{{“إنّي لا أتحمّل مطلقا كلمة “لذّة”، لماذا؟ لأنّ الرغبة بالنسبة لي ليست أبدا نقصا”
جيل دولوز}}
لن نكون على خطأ إذا ما قلنا إنّ هناك نقاط لقاء عديدة جمعت بين فلسفة ميشيل فوكو وفلسفة تربه جيل دولوز. فالفيلسوفان ينتميان معا لنفس الأفق، أفق ما بعد نيتشه وأفول المقدّس، ويشتغلان على نفس الإشكاليات (السلطة- المجتمع- الرغبة) ويتوسّلان بنفس المنهج( النقد والتفكيك). غير أنّ هذه التوافقات والتلاقيات كثيرا ما تخفي عناصر تباعد أخرى، وفي قضايا أساسية. ففي ظلّ هيمنة الأحكام والتصنيفات العامّة التي تطغى على المؤرّخين، ينسى هؤلاء أن لا وجود في الفكر لتطابقات كلّية، فالفكر اشتغال بالجزئيات، لهذا فالأهمّ في فعل التأريخ له، هو بيان الفروق والتفاصيل.
هناك فروق بين الرجلين رغم توافقاتهما المذكورة أعلاه، وهي أحيانا كبيرة، وأنا أودّ أن أمثّل لهذه الفروق بنموذج واحد هو مفهوم “الرغبة”، وهو مفهوم كما يعرف الكثيرون على درجة عالية من الأهمية في الفكر المعاصر، ربّما بسبب هيمنة التحليل النفسيّ على مجموع هذا الفكر.
من المشهور عن ميشيل فوكو أنّه دافع بقوّة عمّا سمّي في الدراسات الدولوزية بالتحليل الفصامي (schizoanalyse)، وعن الأدوات النظرية التي قدّمها هذا “الكتاب الشيء” المسمّى “أوديب المضادّ” ، فضدّا على الهجوم الشرس الذي تعرّض له دولوز وغاتاري بعد نشر هذا النص من طرف المحلّلين النفسانيين، واللاكانيين خصوصا، سارع فوكو إلى تثمين مضامينه وإلى بيان أهمّيته، واصفا إياه بكونه ” نسمة الهواء” الفلسفية الأقوى في النصف الثاني من القرن العشرين. غير أنّ هذا الحماس والانتصار الكبير الذي أبداه فوكو تجاه مشروع دولوز ورفيقه، لا ينفي ما ظهر بين الرجلين من اختلاف فلسفيّ في تصوّرهما لماهية الرغبة، حتى أنّه من الممكن القول، ودون تحفّظ، بأنّهما في هذا المفهوم بالذات على طرفي نقيض، وقد كان هذا التعارض وما نتج عنه من نقاشات علنية، بحسب ما ينقله بعض الباحثين، أحد أسباب اختلافهما وتباعدهما الشخصيّ في بداية الثمانينات.
لتلخيص عناصر هذا التعارض وتبيان مبرّراته وشروطه لا نجد خيرا من نص “اللذّة والرغبة”، وهو النص الذي كان في الأصل رسالة مطوّلة بعث بها دولوز إلى فوكو سنة 1977 .
يعتبر دولوز في هذا النص الصعب أنّ فلسفة فوكو هي بالتعريف فلسفة “لذّة” plaisir وليست فلسفة “رغبة”، وفلسفة اللذّة من طبيعتها أنها لا تنظر إلى الرغبة إلا باعتبارها ممرّا ومسلكا، فالرغبة لا تحمل أيّة قيمة في ذاتها، بل هي مجرّد لحظة لا تأخذ قيمتها إلا بردّها إلى الغاية التي تسعى إليها وهي تحقيق “الاستلذاذ”. هذه الرؤية في تصور دولوز تتّسم بسمتين اثنتين: أولاهما أنّها نظرة”ذاتية”، وثانيتهما أنّها نظرة “سالبة”. هي نظرة ذاتية لأنها لا تستحضر بُعد التركيب في فعل الرغبة، إذ أنّ الرغبة عند دولوز هي دائما تركيب وتوليف agencement” ؛ وهي نظرة سالبة لأنها تتأسّس على منطق يردّ الرغبة إلى نقص ينبغي ملؤه، وهذا بالضبط هو نقيض تصوّر دولوز، فبقدر ما ينفي فوكو عن الرغبة كلّ بعد إيجابيّ، من حيث أنّها مرهونة عنده بالنقص ومعلّقة في اللذّة، بقدر ما ينفي دولوز عن اللذّة نفسها هذه الصفة الإيجابية، من حيث هي عنده في النهاية عبارة عن “إيقاف” لمسار وقطع لصيرورة “Devenir ” وتكسير لخطّ، هو خطّ الرغبة نفسه، ولهذا فـ”إنّني – الكلام لدولوز- لا أحتمل كلمة اللذّة (…) فالرغبة امتلاء وليست نقصا، الرغبة مسار (…) وحدث” (4)، هي حدث لأنّها تعدّد فاعل يتداخل فيه البيولوجيّ بالتاريخيّ بالسياسيّ؛ ولهذا فإنّ التوجّهات اللذّية والفوضوية لا تخطئ فهم ماهيتها فقط، بل تخون جوهرها حين تجعل منها مجرّد عبور نحو “غاية” أسمى هي الاستلذاذ. اللذّة عند دولوز هي توأم العدم، لأنّ كليهما يقطع مسار الحياة ومسار الرغبة ويردّها إلى إحالة اللذّة والمتعة، والإحالة عند دولوز، سواء على الأسرة، كما في التحليل النفسيّ، أو على اللذّة أو النقص، كما عند فوكو، تفشل دائما في إدراك حقيقة الرغبة .
