الليبرالية هي فلسفة سياسية أو رأي سائد تأسست على أفكار الحرية والمساواة. وتشدد الليبرالية الكلاسيكية على الحرية في حين أن المبدأ الثاني وهو المساواة يتجلى بشكل أكثر وضوحاً في الليبرالية الاجتماعية. يدعم الليبراليون بصفة عامة أفكاراً مثل حرية التعبير، وحرية الصحافة، والحرية الدينية، والسوق الحر، والحقوق المدنية، والمجتمعات الديمقراطية، والحكومات العلمانية ومبدأ الأممية.
برزت الليبرالية كحركة سياسية خلال عصر التنوير، عندما أصبحت تحظى بشعبية بين الفلاسفة والاقتصاديين في العالم الغربي. رفضت الليبرالية المفاهيم الشائعة في ذلك الوقت من امتياز وراثي، ودين دولة، وملكية مطلقة والحق الإلهي للملوك. غالباً ما يُنسب لفيلسوف القرن السابع عشر جون لوك الفضل في تأسيس الليبرالية باعتبارها تقليداً فلسفياً مميزاً. جادل لوك بأن لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة والحرية والتملك، وأضاف أن الحكومات يجب ألاّ تنتهك هذه الحقوق وذلك بالاستناد إلى العقد الاجتماعي.
وبخصوص العلاقة بين الليبرالية والدين، فإن الليبرالية لا تأبه لسلوك الفرد ما دام محدوداً في دائرته الخاصة من الحقوق والحريات، ولكنها صارمة خارج ذلك الإطار؛ فالليبرالية تتيح للشخص أن يمارس حرياته ويتبنى الأخلاق التي يراها مناسبة، ولكن إن أصبحت ممارساته مؤذية للآخرين مثلاً فإنه يحاسب على تلك الممارسات قانونياً. كما تتيح الليبرالية للفرد حرية الفكر والمعتقد.
نسلط الضوء على اثنين من اهم النظريات التي تبنت المذهب الليبرالي، نظرية جون ستيوارت مِل (1806-1873م) والذي يعد واحدا من أبرز من يجسدون الليبرالية الشاملة التقليدية، وهي نظرية تنتمي لمشروع حركة التنوير الفلسفية؛ والنظرية الثانية هي نظرية جون راولز (1921-2002م) والذي يمثل الليبرالية السياسية المعاصرة، وتنتمي هذه النظرية الى مشروع حركة الإصلاح الديني.
في (كتاب الليبرالية والإسلام.. التعايش بين الدول الليبرالية والمسلمين )، يركز الكاتب حميد حاجي حيدر على نموذج الدولة الليبرالية عند مل وراولز وما يقدماه الى مواطنيها وخاصة المسلمين ، حيث أجرى دراسة استطلاعية حول إجراءات الحماية والحريات والفرص الفعلية التي تقدمها الدولة للمواطنين.
القائمة التي جمع فيها راولز إجراءات الحماية والحقوق والفرص المقدمة للمسلمين تتشابه بشكل عام مع القائمة التي وضعها مِل، والنتيجة المهمة التي نستخلصها من هذه الدراسة ان ما تقدمه الدول الليبرالية المحايدة كما يراها راولز الى المسلمين أقل من ذلك الذي تقدمه الدولة الليبرالية اللادينية عند مِل. أما عن الامتياز الأكبر الذي تتمتع به قائمة راولز، فيتمثل في توفير المدارس الدينية بأموال حكومية للأطفال المسلمين، الا انه لم يعلنه من خلال نظريته بشكل صريح، ولكنه امر منطقي تفرضه الحجة التي يستند اليها لإثبات نظريته.
المواطنون المسلمون ونموذج الدولة عند مِل
جميع العلاقات التي يمكن ان تربط بين الدين والدولة يمكن تصنيفها في ثلاث فئات: الدول الدينية والدول اللادينية/العلمانية والدول المحايدة. وبالنسبة الى نموذج الدولة الليبرالية الذي صاغه ونظّر له مل، هو نموذج للدولة اللادينية التي تسعى الى فرض هيمنة المصالح الدنيوية للبشر في مجتمعات تقدمية متحررة، على اعتبار ان هذا هو الطريق الصحيح والأسلوب الأمثل في الحياة. ومقارنة بالدولة الدينية الرجعية فهي تكفل لكل مواطن سواء كان متديناً أم غير متدين بعض الحريات والفرص للمتدينين من افراد المجتمع، والحق المطلق في التمتع بحرية الرأي والفكر والعقيدة، ووفقاً لهذه الحرية المطلقة يستطيع المسلمون من المواطنين في المجتمعات المطابقة لنموذج المجتمع الليبرالي الذي نادى به مل، أن يحافظوا على عقائدهم وعباداتهم الدينية من دون أي خوف من أن تتم ملاحقتهم قضائياً وقانونياً.
ومن الحريات والحقوق الأخرى التي يوفرها نموذج المجتمع الليبرالي المتحرر عند مل، التمتع بحرية التعبير المطلقة، وبموجب هذه الحرية يملك جميع من يعتنقون ادياناً سماوية، حق التعبير الصريح والعلني عن معتقداتهم الايمانية داخل المجتمعات الليبرالية، طالما أن هذا التعبير لا يؤدي الى أي تصرف فيه إضرار، وهذه تتيح للائمة والمرشدين الدينيين الفرصة لنشر المبادئ والقواعد السلوكية التي ينص عليها الدين الإسلامي وترسيخها لدى متّبعيه، وكذلك الدفاع عن عقيدة الإسلام في مواجهة المنتقدين له.
