بقلم :فهمي رمضان
في الوقت الّذي كانت فيه أوروبا، قد شرعت في تحسّس خطاها للخروج شيئا فشيئا من ظلمات العصر الإقطاعي الكنسي (منذ بدايات القرن الخامس عشر)- وذلك توافقا مع ما كان يعتمل في رحم مجتمعاتها من أفكار وتصوّرات جديدة ما انفكّت تؤرّقها وتدفعها لاكتشاف المجهول والتأسيس لعالم جديد- خبت جذوة العقل العربي الإسلامي وتخلف ركبه عن مسيرة الحضارة الإنسانية ذلك أنّه كان قد ركن إلى الجمود والتقليد والتحجّر هذا فضلا عن انغلاقه وتمسكه بأهداب الجهل و الخرافة، فكان ذلك إيذانا ببداية عصور التخلّف والانحطاط وبالتّالي أفول نجم الحضارة العربيّة الإسلاميّة وانتكاس إشعاعها شرقا وغربا.
في مقابل ذلك نجد أنّ العقل الأوروبي الغربي كان قد اكتسب حيويّة جديدة ودينامكيّة خلاّقة – خاصّة بعد ما سمي بعصر “الإحياء”( أو عصر النهضة) المتسم بذلك “التوجّه الإنساني” – جعلتاه يخلق عالما جديدا مؤسسا على الإنسان والعقلانيّة والعلم, فكان ذلك إيذانا بولادة العصر الحديث وتبلور ما يعرف “بالحداثة”. ولا ريب أنّ هذه الرّوح التوّاقة للعقل الأوروبي الحديث ما فتئت تروم سبر أغوار العالم العربي الإسلامي الذّي ظهر كقلعة إيديولوجية عتيقة لم تكتوي بعد بنار الحداثة. وقد تحقّق هذا الاحتكاك مع حملة نابليون على مصر في 1798 الّذي رأى نفسه وريثا للإسكندر المقدوني صاحب الإرث الهلّينستي العظيم في الشرق. هذه الحملة التي لم تكن ذات صبغة عسكرية فقط بل إنها لا تخلو من جوانب حضارية و ثقافية, فكان إذن هذا الصدام بين الشرق والغرب كفيلا بجعل العقل العربي الإسلامي يرتد الى ثقافته ليبحث فيها عن أسباب التخلف ومكامن الضعف وذلك من أجل مجاراة هذا الإنجاز الحضاري الغربي والسبق التاريخي المهول الذي بدا ظاهرا للعيان من خلال هوة سحيقة ما انفكت تتسع بين هذين العالمين.
في هذا الإطار تتنزل حركات التحديث والتنوير العربيين التي انطلقت مع بزوغ فجر القرن التاسع عشر والتي لم تندرج فقط في إطار الالتحاق بركب الحضارة الغربية وإنما كذلك محاولة استيعاب ما ولَده أو بالأحرى ما أنتجه الغرب من مفاهيم و تصورات جديدة تلخصت فيما يعرف “بالحداثة” كما أسلفنا الذكر. فلا ريب إذن, أنً العقل العربي الإسلامي قد طفق منذ هذه اللحظة الى يومنا هذا يبحث عن السبل و الطرق لتجاوز حالة ” التأخر التاريخي” وبالتالي تدارك الضعف الذي جعله لقمة سائغة في فم غرب امبريالي في أوج ازدهاره الحضاري و توسعه الاستعماري الكولنيالي. أليس من الحكمة هنا أن نطرح بعض الأسئلة التي تكتسي من الأهمية بمكان:أولا، هل كان هذا الصدام مع الحداثة الغربية كفيلا بخلق عقلا عربيا حديثا غير منشدً إلى الماضي والتراث؟ ماهي الأسباب الكامنة وراء انتكاس مشروع التنوير العربي الذي تبنته أجيال من المثقفين العرب من القرن التاسع عشر الى اليوم؟هل يعود ذلك لأسباب تاريخية و موضوعية خارجية أم الى بنية العقل العربي الذي لم يستطع الى اليوم اعتناق قيم الحداثة الغربية اعتناقا يكفل له الخروج من ظلمات الجهل و التخلف؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا العمل.
