حركة خارج السرب | الجنون وعَبّارو المعنى: نتشه، أبو العبر، دون كيشوت
الجنون وعَبّارو المعنى: نتشه، أبو العبر، دون كيشوت
2019-05-20 | 2118 مشاهدة
مقالات

"الممكن يوجد بجانب الجنون، و"الواقع" ليس إلا رمزا، ومستقرا للجنون الذي يسكننا". الخطيبي، الاسم العربي الجريح

لنبدأ من الصرخة، علامة الوجود الأولى، صرخة الانتقال من عالم كان كل شيء يأتينا فيه دون سؤال، إلى عالم ما لم تصرخ فيه (أو على الأقل تنطق) سيظنونك نائما أو ميتا. من هنا، تتجلى أهمية الوقوف عند المجنون هذا الصوت الصارخ الهائم على وجهه، الذي لا يريد أن يلقي أحكاما ولا معاني، ولكن بطريقة أو بأخرى كان الناس دائما يرون فيه حكيما. المجنون الذي يصرخ، ربما لا لشيء سوى لاسترجاع شيء من تلك البدايات؛ المجنون الذي لم يستطع تجاوز صدمة الولادة فعاد إليها. ولكن هل بالضرورة أن تكون هذه العودة بالرومانسية والإطلاق الذي نراها عليهما؟ ألا يعقل أن نكون قد حمّلنا الجنون أكثر مما يحتمل؟ أليس من المفارقة أن يصبح جزاء الهروب من العقل وشروطه، هو تنصيب الجنون كيتوبيا للعقل؟

عموما، لن يكون الجواب متيسرا على هذه الأسئلة، إلا بالعودة إلى اللغة، والبحث في المعجم الفصيح والأمثال الشعبية في محاولة لمزاوجة ومقارنة رؤية العقل المكتوب والعقل الشفاهي لشخصية "شاذة" مثل المجنون، ثم لن يضر بعدها إذا انتقلنا إلى مدعي الجنون أو أولئك الذين اتخذوا من الجنون حرفة، باعتبارها الحلقة المفقودة بين الجنون كتصور والجنون كأداء، وأظن شخصية أبي العبر كافية لإقامة هذا الربط، ذاك أن الماجن على عكس المجنون يدرك نظرة الاحتقار والتوجس الذي توجه إليه، ولكنه يأبى إلا أن يواجهها ويقتص منها بأن يجعلها تتشوف إلى المزيد من جنونه، بل وتدفع ثمنا لقاء الحصول عليه كفرجة. إن الماجن من هنا مؤسس، وككل مؤسس هو "شخص متاخم للحدود، لأنه هو الذي يصنع القانون ويتصرف فيه". ترى أي حدود هي هذه؟ إنها حدود العقل والجنون، اللذان يقتص الماجن منهما معا حتى يعيش، ولكن مجاورة الحدود ليست لعبة سهلة، ذاك أن سكان الضفتين لا يمكن أن يقبلوه إلا في إطار نعتي "الحكيم" أو "المهرج". حكيم هاذ ومهرج موظف! أليست هذه المفارقات حرية بأن تولّد معاناة: معاناة التقييد والتصنيف والتوقع.

إذا كان الجنون مرتبطا بالطيران في الثقافة المغربية، فقد ارتبط عند نتشه بفعل ثان هو الرقص

العقل الطائر:

