبية بين العَامَّة والفُقراء، وهو ما جعلَ أهلَ العِرفان في عيون الآخرين نماذج حيَّة تَتَّصِفُ بالصّلاح والتّقوى، فضلًا عما تقوم به من خدمات اجتماعية، وألوان من البر والإحسان والمواساة والمؤاخاة، وذلك بمنهج يقوم على مبدأ التدرج والترقي حَسَبَ هِمَّةِ المتلَقِّي وجهده، وعلى قدر طاقته واستعداده، فكان الشّيخ المربّي واعيًا بهذه الحقيقة النفسية؛ «فمن تصلح له الخلوة رباه بها، ومن تصلح به الخلطة ربَّاه بها»، وهو ما يطلق عليه في أدبيات التربية الحديثة بالبيداغوجيا الفارقية، تلك التي تراعي اختلاف وتيرة التعلم من فرد لآخر.
وفي مُحاورة المخالف، كان لأهل التَّربية الرُّوحيّة ذكاء عاطفي واضح، في التعامل مع قضايا الواقع، بقوة مع عزم، والتزام وصبر وعمل، مع التشبث بالأصول ومعرفة الواقع، والتزام بالثوابت وتسامح في الفروع، وإيمانٍ بأنَّ الخلاف في تذوق الحقيقة الدينية أمر لا مناص منه، ولا عيب فيه، وهو موجود في سائر الملل والنّحل، وهو راجع إلى تفاوت قوة الإدراكات بين الأشخاص، فكان حفظ حقوق الآخر المخالف في إطارٍ من التعايش السلمي للمجتمع بجميع طوائفه وفئاته، أولوية كبرى، وقيمة في حد ذاتها؛ لأنّ المجتمع لا تعيش فيه فئة واحدة ووحيدة، إنما خليطٌ من الأجناس والأفكار والآراء والمواقف التي مهما تناقضَت وتباعدَت، لا ينبغي أنْ تُؤَدِّي إلى الصِّراع والمواجَهة، ففي ذلك تحطيم لأواصر العلاقات بين مكونات هذا المجتمع، وتعطيل للعقل وللحرية.
تَتَّسِعُ دائرةُ العطاء المادي والروحي لتشمل الجميع، من دون أيّ مِنّة أو ادعاء بامتلاك خزائن هذا العطاء، إذْ لا يملك الضرّ ولا النَّفع إلا ملك الخلائق، الحيّ القيوم، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾، وقد ذكر الله في هذه الآيات الكتب السماوية للديانات، كالتوراة والإنجيل والفرقان الذي هو القرآن، ودعا سبحانه إلى الإيمان بكتبه ورُسله، وهي دعوة صريحة للتعايش بين الأديان، وبخاصة أنَّ دين الله واحد، وإنما تتجدّد الرِّسالات عبر الزمن، وصولًا إلى الرِّسالة الخاتمة وهي رسالةُ محمد صلى الله عليه وسلم.
