بقلم نورالدين عزار
تمثل ظاهرة الإرهاب أهم الإشكاليات التي تواجه عالمنا المعاصر، وقد زاد من تأثير هذه الظاهرة السرعة والزخم الذي تتناول به وسائل الإعلام، مثل هذه النوعية من الجرائم التي باتت تهدد الإنسانية جمعاء، وعلى الرغم من المآسي التي عانتها البرية جراء ويلات الحروب التقليدية، باتت الجرائم الإرهابية لها وقع مختلف على النفس البشرية.
إن التطرف الديني والتطرف الفكري يمثلان أحد أكثر القضايا التي تؤرق المجتمعات الدولية، وتشكل تهديداً خطيراً لنمائها واستقرارها وتطورها؛ فقد ظل المصدر الأساسي لتفكك المجتمعات وتمزيق النسيج الاجتماعي، والمنبع الرئيس للعنف والإرهاب وتكريس آليات التخلف عبر التاريخ. ونتيجة لهذا الغلو الديني والتطرف الفكري، ظهر ما يسمى بظاهرة الإرهاب الفكري الذي تمارسه الحركات الإرهابية التي تتشح برداء ديني متشدد، وتقترف أبشع الجرائم باسمه.
فما هو التطرّف الديني؟ وما هو الإرهاب الفكري؟ وماهي السبل الوقاية من الإرهاب الفكري؟ وكيف نعالجه؟
يعد مفهوم التطرف Extremism من المفاهيم التي يصعب تحديدها، نظراً لما يثير إليه مفهوم من المعنى اللغوي للتطرف، وهو تجاوز لحد الاعتدال. وحد الاعتدال نسبي، ويختلف ذلك من مجتمع إلى آخر؛ وذلك وفقاً لنسق القيم السائدة في كل مجتمع؛ فما يعتبره مجتمع من المجتمعات سلوكاً متطرفاً من الممكن أن يكون مألوفا في مجتمع آخر.
فالاعتدال والتطرف مرهونان بالمتغيرات البيئية والحضارية والثقافية والدينية والسياسية التي يمرّ بها المجتمع. كما يتفاوت حد الاعتدال والتطرف من زمن لآخر، فما كان يعد تطرفا في الماضي قد لا يكون كذلك في الوقت الحاضر.
وقد فسر التطرف على أنه "اتخاذ الفرد موقفا متشدداً يتسم بالقطيعة في استجاباته للمواقف الاجتماعية التي تهمه، والموجودة في بيئته التي يعيش فيها هنا والآن، وقد يكون التطرف إيجابيا في القبول التام، أو سلبيا في اتجاه الرفض التام، ويقع حد الاعتدال في منتصف المسافة بينهما".
والتطرف هو الخروج عن القواعد الفكرية والقيم والمعايير والأساليب السلوكية الشائعة في المجتمع، وأنه قد يتحول من مجرد فكر إلى سلوك ظاهري أو عمل سياسي، يلجأ عادة إلى استخدام العنف violence كوسيلة لتحقيق المبادئ التي يؤمن بها كفكر متطرف.
يتفاوت حد الاعتدال والتطرف من زمن لآخر، فما كان يعدّ تطرفا في الماضي قد لا يكون كذلك في الوقت الحاضر
ويرتبط مفهوم التطرف بالعديد من المصطلحات، منها الدوغماطيقية والتعصب. إن التطرف وفقاً للتعريفات العلمية يرتبط بالكلمة الإنجليزية Dogmatism؛ أي الجمود العقائدي والانغلاق العقلي.
ويتبنى التطرف اتجاهاً عقلياً وحالة نفسية تسمى بالتعصب Prejudice للجماعة التي ينتمي إليها؛ فالتطرف في جوهره حركة في اتجاه القاعدة الاجتماعية أو القانونية أو الأخلاقية، ولكنها حركة يتجاوز مدها الحدود التي وصلت إليها القاعدة وارتضاها المجتمع.