ربما سيكون من الأجدر البدء من الاستعارات الخاصة بالجنون في الثقافة المغربية، التي تصف المجنون بـ"طار ليه الفريخ" (طار منه الفرخ) أو "طار ليه" أو "مشا ليه العقل" (ذهب عنه العقل)، وكأنها من ثمة ثقافة تؤسس للجنون بمعنى الطيران، أو بالأحرى المراوحة بين الاستقرار والتيه بين السماء والأرض، ليصبح العقل من ثمة هو ما لا نستطيع أن نقبض عليه، لأن له أجنحةـ إلا أن هذا العنصر نفسه المنفلت أبدا، لا يخلو من لحظات استقرار وإلا لماذا كانت الأعشاش، ولماذا صنعت الأقفاص؟ وعندما ندخل موضوع القفص فهناك فقط سببان في رأيي يدعوان للاحتجاز في قفص، إما الرغبة أو الخوف؛ الرغبة في شيء جميل نرغب في أن يكون ملكا لنا وحدنا، أو لاحتجاز ما هو وحشي وقد يلحق الضرر بنا. وهكذا، بالضبط وصف العقل بالفرخ أو "الفريخ" (تصغير الطائر)، إنه أولا ليس طائرا، بل صغير الطير، أو هو هذا الكائن الغض القاصر الذي ليس جاهزا بعد للطيران، لأنه أصغر من يتحمل تناقضات وزخم الواقع، وهو محتجز لأهميته ولأنه وسيلتنا للتعرف على العالم، ومن ثمة فمن الواجب احتجازه، وهو في الآن ذاته وحشي لأنه طائر؛ أي غير ثابت وحركته في القفص نفسه تنبئ وتهدد بأنه دائم الانفلات، وما إذا وجد ثغرة للهروب فلن يفلتها. إنه عنصر تائه بامتياز، والسكون عنده عرض لا أصل. ماذا عن الصوت، إنه بدوره هذا المسافر بين الداخل والخارج، الذي بمجرد أن ننطقه يتبخر ينمحي في الفضاء، ولكن بقاءه رهين بأن يجد ذاكرة؛ إذ لابد له من سامع، ولكي يمتد لا بد له من سياق حواري، لا لأن المحاورة تدفع بالصوت قدما فحسب، بل كذلك، لأن المُحَاور هو ذاكرته، ذاك أن من يحاور نفسه قد ينسى في أية لحظة النقطة التي بدأ منها أو ما كان يفكر فيه، ولكن استعانته بمُحَاور أو بالأحرى بذاكرة المحاور تعطيه نقطة مرجعية Point of reference يستطيع في كل مرة أن يعود إليها. لقد سبقت الحاجة للآخر الحاجة للورقة، وسبق الحوار الكتابة، وسبق الذِكر النص. وربما ما كنا لنخترع الأوراق والكتابة لولا أنّ ذقنا ذرعا بالرقابة التي يمارسها علينا الآخر، ليس بنظرته فحسب، بل كذلك في مطالبته لنا بالاستقرار، والبقاء معه في الهنا والآن، في حين أن الذات بطبعها مجنونة تروم الطيران أبدا، أو على الأقل الامتداد، ولنتذكر أن لفظة الوجود في اللغة اللاتينية هي Ek-sistance "تدل على الحركة والقطيعة والانصراف والابتعاد"؛ إن الوجود من ثمة "دعوة إلى الخروج من الذات والارتماء في اتجاه العالم والافلات والتشظي فيه". أن توجد إذن، يعني أن تمتد؛ أن تخرج، إما كما يخرج الطائر من قفصه، أو الصوت من جوانيته: كتابة ويخلق من ثمة مبدِعا، أو جنونا ليخلق من ثمة مُبعَداً. وربما سيكون من المثير كذلك لو لاحظنا أن الإبعاد والإبداع تقليبات للجذر نفسه، لنتساءل ما الذي ينتج على الضفة الأخرى حيث القرب والاستقرار. وإذا كان من الحقيقي فعلا أن للإبداع علاقة بالبعد والإبعاد، فعن أي شيء نبتعد؟ هل عن العقل وحده أم عن المعنى والفهم بدورهما؟ مما يأخذنا لنص جبران المجنون "أولئك الذين يفهموننا يستعبدون شيئا فينا". وقد يقول قائل إن الاستعباد بدوره من تقليبات الجذر الذي جاء منه البعد والإبعاد والإبداع، لندخل من ثمة في دوامات، توضح لماذا آثر الناس في النهاية أن يبقوا على ضفة العقل المستقر والمقيد؛ لما آثروا الأجوبة على الأسئلة التي لا يمكن احتواء سيولتها، كما لا يمكن احتواء طائر في قفص.

نتشه والإله الراقص:

إذا كان الجنون مرتبطا بالطيران في الثقافة المغربية، فقد ارتبط عند نتشه بفعل ثان هو الرقص، ولكنه ليس أي رقص، بل الرقص بالكلمات والأصوات، ذاك أن اللغة وحدها هي ما يتيح لنا تخليص الأشياء من ماديتها ومداعبتها كأسماء أو رموز، هكذا يقول: "لقد أطلقت الأسماء والأصوات على الأشياء ليستمتع الإنسان بذلك. اللغة جنون حلو، فبفضلها يرقص الإنسان فوق كل شيء". هذا التحرير الذي يؤديه الصوت والرقص في اتصالهما ربما هو ما انتهى بنتشه في هكذا تكلم زرادشت لأن يعلن: "لن أؤمن إلا بإله يتقن الرقص".

