يعد الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي (1165-1240) من أهم الشخصيات في التراث الإسلامي انفتاحاً على كل الثقافات والأديان المختلفة وكذلك احتراما للإنسان كإنسان، بغض النظر عن دينه وجنسه. الشيخ الأكبر صاغ في هذا الصدد مقولات سبقت بقرون مفاهيم مركزية في الحداثة الغربية. عاصم حفني يقربنا من فكر إبن عربي الإنساني.
يمكن اعتبار الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي (1165-1240) – بعيدا عمّ يثار حوله من جدل بحسب الموقف العام من الصوفية - رائدا تنويريا إسلاميا كونه صاغ مقولات سبقت بقرون مفاهيم أنتجتها الحداثة الغربية ومن أهمها مفهوم التسامح. فلم يتحدث ابن عربي عن التسامح بوصفه هدفاً في التعامل والنظرة إلى الآخر المختلف دينا أو عرقا أو جنسا أو لونا إلخ، بل تجاوز بوضوح فكرة التسامح إلى قيمة التوقير، الذي يفوق التسامح بمراحل كبيرة؛ حيث صاغ مقولته قصيرة الألفاظ، غزيرة المعاني: "لن تبلغ من الدين شيئا حتى توقر جميع الخلائق". هذا التفريق بين التسامح والتوقير لم تصل إليه الحداثة الغربية إلى في أطوارها الأخيرة كما سنرى لاحقا.
ويظهر الفارق الكبير بين التسامح والتوقير إذا أدركنا أن كلمة التسامح مسكونة بدلالات سلبية انتقاصية؛ فهي تعني بحسب علي حرب في كتابه "الإنسان الأدنى": "التّنازل للآخر عن حقٍّ، أو التّساهل معه في خطأٍ قد ارتكبه ... دون الإقرار بصوابية منهجه العقدي، وبحقّه في المساواة العقدية والدينية".
والتسامح بهذا المفهوم لا يحقق المساواة، بل يتعارض معها، وطالما أن كل أتباع دين يرون منهجهم الديني هو وحده الصحيح، فسيرفضون كلّ مظاهر الاختلاف والتنوّع، مما يؤدي حتما إلى الصّدام والصّراع كما يشهد التاريخ، وعليه يعد التسامح بهذا المفهوم "هدنة" مؤقتة تنتهي عند أول صدام أو قدرة على سحق الآخر المختلف.
التسامح هو ذلك الذي ينطلق من توقير حق الغير...
من جانب لغوي حاولت تتبع لفظة التسامح في لغة العرب قديما فلم أجد لها استخداما، وكل ما ورد هو لفظ "سَمْح" في الحديث النبوي الذي رواه البخاري: "رحم الله عبداً سَمْحاً إذا باع، سَمْحاً إذا اشترى، سَمْحاً إذا اقتضى".
والشخص السمح المقصود في الحديث هو بشوش الوجه في التعاملات المالية من بيع وشراء ومطالبة بالدّين، دون أن ترتبط دلالة اللفظ هنا بموقف فكري مبدأي من المختلف دينا أو عرقا، في حين أن كلمة التوقير التي استخدمها ابن عربي وردت في اللسان القرآني في سياق حسن إيجابي؛ حيث حثت الآية التاسعة من سورة الفتح على توقير الرسول الكريم، ثم زادت الآية 13 من سورة نوح على ذلك واستخدمت التوقير في حق الله تعالى نفسه: "ما لكم لا ترجون لله وقارا"، أي أن التوقير الذي طالب ابن عربي بممارسته مع كل الخلائق يكاد يقترب من القداسة قياسا على مطالبة النص القرأني باستخدامه مع الله ورسوله.