الحداثة…. حداثات
علينا أن نعترف أولا أن مفهوم الحداثة في حد ذاته لا يخلو من بعض الإبهام والغموض ولكننا سنحاول هنا تتبع المسيرة التاريخية التي أدت إلى تشكل هذا المفهوم وتبلوره يحدونا في ذلك الأمل في إزالة الغامض وإنارة المبهم. عموما تتنزل ولادة الحداثة في ذلك الإطار التاريخي الذي بدأت فيه أوروبا ( نقصد هنا الغربية) تتنصل شيئا فشيئا من وطأة العصور الوسطى المتسمة بتخلف اقتصادي ( سيادة النظام الإقطاعي ) وركود فكري و ثقافي (سيطرة الكنيسة على العقول) لتبدأ عصر جديد أٌفتتح بحركة الكشوف الجغرافية و هي رحلات جعلتها( أي أوروبا) تسبر أغوار العالم مكتشفة في ذلك القارة الأمريكية التي مثلت معينا لا ينضب من الثروات طوال قرون. كما ترتب عن هذه الاكتشافات الجغرافية نتائج جد هامة نذكر على رأسها تحول ثقل التجارة البحرية نحو المحيط الأطلسي بعد أن كان المتوسط مركزا للتجارة العالمية. وممًا لا يجب ألا يغرب عن البال،, أن توقف خفقان المتوسط على حد تعبير المؤرخ “فرناند بروديل” قد ساهم بعمق في تراجع التجارة العربية الإسلامية وانهيارها فيما بعد.
تزامنت كذاك هذه الاكتشافات مع تبلور حركة الإحياء الأوربي ذات الاتجاه الإنسانوي حيث ميزت العقل الأروبي طوال القرن السادس عشر حيوية خلاقة و اندفاعا برومثيوسيا غير مسبوق للمعرفة و الفكر: فالنهضة الأروبية قد قامت أساسا على ضرورة النهل من الإرث الإغريقي والروماني لاستخلاص منهما المثل والقيم اللازمة لتحقيق الإقلاع الحضاري. أما القرون اللاحقة (السابع عشر و الثامن عشر) فقد شهدت تطورا مهولا للعلوم العقلية إذ ظهرت تحولات علمية عميقة وسريعة تُوًجت بانبلاج فجر الثورة الصناعية التي جعلت من الاقتصاد المحدد الرئيسي لكافة مناحي الحياة. وقد أفرزت إذن كل هذه المتغيرات الجذرية اتجاهات فكرية متعددة ومتنوعة: حيث ظهرت الفلسفة الماركسية في القرن التاسع عشر ثم فلسفة النشوء والارتقاء الداروينية وصولا إلى علم النفس الفرويدي الذي أحدث رجة عميقة في صلب الفكر الإنساني.
فلا ريب إذن أن تؤدي كل هذه التحولات إلى تبلور “الحداثة “والتي مثلت في حقيقة الأمر قطيعة ابستمولوجية مع العصور الماضية فعلى حد تعيبر الفيلسوف “ألكسندر كوراي” انتقل الإنسان بولادة الحداثة من العالم المغلق إلى كون مفتوح لا متناه وغير محدود”.فإذا أردنا إذن استجلاء أهم ملامح الحداثة ,فمن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن هذه الأخيرة تؤكد على ضرورة التسليم بالعلم والمنطق ضد الخرافة والجهل والأسطورة ذلك أن العقل لم يعد خاضعا للطبيعة أو لمعتقدات الكنيسة كما في الماضي وإنما أصبح سيد نفسه و لا يعلو عليه شيء. ألم يصرخ ديكارت قائلا ” ليس ثمة شيء في هذا العالم سوى أنني أفكر”.
خلاصة القول هنا: أن الحداثة بعمقها التاريخي ووزنها الإبستمولوجي الهام مثلت رجة حقيقية للفكر الإنساني ودويا هائلا مسترسلا لا يزال صداه إلى اليوم: فهي ثورة حقيقة و تحريك لسواكن العقل وزعزعة للقناعات الثابتة.
فمن المنطقي الآن أن نطرح التساؤل التالي: كيف سيتفاعل العقل العربي مع هذه الحداثة؟
الجيل الأول من التّنويريين العرب: التّحديث التراثي
ممّا لا شكّ فيه أن أهم ما تركته مدافع نابليون – وهي تدك طوابي الإسكندرية – من أثر في الوعي العربي أنها نبهته إلى تخلف العالم الذي يعيش فيه و هو عالم لا يزال متمسكا بثقافة تقليدية هي ثقافة الشروح والمتون واللاعقلانية وهو فضلا عن ذلك لا يزال يرزح تحت وطأة ركام تراثي هائل يشده إلى الوراء و يمنعه من النظر إلى المستقبل واستشرافه.