إضافة إلى نوع ثان من الرقص يتصل بدوره باللامرئي، أو بالأحرى باللامسموع، جاء فيه: "والذين شوهدوا وهم يرقصون، ظنهم أولئك الذين لم يتوصلوا لسماع الموسيقى مجانينا" (ومع أن مصدر هذا المقتطف ليس محسوما إن كان لنتشه، إلا أننا سأقبل هذا الانتحال، ليس لإضفاء قيمة على النص ولكن لأنه يسير في نفس ركب المقولتين السابقتين). إنه رقص يستجيب لموسيقى تسمعها الذات وحدها، ولكنه ليس أي صوت بل موسيقى أي لحن خالص دون كلمات؛ دون أسماء، ولكن كل أولئك الذين لا يسمعونها ويرون نتيجتها دون كشف أسبابها، لا يملكون إلا اعتبارها جنونا. من هنا، ينبع الخوف من المجنون، المسكون بصوت لا يسمعه غيره، ولا يرقص على ألحانه غيره، فلا يمكن إلا أن يذكرنا بأن هناك عالما موازيا لعالمنا المرئي والمسموع؛ لعالمنا المتاح للحواس. هكذا، تقف الرقصة في انطلاقها حجابا بيننا وبينه إنه يسمع أكثر مما ينبغي، ومن بعدها يخترق المكان بفعل صارع المجتمع طويلا ليبقيه مقيدا بسياق الاحتفال؛ الاحتفال كطقس اجتماعي. أما المجنون الذي لا يكتفي بسماع ما لا نسمع بل وكذلك يرقص وحده، فيمارس وجوده الممتد دون اهتمام بالتحديقة التي كان من شأنها أن تخجله وتقيد قدميه. وإذا افترضنا أن الراقص الجيد هو ذاك الذي لا ينظر إلى قدميه حين يرقص؛ ذاك الذي ينسى قدميه، في حين أن الثقافة حريصة على التنبيه من الأقدام أو بالأحرى التنبيه مما يمكن أن تقود إليه الأقدام من تيه، وتغاض عن السياق والقياس "على قد لحافك مد رجليك". إن الرقص ليس فقط امتدادا في المكان، إنه كذلك تهديد للثابت؛ للجسد الذي خلق ليقضي وظائف معينةـ ويتوجه إلى أماكن محددة، في حين أن الرقص حركة ولكنها لا تقود أبدا إلى وجهة، اللهم إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار شطحات الصوفي التي تتغيا الحلول.

أبو العبر والجسور المكسورة:

لنترك الساقين ولو إلى حين، ونتذكر المثل المصري "حط عقلك براسك، تعرف خلاصك". إن فعل "حط" أو "ضع" تؤكد أن تموقع العقل بالرأس أمر طارئ، إذ الأصل فيه أن يبقى ساريا منفلتا، حتى تتدخل ذات (أو بالأحرى جماعة تتحكم في الذات) وتشكمه، ولهذا وجب على السلطة أن تتدخل وتشحذه بالنحو "الصحيح"، ذاك أن "المثل الأعلى للسلطة هو الجمود المطلق، لذلك لم تجد بدا من الارتياب والاحتراز من كل ما يتيه ومن كل ما يهيم على وجهه ضاربا في مناكب الأرض". هذا فيما يخص التائهين، ولكن ماذا عن أولئك العائدين من التيه، أو بالأحرى الذين أتخذوا من التيه حرفة على غرار أبي العبر؟ جاء في كتاب الأغاني عن هذه الشخصية الماجنة ما يلي: "سمعت رجلا سأل أبا العبر عن هذه المُحالات التي يتكلم بها: أي شيء أصلها؟ قال: أبكر فأجلس على الجسر، ومعي دواة ودرج، فأكتب كل شيء أسمعه من كلام الذاهب والجائي والملاحين والمكارين، حتى أملأ الدرج من الوجهين، ثم أقطعه عرضا، وألصقه مخالفا، فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه".

