حركة خارج السرب | تسقط بس: كيف قادت فتيات النيل الثورة السودانية؟
تسقط بس: كيف قادت فتيات النيل الثورة السودانية؟
2019-05-17 | 1550 مشاهدة
مقالات

منذ اندلاع الثورة في ديسمبر 2018 حتى هذه اللحظة، والمرأة السودانية في الشارع تنادي مع المنادين المتطلعين نحو التغيير. كان دورها ملحوظًا كجزء من الحراك الثوري، فنراها متقدمة المسيرات الاحتجاجية في الشوارع ، وتشارك في اللجان المنظمة لمواكب الأحياء، حتى أصبحت الفتيات أيقونات للثورة.

كيف بدأت مسيرة النضال النسائي في السودان؟ وإلى أين وصلت؟

تاريخ المشاركة الثورية للسودانيات يرجع إلى ما قبل الاستقلال من بريطانيا عام 1956. كانت مطالب رائدات الحراك النسوي السوداني أساسية في بدايتها، غير قابلة للتجزئة، وكان حق التعليم للمرأة المطلب الأول. ففي الوقت الذي كانت فيه المرأة البريطانية في السودان تلقى حظًا كبيرًا من التعليم وتصدر الكتب والمجلات، صمت الاستعمار عن حق السودانية في التعليم والعمل خارج المنزل. لكن مع توالي الضغوط سمحت الحكومة الاستعمارية أخيرًا بفتح مدرسة للبنات.

تشكل «الاتحاد النسائي السوداني» عام 1952 إيمانًا بأن مشاركة المرأة السودانية في الحركة الوطنية لا يمكن أن تتم إلا عبر تنظيم نسائي.
رغم محدودية التعليم وقتها وتباطؤ الانقياد لمطالب النساء بحجة العرف والدين، إلى جانب قهر المستعمر، لم يثنِ ذلك العزائم أو يثبط الهمم، فتوالت المطالب بتحسين الظروف الاقتصادية والمعيشية، وتحقيق العدالة الاجتماعية المشتركة بين الجنسين. ومع تزايد المطالب واتضاح الصورة المراد رسمها لمستقبل المرأة في السودان، تكونت النواة لقيام التنظيمات النسائية الحديثة، مثل «رابطة الفتيات الثقافية» عام 1946، التي اهتمت بقضايا المرأة ونشر الوعي لتحقيق أهداف تحررها، فأنشأت أول مدرسة أهلية لتعليم النساء بهدف محو الأمية.

لا ننسى تشكل «الاتحاد النسائي السوداني» عام 1952، الذي كانت صاحبة فكرة تكوينه الأستاذة عزيزة مكي، لإيمانها بأن مشاركة المرأة السودانية في الحركة الوطنية لا يمكن أن تتم إلا عبر تنظيم نسائي قومي جماهيري شامل، فنادى الاتحاد بتحرر المرأة وعملها خارج المنزل، إلى جانب محاربة العادات الضارة مثل الشلوخ (علامات توضع في الوجه بالموسى، وكانت تعتبر نوعًا من رموز الجمال) والختان وغلاء المهور، والإنفاق البذخي بصورة عامة في المناسبات، كالزواج والوفاة والولادة. واستمرت مطالب الاتحاد في تحسين الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد لتحقيق ظروف معيشة أفضل للمواطنين.

رفض الاتحاد النسائي الحكومات الدكتاتورية التي حكمت البلاد بعد الاستقلال، ونبذ الانتهاكات التي كانت تتعرض لها المرأة باسم السلطة والدين معًا، مثل قوانين سبتمبر 1983 (قوانين الشريعة الإسلامية) التي شرَّعها جعفر النميري (حكم بين 1969 و1985)، فكانت المرأة تلاحَق للتأكد من هوية أي رجل يسير معها في الشارع، وابتُدعت تهمة الشروع في الزنا لمحاكمتها بالجلد، وفُرض لبس الثوب الأبيض كزي إسلامي للعاملات، وأُقفلت أماكن الترفيه المختلطة، وتفشت ظاهرة وعظ النساء بدون داعٍ سوى إذلالهن.