إنَّ قبول الآخر في سياق التسامح، يُمَثِّلُ زكاة القلب، وتحلية السُّلوك بأخلاقِ الأنبياء، فلا ظلم ولا عدوان، بل صفحٌ وبرٌّ وإحسان، الشيء الذي ينتج بيئة اجتماعية سليمة، استجابةً للأمر الإلهي في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾، ومعنى ذلك أنَّ أخلاقَ التَّعايُش، كالتسامح والعدل.. لا ترتبط بمدى استجابة الآخر واعترافه أو تقديره لهذه الأخلاق، إنما هي توجيه ربّاني ودعوة للعدل في جميع الأحوال ومع الجميع من دون استثناء. لا شك أنَّ روح المحبّة الإنسانية لم تأتِ من فراغ، إنما هي هَدْيٌ نبويٌّ شريفٌ وتوجيهٌ ربانيٌّ للبشرية جمعاء، من أجل الإحسان إلى الخلقِ وإكرام مخلوقات الله، ولذلك نجد قيمة المحبَّة بوصفها أصلًا من أُصول الأخلاق، مِن شِيَمِ الأنبياء والرُّسل، فهذا السّيد المسيح عيسى عليه السَّلام، عَلَّم قومه أنَّ الله محبَّة وأنّ أقرب الناس إلى الله مَنْ أحبّ الله وأحبّ خلق الله، ومنهم المطرودون والعصاة، ولا يستحقّ غفرانه مَنْ لم يتعلّم كيف يغفر للمسيئين إليه: «إنْ أخطأ إليكَ سبعًا في اليوم وتاب إليك سبعًا في اليوم، فاقبلْ توبته واغفرْ له»، ويتجاوز قبول اعتذار الآخرين، إلى حُبّ الذين لم يعتذروا، بل ربما استمروا في الإساءة وبالغوا في العُنف، يقول السَّيد المسيح عليه السلام في «موعظة الجبل» الواردة في «إنجيل متى»: «من لطمك على خدك الأيمن، فأدِرْ له الآخر أيضًا، أحِبّوا أعداءكم، بارِكوا لاعِنيكم، أحسِنوا إلى مُبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم، ويَطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السّماوات»، ولا شك أنّ هذا الخلق الرفيع الذي يتجاوز الصَّبر، ويعلو فوق التَّسامح، إلى العفو والصَّفح، بل إلى الدعاء للمسيء بالخير، لا يطيقه إلا الأنبياء ومَنْ سار على هديهم واستنَّ بسُنّتهم.
وفي هذا السِّياق، نستحضر عفو خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم على من آذاه وظلمه وأساء إليه، ففي رحلته إلى بلد الطَّائف، كان قد مكث عشرة أيام يدعو الناس إلى الإسلام، وفي النهاية أخرجوه من الطائف، وفي أثناء خروجه وقف أهل الطائف بأطفالها ونسائها وغِلمانها صفَّين، ومَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وهم يقذفونه بِالحِجَارة، وظلّوا خلفه مسافة طويلة، حتى دخل حديقة ثم تركوه، وهناك جلس الرسول والدماء تنزف منه، والألم والحزن يعتصرانه، ونظر إلى السماء ودعا ربه بدعاء حزين لم يدعُ به قبل ذلك اليوم، وهو الدعاء المشهور: «الَّلهُمَّ، إني أشكو إليك ضعف قوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على النَّاس، أنتَ ربّ المستضعفين وأنتَ ربّي، إلى من تكلني؛ إلى بعيد يتجهَّمني، أم إلى عدُوٍّ ملَّكته أمري، إنْ لَمْ يكن بك عليّ غضب فلا أبالي»، وتفاصيل هذه القصة ترويها عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: «لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثَّعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إنَّ الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخْرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا».
إنَّ روح التَّسامح لا يطيقه إلا مَنْ امتلأ قلبه بالرَّأفة والرّحمة، وكان من الصَّابرين على أذى الخَلق وجُحودهم، فسلوك الصَّفح والعفو ثمرة القلب السليم، وهو القلب الذي تخلَّص من أدرانه وأوساخه، وأصبح زكيًّا طاهرًا، كما قال ابن القيم: «والمقصود أنَّ زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة»، ولذلك مَنْ كان قلبه عامرًا بالمحبة، فاضَ على كل الموجودات بالمحبة، فكل إناء بما فيه ينضح، ويؤكد القرآن الكريم هذه المعاني في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾. ومن هنا ندرك قيمة الإحسان، والتخلّق بهذه الفضائل المنتجة للأمن الروحي، وتصالح الأفراد، وسلامة المجتمع، ولذلك لا غرابة أن يكون إلحاح الصوفية على إصلاح القلوب كبيرًا، من خلال أدوات التَّزكية: كالتَّخلية والتَّحلية، والذّكر، والصَّمت، وغضّ البصر.. وغير ذلك من الأدوات والأساليب التي نهجها القوم.