أما فكرة التسامح في التراث الغربي فقد مرت بمراح كبيرة من التطور حتى وصلت إلى معنى يتجاوز قبول وجود الآخر المختلف، إلى احترام هذا الآخر وتوقيره، حتى أننا نجد فيلسوف التسامح الانجليزي جون لوك (1632-1704) يقصر في رسائله الثلاث في التسامح ضرورة ممارسته داخل المذاهب المسيحية فقط، بحيث لا يتعداها إلى قبول أو حتى التغاضي عن وجود اتباع أي دين أو عقيدة أخرى، ورأى أنه على الحاكم الا يتسامح مع الملحدين لأنه لا أمان لمن لا يؤمن بالله، وهذا ما تداركه لاحقا الأديب الألماني المعروف جوته (1749-1832) الذي سعى إلى تجنب ما قد يفهم من التسامح من استعلاء وفوقية؛ لذا كان ينادي دوما باعتبار التسامح مرحلة مؤقتة لابد أن تنتهي بالاعتراف بالآخر حيث يقول في (Maximen und Reflexionen/ مبادئ وتأملات):
„Toleranz sollte nur eine vorübergehende Gesinnung sein: sie muss zur Anerkennung führen. Dulden heißt beleidigen.“
"ينبغي أن يكون التسامح موقفا فكريا مؤقتا، أي لابد أن يقود إلى الاعتراف والتقدير، أما تحمل الآخر فقط فهو إهانة له"
أي أن التسامح بهذا المعنى الذي أراده جوته لا يجب أن يفهم على أنه رخصة يمنحها الأقوى للأضعف بحيث يتيح له ممارسة شعائره الدينية مثلا في حالة الأغلبية تجاه الأقلية، بل يجب أن يتعدى هذا المعنى إلى معنى الاحترام والتقدير، كما يعرفه الفيلسوف المغربي عابد الجابري (1935-2010) في كتابه "قضايا في الفكر المعاصر": "التسامح هو احترام الموقف المخالف" ومن ثم الاعتراف بالتعدد والاختلاف واجتناب أحكام إقصاء الآخر، وهو ما فصله تعريف التسامح الذي نقله الجابري عن الفيلسوف الفرنسي غوبلو (1935ـ1858 Edmond Goblot) بأنه: "لا أن يتخلى المرء عن قناعاته، ولا أن يكف عن إظهارها والدفاع عنها والدعوة لها، بل إنما يعني الامتناع عن استعمال أية وسيلة من وسائل العنف والتجريح والتدليس، وبكلمة واحدة: احترام الآراء وليس فرضها."
ولعل هذه الدلالات السلبية لمعنى التسامح في تاريخ الحداثة الغربي هي التي دفعت أستاذ النظرية السياسية الألماني راينر فورست (Rainer Forst) إلى أن يفرق مؤخرا في كتابه عن تاريخ ومضمون مصطلح التسامح المثير للجدل "Toleranz im Konflikt" بين أربعة مستويات أو نماذج للتسامح نشير إليها فيما يلي:
المستوى الأول هو سماح الأغلبية المتحكمة للأقلية بأن تمارس حياتها حسب قناعاتها، شريطة ألا تتعارض تلك القناعات مع سيادة الأغلبية؛ ولذلك أطلق فورست على هذا المستوى وصف (نموذج الإذن) „Die Erlaubnis-Konzeption“ وهو مرفوض عنده لما فيه من عدم المساواة.
المستوى الثاني لا يتعلق بالأغلبية والأقلية، بل بمجموعات أو طوائف متساوية داخل المجتمع الواحد وأسماه (نموذج التعايش) „Die Koexistenz-Konzeption“ ورغم ما في هذا المستوى من مساواة ظاهرية، إلا إنه لا ينظر للتسامح كقيمة في حد ذاته بل كوسيلة نفعية للتعايش ولتجنب الصراع؛ ولذلك يتمتع بقدر من الاستقرار والديمومة، إلا أنه أشبه بالهدنة المؤقتة في القتال والحرب، الهدنة المعرضة للخرق أو الانتهاء في أي وقت نظراً لفقدان الثقة بين عناصر المجتمع الواحد.
المستوى الثالث هو (نموذج الاحترام) „Die Respekt-Konzeption“ وهو النموذج الذي يقوم على الاحترام المتبادل بين عناصر المجتمع الواحد المطبقين لمبدأ التسامح؛ حيث يرى كل عنصر الآخر كعضو في المجتمع مساوياً له في كافة الحقوق، مما يستوجب أيضاً احترام المرجعية الأخلاقية والقيمية لكل عنصر. ورغم أن هذا المستوى يحقق درجة عالية من التسامح، إلا أن فورست لم يكتف به، بل تعداه إلى نموذج رابع أعلى وأسمى في التسامح.