فهذه الصدمة الحضارية إذن جعلت العقل العربي الإسلامي والذي سيمثله في البداية الجيل الأول من التنويريين (جيل القرن التاسع عشر) يتخلص شيئا فشيئا من الأوهام التي كانت تأسر فكره خاصة تلك المتعلقة بعظمة دار الإسلام مقارنة بدار الكفر . وقد تحقق ذلك بعد رحلات قام بها رواد التنوير العربي باتجاه أروبا لاكتشاف هذا الآخر الذي يقبع على الضفة الأخرى من المتوسط.فهذا مثلا “رفاعة رافع الطهطاوي” يرافق بعثة علمية الى باريس بصفته مرشدا دينيا ولكن ما إن وطئت قدماه باريس عاصمة الأنوار آنذلك بدون منازع حتى نسي أو لنقل تناسى الدور الموكول له في البعثة ليخصص بذلك أغلب وقته لاكتشاف هذه الجنة الأرضية التي احتوت جل مصادر السعادة البشرية: مكتبات، علوم ومخابر، فكر وثقافة، جامعات، مسارح ساحات منتزهات…لقد أظهر الطهطاوي إعجابا وانبهارا شديدين بما حققته فرنسا آنذاك من حضارة ومدنية وتقدم ليسجل كل ذلك فيما بعد في كتابه ” تلخيص الإبريز في تلخيص باريز”.
لم يكن “الطهطاوي” الأول الذي ينبهر بما حققه الغرب فهذا أيضا “جمال الدين الأفغاني” الذي يسافر كذلك إلى فرنسا فيتأكد من حاجة ملحة و هي ضرورة الاقتباس من الغرب حتي يكفل العالم العربي الإسلامي أسباب التقدم والإزدهار. يلتقي “الأقغاني “هناك الفيلسوف المشهور “أرنست رينان”و يقع جدال فكري بينهما حول الإسلام ونظرته إلى العلم.يسافر كذلك المصلح التونسي خير الدين وكذلك المؤرخ ابن أبي الضياف الذي رافق باي تونس “أحمد باي”(حكم بين 1837-1855) إلى فرنسا حينما دعاه الملك آنذاك “لويس فيليب”. يتأكد خير الدين التونسي من القوة الاقتصادية والعلمية التي أصبح عليها الغرب فيؤلف كتاب وضع فيع عصارة تجربته وخلاصة فكره و هو ” أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”.
لقد كانت جلّ كتابات هؤلاء دعوة صريحة لضرورة أن يلتحق العالم العربي الإسلامي بركب الحضارة الغربية وأن يخلع عن نفسه رداء الركود والتخلف وذلك للخروج من غياهب الجهل والخرافة . ولكن كيف تصور هؤلاء المشروع التنويري الذي سينتشل عالمهم من ضفة التخلف الى ضفة التقدم؟
لقد اعتقد هذا الجيل من التّنويريين أن اطلاعهم على الحضارة الأوروبية بعد هذه الرحلات كفيل باستخلاص أسرار التقدم والمدنية والحضارة: فأسباب التقدم واضحة بالنسبة لأغلبهم وهي أسباب مادية بالأساس: فهذا “رفاعة رافع الطهطاوي “يقتصر في وصفه لباريس على كلّ ما هو مادي حيث يصف الشوارع والمنتزهات والحدائق وصولا الى “الشنزيلزيه” الذي يقول عنه أنه “رياض الجنة”. نفس الوصف تقريبا نجده عند المصلحين الآخرين. فكأن الحداثة الغربية هنا هي حداثة مادية واقتصادية بالأساس فهي المصانع والسكك الحديدة والبنايات الضخمة والأبراج العالية. فهل تمكًن حقا هؤلاء من ضبط مفهوم الحداثة بصورة واضحة وجلية أم أن الصورة عندهم كانت ضبابية؟.
ربما موقف “أحمد باي” الباي المصلح في المخيال التونسي يوضح لنا الصورة بعض الشيء: فقد دعاه ملك فرنسا “لويس فيليب “لما زاره إلى حضور مسرحية و لما صرخت الممثلة على خشبة المسرح قائلة” بأيّ حق يتصرف الملك في حريتنا؟”تفاجأ في البداية الباي ثم أظهر احتقارا لهذه الحرية التي جعلت فتاة من العامة تتحدى الملك مباشرة. هل نسي أحمد باي أن التحديث الأروبي هو نتيجة سياق تاريخي متميز و مخاض عميق للفكر ساهمت في نحته عناصر مادية و أخرى غير مادية بدأت بحرية الفكرة.فهل كانت ستكون هناك ثورة صناعية بدون الحرية الفكرية التي سادت أروبا الغربية آنذاك؟ فالحضارة الحديثة, لا تتمثل فقط في الوسائل المادية التي حققت لأروبا أوج القوة العلمية و الاقتصادية و السياسية بل هي كذلك قيم العقلانية و الحرية والمدنية.