إذ جاء في لسان العرب لابن منظور قوله: "تطرف الشيء صار طرفا"، "وتطرفت الشمس أي دنت للغروب". إذ ما يمكن أن نستلهمه من هذا التحديد اللغوي للتطرف في سياق حديثنا عن التطرف الديني والفكري لدى الشباب السلفي هو بعده الهوياتي المتمثل في عمليتين: عملية الانسحاب والتخلي وعملية الالتزام والتحلي؛ أي أن فعل التطرف الديني لا يأخذ مفعوله إلا في حضور ثنائية الأخذ والرد، في خضم سيرورة صراع بين الماضي ووعي الحاضر.
أدى التطور النوعي الذي شهدته المنظمات الإرهابية في عدد من الدول العربية إلى رفع كفاءتها القتالية، وزاد من قدرتها على الاستقطاب والحشد، واستغلال تطور النزاعات التي قامت في المنطقة وتحويلها إلى صراعات مسلحة شديدة الدموية، ما جعلها تمثل ضغوطاً متزايدة شديدة الخطورة على الأمن القومي في الدول العربية.
التطرف يمكن أن يكون دينياً أو طائفياً أو قومياً أو لغوياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو سياسياً. والتطرف الديني يمكن أن يكون إسلامياً أو مسيحيا أو يهوديا أو هندوسيا أو غيره، كما يمكن للتطرف أن يكون علمانياً، حداثياً، مثلما يكون محافظاً وسلفياً، فلا فرق في ذلك سوى بالمبررات التي يتعكز عليها لإلغاء الآخر، باعتباره مخالفاً للدين أو خارجاً عليه أو منحرفاً عن العقيدة السياسية أو غير ذلك. أما الإرهاب، فإنه يتجاوز التطرف؛ أي إنه ينتقل من الفكر إلى العمل، وكل إرهاب هو عنف جسدي أو نفسي، مادي أو معنوي، ولكن ليس كل عنف إرهاباً، خصوصاً إذا ما كان ذلك دفاعاً عن النفس واضطراراً من أجل الحق ومقاومة العدوان.
وكل إرهاب تطرف، ولا يصبح الشخص إرهابياً إلا إذا كان متطرفاً، ولكن ليس كل متطرف إرهابياً، فالفعل تتم معالجته قانونياً وقضائياً وأمنياً؛ لأن ثمة عملا إجراميا تعاقب عليه القوانين.
أما التطرف، ولاسيما في الفكر، فله معالجات أخرى مختلفة، وهنا يمكن قرع الحجة بالحجة، ومحاججة الفكرة بالفكرة، والرأي بالرأي، وإن كانت قضايا التطرف عويصة ومتشبعة وعميقة، وخصوصاً في المجتمعات المختلفة، كما أن بعض التطرف الفكري قد يقود إلى العنف أو يحرض على الإرهاب، بما فيه عن طريق الإعلام بمختلف أوجهه.
وإذا كان التطرف يمثل نموذجاً قائما على مر العصور والأزمان، فإن نقيضه الاعتدال والوسطية والمشترك الإنساني بين الشعوب والأمم والأديان واللغات والسلالات المتنوعة؛ لأن الاجتماع الإنساني من طبيعة البشر؛ حيث التنوع والتعددية والاختلاف صفة لصيقة بالإنسان. وهذه كلها ينبغي الإقرار بها والتعامل معها كحقوق إنسانية توصلت إليها البشرية بعد عناء، وهي النقيض لفكر التطرف والتكفير.
التطرف يعني فيما يعنيه ادعاء الأفضليات؛ فالأنا أفضل من الأنت، والنحن أفضل من الأنتم، وديني أفضل من الأديان الأخرى، وقومي فوق الأمم والقوميات الأخرى لدرجة الزعم بامتلاك الحقيقة. وتلك هي البذرة الأولى للتعصب والتطرف والعنف والإرهاب.
لا يمكن القضاء على فكر التطرف والتكفير وجذورهما، ما لم يتم القضاء على التعصب وزعم امتلاك الحقيقة. وقد أثبتت التجارب أن الفكر المتطرف والتكفيري لا يتم القضاء عليه بالعمل العسكري أو المسلح أو مواجهة العنف بالعنف والقوة بالقوة، وعنفان لا يولدان سلاماً، ورذيلتان لا تنجبان فضيلة، وظلمان لا ينتجان عدالة. الأمر الذي يحتاج إلى معالجة الظاهرة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتربويا ودينيا وقانونيا ونفسيا، خصوصا بالقضاء على الفقر، وتحقيق العدالة والمساواة، وبالتالي خلق بيئة مناسبة لقيم السلام والتسامح واللاعنف، وحل الخلافات بالحوار والتفاهم والمشترك الإنساني. وهذا يتطلب تجفيف منابع ومصادر القوى المتطرفة والإرهابية، لاسيما بالقضاء على أسباب التعصب.