مبدأ الحرية عند مل يفرض على الدولة وعلى باقي افراد المجتمع ألا يعيقوا تأدية الطقوس والشعائر الدينية، طالما أنها لا تتسبب في إلحاق الضرر بالآخرين، وتكفل لهم تشكيل حياتهم الخاصة على النحو الذي تقتضيه تعاليمهم الدينية، وبموجب هذه الحرية يحق للمسلمين في مثل هذه المجتمعات تأدية صلواتهم اليومية في الميادين والساحات العامة والمدارس والمكتبات والجامعات وتستطيع السيدات المسلمات ارتداء الحجاب في الأماكن العامة من دون أن تمارس عليهم أي ضغوط ممن ينتهجون في حياتهم مسلكاً آخر مختلف عن ذلك الذي يسلكه المسلمون.
كما يحق للمسلمين حرية التنظيم، وتكوين مختلف الجمعيات والاتحادات والمجمعات التعليمية لتربية أطفال المسلمين على القيم الإسلامية والتي تهدف الى ترسيخ قيمهم الدينية بأمان واطمئنان، ولم ينادِ مِل بحصر النظام التعليمي في الاطار الحكومي فقط، رغم ان هذه المؤسسات ينبغي الا تعتمد على تمويلها على المال العام بل على موارد مالية خاصة يقدمها المسلمون وعوائلهم بشكل خاص.
الدولة الليبرالية التي ينادي بها مِل لا تفرض القيَّم اللادينية على المواطنين المتدينين، بل توفر لهم الظروف المناسبة لكي يواظبوا على تأدية فروضهم وطقوسهم الدينية.
الدولة الليبرالية عند راولز والمواطنون المسلمون
الدولة الليبرالية عند راولز تصنف كذلك بأنها علمانية لادينية تطبّق سياسة التسامح الديني، لابد من أن يتمتع المسلمون الشيعة في المجتمع بحياة آمنة تخلو من ممارسات الاضطهاد النفسي والاعتداء الجسدي والاعتقال التعسفي، وحقهم في حيازة ممتلكات خاصة وتتيح لهم حرية الفكر والعقيدة الدينية، يملك فيها المسلمون وغيرهم من الاديان "عالمهم الخاص" بشكل يشابه مفهوم الدولة عند مِل.
الليبرالية السياسية عند راولز ترحب تماماً (بالحوار المفتوح الشامل حول الخلفية الثقافية أو ثقافة المجتمع المدني)، الذي يشكل المسلمون جزءاً لا يتجزأ منه.
ما يبدو واضحاً انه لا يوجد فرق ملحوظ بين الدولة الليبرالية عند مِل و راولز مما يعطينا مؤشر الا انه سواء كانت الدولة "لا دينية/علمانية أو محايدة" فهي تكفل الحقوق العامة والخاصة للمسلمين وفق القانون دون الدخول في التفاصيل والجزئيات والتي لا تؤثر كثيراً على نمط حياتهم.
بوجه عام حيادية الدولة الليبرالية التي ينادي بها راولز في ما يخص التعصب الديني والعلمانية، تنحصر في تجنب إزدراء أي دين معتدل أو أي مذهب علماني معتدل عن عمد، وبهذا يجوز لكل الذين يعيشون داخل حدود الدولة الليبرالية المحايدة أن يتمتعوا جميعاً على حد سواء بحقهم في ممارسة حياتهم بالأسلوب الذي تقتضيه تعاليم دينهم أو طبائع قوميتهم وأصولهم الوطنية، أما عن الأديان المتعصبة والمذاهب العلمانية المتطرفة، فإنها تستبعد هذه الحيادية وكما يقول راولز" لا يوجد مجتمع يمكنه أن يستوعب في داخله جميع أشكال الحياة وأنماطها".
النظام التعليمي الذي ينادي به راولز ينبغي ألا يكون موغلاً في العلمانية، حيث يحق لمن يدينون بالاديان المعتدلة أن يقوموا بسحب أطفالهم من المدارس الحكومية العلمانية وإلحاقهم بالمدارس الدينية الخاصة شرط أن تكون المدارس الخاصة خاضعة لرقابة الدولة، وتضمن تدريس الحقوق المدنية الأساسية فيها، ونظراً الى أن الإسلام الشيعي يثبت أنه دين معتدل عن حق، فأنه اذا طالب المسلمون بأن يتعلم أطفالهم في مدارس إسلامية خاصة ويتم فيها الفصل بين الأولاد والبنات وأن تقام فيها صلاة الجماعة يومياً وإرتداء الطالبات الحجاب وكل ذلك من خلال مقررات تعليمية وحلقات دراسية إضافية؛ فلن يكون في ذلك انتهاك للحريات الأساسية القائمة على المساواة.
خلاصة:
التعايش الحاصل للمسلمين في مجتمعات الدول الليبرالية يطلق عليه فلسفياً "التعايش الواقعي"، ورغم أن مفهوم الدولة سواء عند مِل أو راولز يفتقر الى العدالة والمساواة في توزيع الحقوق والحريات بين المتدينين وغير المتدينين وخاصة في مجال التعليم حيث يخصص من المال العام ما يدعم التعليم العلماني، في حين لا ينفق من المال العام على المدراس الدينية الخاصة على اعتبار أنها مؤسسات تعليمية تكميلية اختيارية، إلا أن راولز يعلن تأييده لفكرة دعم المدارس الدينية من المال العام، وهذه هي الميزة الأكبر التي ينفرد بها نموذج الدولة الليبرالية عند راولز مقارنة بنموذج مِل.
تتجسد هذه الميزة في ما تتجه إليه حالياً غالبية المجتمعات الليبرالية الغربية، باستثناء الولايات المتحدة الامريكية من الموافقة على منح الدعم المالي الحكومي للمدارس الدينية المخصصة لتعليم الأقليات ومن بينها أقلية المسلمون الذين يعيشون هناك بوصفهم مواطنين ورعايا.