إن أبا العبر، لا يختار مكانا وسيطا بين الماء والبحر فحسب، بل مكانا يلتقي فيه تائهو البحر (الملاحون) بتائهي البر (المكارين)، إنه مكان متحرك وإن كان يربط بين أرضين، وهو فوق ذلك معلق بين البحر والسماء، إنه المكان الأصلح لانفلات العقل الطائر والساقين المنشدتين للرقص والارتفاع عن الأرض، أو على الأقل تناسي وجود هذه الأرض ولو إلى حين. إلا أن الوقوف على الجسر ليس بالرومانسية التي قد نتصورها، ذاك أنه ليس لنا إلا أن نتذكر الصراط وما يؤسس له من رهبة الوقوف بين تخوم عالمين، فإما النجاة أو الاحتراق الأبدي. وربما كان إصرار أبي العبر على تكرار زيارة الجسر كل يوم رغبة كامنة في تكسير قدسية الصراط أو رهبته، وكما يتوقف وجهنا في المرآة على أن يدل على أي شيء إذا أطلنا النظر إليه، وكما يتوقف القاتل عن عد ضحاياه بعد تجاوز الأربع أو الخمس الأوائل، فكذلك يتعود أبو العبر على حركته، وربما كان هذا الاعتياد نفسه هو ما يتيح له لأن ينتقل إلى ما بعد الجسر وينتبه إلى حركة العابرين وأصواتهم، ويتنبّه بعدها إلى أنه ليس في نهاية الأمر إلا "حبلا ممدودا فوق هاوية".

على غرار راقص نتشه إذن، لا يأتي أبو العبر بأي فعل اللهم إلا الإصغاء، ولكنه هذه المرة يصغي لأصوات يسمعها بقية الناس، ولكن هل فعلا يصغي لها جميع الناس؟ هل لهؤلاء السوقة والمكارين أن يُكتبوا؟ أ لم يكن الالتفات للعابر لمن لا اسم له ضربا من المحال في ثقافة سببها الأول ودليلها الأساسي على عظمة وجود الله، هو كونه "علمها الأسماء"؟ ليتبين من ثمة، أن ما أزعج القدماء في أبي العبر ليس عملية القص واللزق، بل الالتفات للكلام العابر وتدوينه: "ما يفعله أبو العبر مناف للتواصل لأنه يخل بقواعد القول وشروط الكتابة. فهو ينقل على الدرج ما يسمعه من المارة، أي أنه يدون أقوالا ليست مؤهلة أن تدون، إذ المعروف أن التدوين لا ينطبق إلا على الكلام المشهود بقيمته، وليس على الكلام اليومي العابر. فتسجيل ما يدور على ألسنة الناس بطريقة عفوية كان أبعد شيء عن تفكير القدماء. فمن بين شروط "الرواية" أن الكلام المنقول لابد وأن يكون مرتبطا باسم، بشخص يكون في الغالب مشهورا وصاحب فضل؛ بينما يروي أبو العبر عن أشخاص مغمورين ومجهولي الهوية".

هل لنا أن نعتبر أبا العبر أول من كتب سفر من لا سفر لهم؟ هل لنا أن نسامحه على تدوينه لهذه الأصوات التائهة دون "إجازتها"؟ هل لنا أن نغفر له تجزيئها؟ وهل لنا أخيرا، أن نتناسى أنه سلّعها، وأنه جنى منها أموالا؟ لنضع كل هذه الأسئلة الأخلاقية جانبا. ولنقف عند هذا الصوت المحتمي بالجسور، ونلتفت إلى مفارقة أخرى من مفارقات أبي العبر المتمثلة في كونه اختار الجسر رمز الوصل بين عالمين وأرضين ليمارس القطع؛ قطع ما هو أصلا مبعثر ومتشظي، ذاك أنه لم يكن يجتث هذه الأصوات من سياقها فحسب، ولا كان فقط يدون عبارات لا رابط بينها، ولكنه ما كان يفتأ كذلك بعد تدوين هذا السديم إلى أن يقطع الورقة ويعيد إلصاقها كما شاء له.

في تمزيق النص، لا تصبح الأصوات الممزقة فقط جُماعا من الحروف التي لها أن تخلق فيما بعد ما لا نهاية له من النصوص، بل كذلك تصبح أشبه ما تكون بركام من الرمال التي يمكن للريح أن تطيرها في أية لحظة. المثير أن ركام الرمال هذا، كان يسميه العرب بـ "الهُيام" ومنه جاء وصف آخر للمجنون، أن الهيام هو آخر درجات العشق، فحين يصل إليها العاشق لا يغدو له ملك على زمام أموره، يهيم على وجهه كما تهيم الرمال بمجرد أن تداعبها الريح. ومن ثمة، نجد استعارة أخرى للجنون، في المتحرك أبدا، في كل ما يمكن أن تذروه الريح. كما يطلق اللفظ ذاته على الإبل، حين تجن وتهيم على وجهها. مع أن المفترض في الإبل هو أن تتحرك وترتحل، ولكن دائما مع حاذ يوجهها ويشد وثاقها، أما إذا أبت إلا أن تهيم على وجهها وحيدة، فذلك حتما يعني الجنون.