للتمثيل على تصوّره الإشكاليّ عن ماهية الرغبة هذا، يقدّم دولوز في هذه الرسالة وفي نصوص أخرى أمثلة غريبة نسبيا، تجسّد من منظوره التصور الصحيح لماهية الرغبة ومنطق اشتغالها النافر دائما. المثال الأول متعلّق بالحبّ العذريّ “l’amour courtois” الذي كان سائدا في القرون الوسطى، والمثال الثاني متعلّق بـ”المازوشية”، والتي تأخذ عنده، وعلى عكس التناول السيكولوجي والأخلاقي، صفة إيجابية.
يبيّن دولوز في المثال الأوّل أنّ ما كان يحكم الحبّ العذريّ في القرون الوسطى هو “الرغبة في إدامة الرغبة”، أي السعي إلى تقديم الرغبة باعتبارها “هدفا” في ذاتها، فكلّ شيء مباح في الحبّ العذريّ ما عدا مرحلة الانتشاء ولحظة الإيغاف “Orgasme”، لأن هذه اللحظة توقف صيرورة “الرغبة” وتقطع ارتباطاتها، وهذا هو الأمر الذي نجده أيضا في ثقافة الشرق الأقصى القديم، حيث تتأسّس الثقافة الجنسية على إدامة الرغبة لأطول وقت ممكن، وهي الإدامة التي لا تتحقّق إلا بالاستبعاد الدائم للّذّة، لأنّ اللذّة لا يمكن أن تتحقّق إلا بتجاوز الرغبة، أي بإنهاء الرغبة، لهذا كانت حياة اللذّة عند دولوز لا تتحقق إلا بموت الرغبة .
في مثال المازوشية نجد نفس الرؤية تقريبا، ولو أنّ دولوز يفصّل في توضيحها أكثر، إذ يخصّها بنص مستقل (Présentation de Sacher-Masoch : La Vénus à la fourrure.).
لا يستسيغ دولوز النظرة السيكولوجية لماهية المازوشية، وهي النظرة التي لا ترى فيها سوى سادية معكوسة، أي سادية تتوجّه نحو الذات عوض أن تتوجه نحو الشخص موضوع الرغبة. المازوشية عنده ليست كذلك بتاتا، هي ليست سلبا ولا لذّة معكوسة و لا عشقا للألم، بل هي في العمق محاولة لبناء مسار غير منقطع للرغبة، مسار تحاول فيه الرغبة ترسيم مجال مفتوح تعيد فيه إنتاج ذاتها باستمرار، والحال أن لا شيء غير الألم يمكّن من ذلك، لأن الألم هو ما يحرّر المازوشيين من عقدة الذنب البعدي، لهذا فهم يعمدون إلى استباقه قبلا، عوض تأجيله، بأن يلحقوه بالذات.
ما تبيّنه هذه الأمثلة، في تصوّر دولوز، هو أنّ الوعي بحقيقة الرغبة وتمثّلها لا يكون بردّها إلى أصل أو غاية، بل بتتبّع حركتها ورصد محفزاتها وخطوط انفلاتها (lignes de fuites)، ولهذا فإنّ كلّ المقاربات الساكنة، بنيوية كانت أو تحليلية أو لذّية أو أخلاقية أو معرفية، تضيع “ماهيتها” وتخطئ منطقها، فوحده التحليل الفصامي الذي يتتبع خطوط الرغبة في تحولاتها وتوليفاتها مع أشياء العالم يمكننا من فهم كيفية عمل الآلات الراغبة الجماعية “Machine désirante” والفردية، وطبيعة الخطوط التي تبينها والتي هي دائمة الصيرورة والتحقق، خطوط تغير من طبائعنا وتمدّها بدفق الحياة والتعدّد في مسار يصبح فيه “الفرد هو العالم” و”الجنس هو كلّ الأجناس”، لهذا كان الفرد تعدّدا عند دولوز، فليس الأفراد هم من يتحقّق في جنس، بل الأجناس هي التي تتحقق في الأفراد، لهذا فعند دولوز لا يصحّ أن نقول لكلّ جنس أفراده، بل ينبغي القول أنّ “لكلّ فرد أجناسه”
قد يبدو لكثيرين أن موقفا من الرغبة مثل هذا غامض وغير واضح، وقد يجد المرء نفسه بالسليقة أقرب إلى فوكو، فالرغبة في تصوّرنا التلقائيّ هي دائما نقص، هي دائما معلّقة بغاية ما، لكن الأمر سيبدو لنا كذلك لأننا أفلاطونيون في العمق، لأننا نفهم الرغبة باعتبارها “حاجة” “besoin”، والحال أن ما يريد دولوز تأكيده هو أن الرغبة ليست هي الحاجة، الرغبة اكتفاء وليست نقصا، فأنا -لأن لا شيء في العالم سيملأ شغفي، ولأن لا شيء سيرضي قدري- فأنا لا أحتاج شيئا، أنا أحيى قدري كما هو، وأكتفي به وأحبّه وأرغب في استمراره، تماما كما قرّر الرواقيون القدامى حين قالوا “أحبّ قدرك”amor fati أو كما قرّر نيتشه سليلهم فيما بعد في عبارة شهيرة “أَحِبَّ قدرك وكأنك تريد عوده الأبدي”. دولوز فيلسوف سبينوزي رواقي وليس أفلاطونيا، بل إنّ فلسفته في الرغبة لا تفهم إلا في سعيها لقلب الأفلاطونية.
غير أنّ بيان منطق هذا القلب وبيان رهاناته وأصوله يحتاج لمساحة أوسع.