المستوى الرابع الذي يمثل قمة هرم التسامح هو „Die Wertschätzungs-Konzeption“ أي (نموذج التقدير)، وهذا النموذج هو المأمول عند فورست لأنه يتجاوز نموذج الاحترام إلى تقدير الآخر المختلف وقيم حضارته.
"من لا يعتقد في توقير الخلائق لا يعتقد في دين"
نموذج التقدير هذا الذي صاغه فورست في كتابه الصادر عام 2003، أي في بداية القرن الواحد والعشرين، هو نفسه مبدأ التوقير الذي اختاره وأكد عليه ابن عربي في القرن الثالث عشر، وجعل ممارسته شرطا لاتباع الدين؛ بحيث يكون من لا يعتقد في توقير الخلائق لا يعتقد في دين، بل إن لفظ الخلائق يتجاوز بالتوقير مجال الإنسان إلى مجال الحيوان والنبات باعتبارهما من مخلوقات الله.
وبذلك تتراجع علاقة الاستغلال النفعية التي تجعل الإنسان يحافظ على الحيوان أو النبات فقط من أجل مصلحته المادية، لحساب علاقة وغاية أسمى وهي التوقير والتقدير ومن ثم الرعاية، بحيث يصبح الحفاظ على الشجرة مثلا قيمة في حد ذاته، ويصير الاعتداء عليها بدون ضرورة قصوى اعتداءً على خلق الله وانتقاصا من قيمتهم، وهذا ما يظهر بوضوح في عبارة ابن عربي الثانية والمكملة للأولى: "ولا تحتقر مخلوقا ما دام الله قد صنعه".
"جوهر التعصب مبني على الجهل، مبني على عدم معرفة الله معرفة حقة، ومن ثم عدم معرفة الآخر"
لا يطالب ابن عربي باحترام عقائد الآخرين انطلاقا من حب الإنسان للإنسان وفقط، بل يربط بين التوقير المبني على الحب وبين المعرفة، معرفة الله أولا، ثم معرفة الإنسان الآخر، وهي دعوة للتعارف والتفاهم بين البشر، ذلك لأن جوهر التعصب مبني على الجهل، مبني على عدم معرفة الله معرفة حقة، ومن ثم عدم معرفة الآخر كما يقول أستاذ الفلسفة السوري محمود الخضرا.
وهنا تتجلى قيمة الحب القائم على المعرفة، أي ربط العاطفة والوجدان بالعقل والبرهان، وهي قيمة تتفوق على جوهر الحداثة الغربية التي انحازت في عمومها إلى العقل على حساب العاطفة، وبهذا يرى ابن عربي في العقيدة منبعا ليس للاحترام المتبادل بين كافة الخلائق وحسب، بل للحب فيما بينها، فكل الخلائق ترجع لخالق واحد، وكل البشر متشاركون في النفخة الإلهية، ومن ثم يصبح إحياء الإنسان هو إحياء للدين، ولذلك يعد ابن عربي مؤسسا لفكر إنساني ذي أبعاد كونية، فكر يختلف تماما عمّ صنعه متطرفو الأديان حاليا بأن حولوا العقيدة إلى مصانع لإنتاج ثقافة الكراهية وتغذية العنف.
عندما تمازجت في ابن عربي القيم الإنسانية الكونية المشتركة امتزجت سريعا وأنتجت قوله:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه دان
وقـد صـار قـلبي قابـلاً كل صورة فــمـرعـى لـغــزلان وديـر لــرهــبـان
وبــيــت لأوثـــان وكـعــبـة طـائـف وألــواح تــوراة ومــصـحـف قـــرآن
أديــن بــديــن الـحب أني تـوجـهـت ركــائــبــه فـالــحـب ديـنـي وإيـمـانـي
بقلم عاصم حفني