السؤال التالي الذي يطرحه فعل أبو العبر، هو هل لنا أن نتجرأ ونقطع ما هو منسجم دال وذو إيقاع، أليس انقسام هذه الأصوات نفسها هو ما مكنه من اللعب بها؟ أليس جنونها العادي وغياب انسجامها ومعناها هو ما مكنه من مسخها، أليس كون هذه الأقوال التي استنسخها "بعيدة كل البعد عن الفصاحة وكونها مشحونة بألفاظ وتراكيب عامية. وفوق ذلك، أن بعضها كان بلغة غير العربية، بل إن منها أصواتا لا تمت بصلة إلى لغة التخاطب، كيفما كانت هذه اللغة، وأعني الأصوات الصادرة عن المكارين والموجهة للحمير والبغال لحثها على السير"[13]. وحدها الفوضى تحث على الخلق، حتى ولو في سبيل خلق فوضى أخرى. ولكن الفوضى الثانية، وإن كانت نصا مقطعا إلى ما لا ندريه من الأجزاء، ولكنه على الأقل "نص"، أي اجتزاء للفوضى وتبئير لها. وربما ما كان فعل التقطيع سوى وفاءً لبنيتها الأصلية البابلية المتخمة بالتعدد الدلالي واللغوي. إن جسر أبي العبر هنا، أرض مجنونة بالفطرة في غير حاجة لمجونه، وربما يؤكد هذا ما ذهبت إليه العرب حينما أطلقت عبارة أرض مجنونة على "الأرض المُعشبة التي لم يرعها أحد"[14]. إنها الأرض الممتدة التي أفلتت من الوصاية، من التثقيف. من الحدود.

لنتذكر هنا قولة روني شار "المحدود محدود لأنه يفتقد إلى الإغلاق"، ذاك أن الخوف من الامتداد هو ما يدعو الذات لأن تراقب نفسها وتضع حدودا، في حين أن المجنون منطلق لأنه لا يرى حاجة لأن يُقيد ويغلق، لقد تخلى عن كل الفرامل وتجاوز مسافة الأمان، فلم يظل في وسعه إلا أن يكون من هو، لم يظل في وسعه إلا أن يوجد، ولنتذكر دلالة فعل الوجود في اللاتينية، الدالة على الارتماء في العالم والتشظي فيه.

إن الجنون ليس جسرا فحسب، بل هو كذلك اللحظة العالقة بين محو الصوت السماوي وكتابة الصوت الأرضي

دون كيشوت أو العودة والنسيج

هل للعابرين جذور؟ هل لهم أرض يعودون إليها بعد العودة من الجسر؟ أم إنهم لا يقصدون الجسر إلا بعد أن تكون الضفتان قد ضاقت بهما؟ أم إنهم يقصدون الجسر قصدا حتى يجدوا مساحة للتيه؛ و"فرصة حتى يعيشوا هامشيتهم في فضاء مفتقد لأي مركز"[16]. ربما هذا ما تحكيه أقدم رواية عن الجنون؛ عن ذاك القارئ الذي هام على وجهه في الأرض حتى يعيش حكاية من حكايات الفروسية التي قرأها، ورغم أن أهله أحرقوا كتبه وبنوا على باب مكتبته جدارا وأقنعوه أنها لم تكن يوما هناك، ولكن هيهات فقد كانت الحكاية قد نخرت فيه. وحينما يشق صوت الحكاية رأسا، فلا مفر من التيه. ولكن ماذا بعد التيه؟ أليست بعده عودة أكيدة؟ عموما فقد عاد دون كيشوت وعلى فراش الموت ما فتئ يندم على تيهه، ويعلن ندمه على قراءته للكتب الخطأ، مؤكدا أنه ربما لو قرأ كتبا مختلفة لكانت نهايته قد اختلفت: "ذهني الآن حر وصاف، إذ تخلص أخيرا من ظلال الجهل الكثيفة التي غلفته به قراءة مستمرة ولا طعم لها لكتب الفروسية الكريهة. الآن فقط، أتبين مبالغاتها وإغراءاتها المضللة. كل ما أنا نادم عليه، أنني لم أكشفها إلا بعد فوات الأوان، إذ لم يبق لي من العمر، ما أنتقم فيه لنفسي، بقراءة كتب أخرى، كان لها أن تنير روحي."