إنَّ التعايش بين أهل الأديان يتجاوز العفو والصَّفح والتَّسامح والقبول، إلى الدِّفاع عن كلِّ دينٍ وحماية حقوق أهله، ومن الأمثلة نستحضر ما قام به الأمير عبدالقادر الجزائري؛ فقد أنقذ ما يربو على خمسة عشر ألف مسيحي من القتل في الفتنة التي اشتعلت في دمشق بين الدّروز والنَّصارى سنة 1860م، ووقف متحدّيًا جموعًا هائجةً مندفعةً لقتلهم، ودَوَّى بصوتهِ قائلا: «إنَّ الأديان وفي مقدمتها الدّين الإسلامي أجلّ وأقدس من أن تكون خنجر جهالة أو معول هدم، أحذركم من أن تجعلوا لسلطانِ الجهل عليكم نصيبًا، أو يكون له على نفوسكم سبيلًا»، كما أرسلَ رسائل يَطلب فيها من علماء حمص وحماة درء الفتنة والتعقّل حقنًا للدماء، وساعد مجموعة من النصارى بتأمين وصولهم إلى بيروت، وبعد تلك الحادثة يكاتب أسقف الجزائر بافي ««Louis Antoine Augustin Pavy الأمير عبدالقادر شاكرًا له صنيعه، فيجيبه الأمير برسالة يقول له فيها ما خلاصته: «ما فعلناه من خير للمسيحيين، ما هو إلا تطبيق لشرع الإسلام واحترام لحقوق الإنسان؛ لأنَّ كلّ الخلق عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله، إنَّ كل الأديان من آدم إلى محمد عليهما السلام تعتمد على مبدأين: تعظيم الله جلّ جلاله، والرّحمة بمخلوقاته، وما عدا هذا، ففرعيات ليست بذات أهمية كبيرة، والشّريعة المحمدية من بين كل الشرائع، هي التي تعطي أكبر أهمية للاحترام والرحمة والرأفة، وكل ما يعزّز التآلف وينبذ التخالف، لكن المنتسبين للدين المحمدي ضيعوه فأضلّهم الله، فجزاؤهم من جنس عملهم»، وفي رسالة أخرى قال: «إنَّ ما فعلناه بحقِّ المسحيين لم يكن سوى ما يمليه الواجب الدينيّ والإنسانيّ». ولذلك ظلَّ حضور هذه الشخصية راسخًا في ذاكرة التعايش بين أهل الأديان، حيث أقامت الأمم المتحدة بجنيف سنة 2006م معرضًا له، ووصفته بأنه رائد القانون الإنساني ومُنشِد الحِوار بين الدِّيانات.
إنَّ زكاة القلب بوصفها جزءًا من منهج المحبّين للرَّحمن، تجعل من موضوع تعايش الأديان، أمرًا بديهيًّا، وتحصيل حاصل، ما دام القلب هو عين العقل وملتقى المعنى والحسّ، أو الوهب والكسب، فالقلب نافذة للرؤيا مثلما العين بوابة للرؤية أيضًا، مع اختلاف في طبيعة الاستقبال والبث، لما بين البصر والبصيرة من تفاوت في الإدراك، وينتج عن ذلك ضرورة ربط الصِّلة بالله لتكون الرؤيا واضحة، فهو نور السماوات والأرض، وفي غياب النُّور لا تُستطاع الرؤية، وهذه إشارة إلى أنَّ المعنى النَّفيس أو المقدَّس، يأتي دائمًا من السَّماء، فلا يغلق المرء آذانه وعيونه أمام الحق الذي قد يأتيه من الآخرين المخالفين، بمعنى لا بد من الاستعداد دائمًا لتعديل قناعاتنا تجاه الناس ومواقفهم وتصرفاتهم، ولا يتم ذلك إلا بالإنصات والحوار والتفهّم والقبول، وهي الأسس التي تجعل من الروحانيات دستور الأرض لخلق التوازن، وفرض قانون الله العادل والمنصف والرحيم.