جاء ما سُمي «حكومة الإنقاذ» بعد ثورة الإنقاذ الوطني عام 1989، لكنها لم تفعل سوى تقنين الاستبداد، بالإضافة إلى المشاركة بدور أساسي في افتعال حرب دارفور، فعانت النساء هناك من مختلف الممارسات اللاإنسانية، من تشريد وترهيب وإحراق قرى واغتصاب في المعسكرات على أيدي أفراد النظام الحاكم.

لم تقتصر معاناة المرأة مع نظام الكيزان الإسلامي (وصف أُطلق على جماعة الإخوان المسلمين في السودان، ومفرده كوز أي إناء للشرب، ووجه الشبه أن عامة الشعب ينهلون منهم العلم الديني ويشربونه بواسطتهم) على نساء القرى أو مناطق النزاع فحسب، حتى المدن الكبرى نالت نصيبها من التهميش، وتحديدًا في مجالي الصحة والتعليم، فخُصصت أدنى الميزانيات للتطوير، ولم تتوفر مستشفيات تقدم خدمات صحية جيدة ولا مدارس مؤهلة كافية.

شكلت النساء عددًا كبيرًا من جموع المحتجين: طبيبات، وصحفيات، وكاتبات، ومعلمات، وربات منازل، ورفيقات النضال الثوري اللاتي لا يمكن إقصاؤهن.
يذكرنا ذلك بحادث أطفال المناصير، الذين توفوا غرقًا وهم على متن قارب يحاولون الوصول إلى الضفة الأخرى حيث مدرستهم. عجزت الحكومة حتى عن توفير سبل نقل آمنة للطلاب في بعض مناطق السودان، إلى جانب إهمال بناء المدارس في مدن وقرى كثيرة.

لا ننسى أيضًا عدم دعم المشروعات الاقتصادية التنموية، مما أدى إلى تردي الأوضاع المعيشية، التي أدت بدورها للعزوف عن التعليم وانتشار الأمية، واتجاه الأطفال إلى العمل أملًا في توفير ظروف أفضل لأسرهم.

تلك التراكمات، إلى جانب انتهاكات أخرى لا حصر لها، أسهمت بدور أساسي في خروج المتظاهرات رغم ما يتعرضن له من قمع أسري واجتماعي، إذ يَمنع بعض الآباء بناتهن من النزول إلى الشارع خوفًا من تعامل رجال الأمن الأكثر عنفًا مع النساء، مستغلين بذلك الاستهداف الأخلاقي الجنسي للمرأة، واعتمادًا على الموروث الاجتماعي المعتل ونظرة المجتمع إليها.

رفض الشارع خروج الفتيات بادئ الأمر، وحاول قمع المتظاهرات بأساليب كثيرة، مثل إرجاعهن قسرًا إلى الخلف في المسيرات الاحتجاجية، أو إدخالهن إلى المنازل الآمنة، لكن المتظاهرات كن يرفضن ويصممن على المشاركة بكل حزم.

رغم الاستهجان الشديد، فما إن اتضحت أهمية مشاركة الجميع لأجل تحقيق التغيير حتى تنازل كثيرون وقبلوا. شكلت النساء عددًا كبيرًا من جموع المحتجين: طبيبات، وصحفيات، وكاتبات، ومعلمات، وربات منازل، ورفيقات النضال الثوري اللاتي لا يمكن إقصاؤهن لما لدورهن من أثر كبير.

يتضح لنا ذلك في صورة الفتاة آلاء صلاح مرتدية الثوب الأبيض. وُصفت بأيقونة الثورة، وهي فتاة سودانية من عامة الشعب خرجت لتهتف كما هتفت أخواتها الثائرات من قبلها، لكن حماسة الموقف في ساحة الاعتصام أضفت طابعًا جماليًا آخر على الصورة، التي اعتبرها كثيرون رمزًا للثائرة السودانية.

طالبت السودانيات بمحاسبة مغتصبي نساء دارفور، ورفعن لافتات تدعو إلى تحقيق الأمان وإيقاف الحرب، وتوفير حرية التعبير للجميع، وبالتأكيد سقوط النظام.