إن المشكلة إذن ليست في التيه، وإنما في العودة (ومن المثير أن تقترن العودة بالاحتضار والموت في حالة الدون كيشوت). ذاك أنها لحظة استقرار وتأمل –وفي حالة دون كيشوت- لحظة ندم. ربما هذا ما كان يقصده سيوران حين أكد بأن الناس لا يخافون من الجنون وإنما من لحظة الإضاءة التي "قد" تعقبه. ذلك أنهم لو ضمنوا أنهم سيبقون مجانين لما توانوا عن الجنون. ولكن، ذاك الما بعد وما ينتج عنه من عودة ووعيد، هو ما يبقيهم على ضفة العقل. ذاك أن الجنون ما يلبث أن يجر علينا مسؤوليات على رأسها أن نقول كل شيء دون رقابة: "إنهم [المجانين] مفيدون جدا. لما يريد الناس مخاطبة أصحاب السلطة، فإليهم يلجؤون؛ وهم حينئذ وسطاء ناجحون، لأنهم جريئون، وصرحاء في القول، وواثقون بالإفلات من القصاص. يوبخون الملوك ويبلغ من شدة أقوالهم أن يجعلوهم يبكون بكاء حارا. إنهم مسموعون، بل مُهابون (...) المجانين كذلك وسطاء ناجحون مع السماء، وسط لجة البحر، يهدئ دعاؤهم العاصفة. وإليهم يتوجه الناس لما يحل الجفاف ببلد، يتمنعون قليلا، لكنهم ما أن يستغيثوا بالله حتى ينهمر الغيث".

العجيب، أنه رغم وظيفية المجنون في المخيال الجمعي، ورغم الفرجة التي يخلقونها والوساطة أو "الجسر" الذي يقيمونه بين من لا صوت لهم وبين من لهم الصوت (والسوط) الأعلى، إلا أنه هذا لا ينقذهم من القصاص. ولا أدل على ذلك من المجنون في اللغة من فعل أجنّه أي كفّنه، كما سمي القبر بالجنن لأنه يستر الميت. إنهم فئة موسومة للموت. قد نتغاضى عن وجودها حينا، وقد نستعملها حينا، ولكن هذا لا يعني أنها خلقت للبقاء، وعلى غرار الصوت ما يفتأ المجنون أن ينبذ، ذاك أن الاثنين –الصوت والمجنون- لا فضاء لهما، المكان والناس يخنقانهما. لا عجب في ذلك، ذاك أن الحنجرة نفسها سرعان ما تلفظ الصوت خارجها وتبصقه، أفلا يضيق الأجنبي أو الآخر بذلك المجنون الذي يُذكره بمدى قصوره، وبعدد الممكنات التي ضيعها حين ألِف العقل وعقاله. ربما لهذا كله، كان يعمد سكان البوادي في المغرب لطريقة عجيبة وقاسية لمداومة المرض العقلي "إذ يدفن المجنون، كما ندفن الزبد والمؤن الأخرى، ونتركه على هذا الحال مدة يوم أو يومين، جائعا وشبه عار، وبعد ذلك يحيا المجنون من جديد أو يموت نهائيا"[23]. أن يحيا من جديد ملتزما بقوانينهم، أو يدفن حيا ويخلصهم من شره.

استطاع المجنون أن يديم صوته، بترنحه المُدرِك للحدود الفارقة بين العالم الموسوم للموت وذاك الموسوم للحياة؛ للكتابة والمحو، لإقامة الجسور وهدمها، لاعبا في يديه بنسيج ملتو قد يدميه في أية لحظة، ولكنه على غرار ريطة التي كانت تأمر جواريها بغزل الصوف من الصبح إلى العصر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن إلى المساء، ما كان يفتأ أن ينقض نسيجه ويحوله إلى خيوط وشذرات، ليتسلى بتطريزها وتركيبها في اليوم التالي. مؤكدا من ثمة، أنه وإن لم يكن الشطح والعلو بالرومانسية التي نتصورهما، فإنهما على الأقل في كل لحظة يذكران بالهاوية، بالسقوط؛ أو بالأحرى باللحظة التي سترتفع فيها يد لتدفع من لا صوت لهم بعيدا عن الجسر، ولكن هذا لا يعني أنه ليس في السقوط متعة، ولا يعني كذلك أنه ليس بإمكان المهرج أن يسقط في لحظة ما على يديه ليواصل نسجه أو ينقضه.