الإرهاب ككل، داء تقتضي مواجهته واعتماد الوقاية الناجعة عبر استهداف أسبابه، وتحصين المناعة الفكرية والمادية والنفسية للمواطنين
ثمة فوارق أحياناً بين العنف والإرهاب، وإن كان كلاهما يشكلان جريمة بالتجاوز على القانون، لكن معظم الجرائم التي تقوم بها القوى الإرهابية تتم ضد مجهول وفي قطاعات شعبية، لا علاقة لها بالصراع وبما يحدث، في حين أن العنف يستهدف الضحايا بالتحديد؛ أي أنه يختارهم اختياراً، لغرض محدد.
الإرهاب والعنف جريمتان تستهدفان ضحايا، لكن الجريمة الأولى هدفها يختلف عن الجريمة الثانية، فجريمة العنف تندرج تحت لواء القانون الجنائي ضد أفراد أو جهات محددة، في حين أن جرائم الإرهاب تحتسب على الجرائم ضد الإنسانية، وهي جرائم جماعية وجرائم إبادة وتحكمها قواعد القانون الدولي الإنساني، إضافة إلى القوانين الوطنية.
وهنا لا ينبغي أن نهمل الجانب الفكري للإرهاب والتطرف، فهما يمثلان فكراً وهذا الفكر لا يمكن قتله أو مقاومته أو قضاء عليه بالقوة أو بالعنف، بل لابد من العمل على تفكيكه ومتابعة حلقاته وكشف أهدافه ووسائله، ومحاربته بفكر مضاد وبوسائل مختلفة. فالوسيلة جزء من الغاية، بل إنهما مترابطان، ولا غاية شريفة بدون وسيلة شريفة، وعلى حد تعبير المهاتما غاندي: "الوسيلة والغاية مثل البذرة من الشجرة".
الفكر النقيض الذي تحتاجه مجتمعاتنا، لكي تتجاوز التطرف والإرهاب ينبغي أولا وقبل كل شيء الاعتراف بالآخر على قدم المساواة، والاقرار بالتعددية والتنوع، كما ينبغي نبذ التمييز بجميع أشكاله، سواء كان دينياً أو إثنياً أو بسبب اللون أو الجنس أو اللغة او الأصل الاجتماعي أو لأي سبب كان؛ أي الاعتراف بمبادئ المساواة.
إن الفكر المتطرف والتكفيري يعتبر كل خلاف معه محرّماً، وعليه إقصاؤه وإلغاؤه واستئصاله، في حين إن نقيض ذلك هو مبادئ التسامح والاعتراف بالآخر والحوار واللاعنف. فالإرهابي لا يؤمن بالحوار ويحاول أن يبسط سلطانه على محيطه بالقوة، وبدلا من الإقناع يلتجئ إلى التفجير والمفخخات.. خارج أي اعتبار إنساني، طالما تتلبسه فكرة امتلاك الحق، إذ لا يمكن للتطرف أن يصبح عنفاً إرهابياً وفعلاً ارتكابياً ضد الإنسان، إلا إذا تمكن من التوغل إلى العقول، وهذا غالباً ما يتم بعملية غسل أدمغة، حيث تعمي البصيرة وتعطل العقول وتشل المشاعر الإنسانية، ليقوم المرتكب بفعلته سواء بتفجير نفسه أو تفجير عدوه أو خصمه، أو السعي لإذلاله والقضاء عليه.
الإرهاب ككل، داء تقتضي مواجهته واعتماد الوقاية الناجعة عبر استهداف أسبابه، وتحصين المناعة الفكرية والمادية والنفسية للمواطنين، حتى لا تصطادهم شبكات التطرف وتستغل ظروفهم النفسية والاجتماعية. ولعل تواصل تفكيك الخلايا الإرهابية وشبكات الاستقطاب دليل على وجود مشاتل وبيئة تفرخ وتنتج وتحتضن المتطرفين