كُن جزءًا من لجان الأحياء المنظمة للحراك الثوري، إذ تتكون اللجان من مجموعة من الأفراد صغارًا وكبارًا، نساءً ورجالًا، بغرض تجهيز الشوارع للمسيرات الاحتجاجية من نواحٍ تأمينية، ومراقبة مداخلها ومخارجها، وإسعاف المصابين في حالة المقاومة العنيفة من أفراد الأمن.

جاء رد فعل النظام أكثر قسوة، فزادت وحشية أفراد الأمن تجاه النساء والمتظاهرات في الشوارع، وتعرضت المعتقلات للضرب والإهانة باستخدام ألفاظ نابية، ووصل الأمر إلى التحرش الجسدي أيضًا.
كرد فعل مضاد، اعتُقل بعض الرموز البارزة في مجال الحراك النسوي السوداني، مثل الدكتورة آمال جبر الله والدكتورة إحسان فقيري، إلى جانب عديد من الصحفيات والمعلمات، مثل خالدة صابر ومنال الأول.

ظن النظام أنه بذلك يدب الخوف في أوصال الهيكل المجتمعي المحافظ، لكن على العكس، أشعل ذلك النار أكثر، فخرجت النساء لنصرة المعتقلات والمطالبة بالإفراج عنهن في 7 مارس 2019، بعد صدور بيان من تجمع المهنيين يدعو الجميع للمشاركة في موكب المرأة، واختير التاريخ تزامنًا مع يوم المرأة العالمي 8 مارس.

جاء رد فعل النظام أكثر قسوة، فزادت وحشية أفراد الأمن تجاه النساء والمتظاهرات في الشوارع، وتعرضت المعتقلات للضرب والإهانة باستخدام ألفاظ نابية، ووصل الأمر إلى التحرش الجسدي أيضًا.

شكَّل أفراد الأمن ضغينة قوية تجاه الطبيبات بشكل خاص، كونهن من يساعد المحتجين في حال الإصابة، وتُرجمت تلك الكراهية إلى عنف مفرط واعتقال بعضهن من مراكز عملهن، وضربهن بشكل مبرح داخل المعتقلات.

تنبه المتظاهرون لأسلوب الأمن المتبع في قمع النساء فطلبوا منهن التراجع في المواكب خوفًا من الاعتقال، لكنهن لم يفعلن، فالنفس واحدة والموت واحد، وما يجري على الرجال يجب أن يجري عليهن كذلك. كلهم أبناء وطن واحد، وكلهم يهدفون لنفس الغاية: إسقاط النظام.

كان حق المساواة والعدالة الاجتماعية أحد بنود إعلان الحرية والتغيير، إلى جانب بيانات الأحزاب المهتمة بقضية المرأة السودانية كالحزب الشيوعي، الذي كان من السباقين في تأييد الحراك النسوي في السودان، والحركات المختلفة التي تشكلت تزامنًا مع بداية الثورة، مثل حركة «نون»، وهي حركة نسوية تشكلت مع تصاعد الحراك الثوري في السودان منذ ديسمبر.

وجهت الحركة نشاطها بادئ الأمر الى المشاركة في الاحتجاجات ورفع اللافتات، للفت الانتباه إلى قضايا النساء العاملات في الأشغال غير النظامية، مثل بائعات الشاي والأطعمة، وقضايا الاغتصاب المتكررة في معسكرات النازحات. واستمرت الحركة توجه وتنادي بحقوق المرأة المنسية وسط زحام المطالبة بالحرية والديمقراطية، لتذكر أن للنساء أيضًا مطالب ذات أولوية.

كل هذا إلى جانب الحركات النسوية العاملة من قبل الثورة، مثل منظمة «لا لقهر النساء» المهتمة بقضايا الانتهاكات ضد المرأة وتقييد حريتها باسم القانون.

اليوم، وقد وصل نضال الشعب السوداني إلى أوجه، نرى المرأة كذلك تشارك في ساحات الاعتصام المختلفة في أنحاء البلاد، وفي نقاط التفتيش المخصصة لحفظ أمن المعتصمين، وفي العيادات الداخلية والصيدليات الموزعة على مدى نطاق الاعتصام، وفي أركان النقاش التي تهدف إلى توعية المعتصمين والمعتصمات ببنود الحرية والتغيير، التي تكفل الحياة الكريمة للجميع.

عن منشور