لقد لفت انتباهنا كذلك ما كتبه ” شكيب أرسلان ” الذي يدعي أنه قد اهتدى الى مكامن ضعف العالم العربي الإسلامي وأسباب قوة العالم الغربي الأروبي. سجل كل ذلك في كتاب عنونه ” لماذا تأخر المسلمون و تقدم غيرهم؟” حيث نراه يعدد أسباب التخلف و يتوسع في تحليلها وينظر ويستنتج و لكننا لا نكاد نجد و نحن نقلب الكتاب الصفحة تلو الأخرى كلمة ” حرية”، مرة فقط وضعها في هامش وفي سياق غير السياق الفكري الإجتماعي. فهل غاب عليه حقا أن الحرية أصل التقدم والمدنية والحداثة بل هي أصل كل شيء؟.
تكثيفا للقول فإن المتأمل في هذا المشروع التنويري الذي جاء به رواد التحديث يمكنه استخلاص عديد الملامح: نذكر على رأسها التمسك بالماضي والتراث(من أجل ذلك أسميناه التحديث التراثي) أي أن حركة التحديث هنا تنطلق من التراث أي الماضي فالعودة دائما الى الماضي والاستلهام من التراث جبلة كامنة في هؤلاء: فالهاجس الأوحد عندهم هو ضرورة التوفيق بين الشريعة الإسلامية وبين قيم الحداثة الغربية، فخير الدين التونسي يقول مثلا ” والغرض من ذكر الوسائل التي أوصلت الممالك الاروبية على ماهي عليه من المنعة والسلطة الدنيوية أن نتخير منها ما يكون بحالنا لائقا ولنصوص شريعتنا مساعدا وموافقا”. فكأن هنا العقل التنويري يصبح عقلا انتقائيا ماضويا فهو يعتقد أنه بمجرد اختيار ما يوافق الشريعة الإسلامية من قيم وأفكار غربية فإن ذلك يكفل الإقلاع الحضاري و لكن هيهات….فالتوفيق بين القديم والجديد أي بين الشريعة والحداثة عمل غير علمي يخضع للمزاج الشخصي للمفكر ولا يستند لمقاربة تحليلية عميقة تدرس فيها الظاهرة من نواحي متعددة.
يذهب بعض المفكرين الذين درسوا بعمق حركات التحديث، أن العقل العربي لم يحاول تحديث الإسلام أي إحياء اجتهاد جريء و عقلاني يضع النص الديني في تفاعل مع مستجدات الواقع ومتطلباته و إنما عمدوا الى “أسلمة الحداثة” وهذا ربما دليل آخر على هذا البعد الماضوي والتراثي الذي ما انفك يكبل العقل العربي: ف”خير الدين التونسي” مثلا لا يتحدث عن “برلمان” بل يؤسلم الكلمة لتصبح “أهل الحل والعقد “أما الحضارة فقد أصبحت عنده تمدن وهلم جرا. وبذلك ظل هذا العقل أسيرا و سجينا للتراث في حين أن الحداثة الأوروبية كانت ذات بعد عالمي و كوني تفرض الإلمام بمختلف التراث الإنساني.
لقد التمسنا عند هؤلاء كذلك نوعا من الخلط بين الغرب الإمبريالي القائم على التوسع والإستعمار والغرب الثقافي الحداثي المؤسس على قيم حقوق الإنسان والعقلانية. هذا الخلط جعل الفكر التحديثي غارق في نوع من القلق و التمزق عطل مسيرته نحو تجاوز تأخره الحضاري.
بعد تشريحنا لهذه الذهنية الإصلاحية يمكننا ان نفهم بعض أسباب انتكاس التنوير لعربي الذي قاده رجال التحديث في القرن التاسع عشر إلا أننا نعتقد كذلك أن هذه الإنتكاسة تعود لعوامل موضوعية خارجية: فقد تزامنت حركة التحديث مع تحولات عميقة عرفها الغرب جعلته يبلغ أقصى مراحل التوسع والنمو الاقتصادي وهي الإمبريالية و بالتالي لم يكن في صالح الغرب أن تنجح محاولات التحديث حتى يبقى العالم العربي تحت سيطرته الإمبريالية. زيادة عن ذلك, يمكننا الإشارة إلى أن التحديث كان في أغلبه فوقيا وسطحيا بل إنه كان هجينا إذ اقتصر على وسط نخبوي ضيق ولم يتسرب إلى العامة في المدن والأرياف والبوادي هذا ربما عكس فكر التنوير الأوروبي الذي انتشر في المقاهي والصالونات والساحات وحتى المسارح. هذا بخصوص الواقع الاجتماعي، أما سياسيا فنلاحظ طغيان أرباب السيف على أصحاب القلم إذ واجه التحديث أنظمة سياسية فردية ومطلقة فكان التنوير يون بين المطرقة والسندان: مطرقة سلطة سياسية استبدادية وسندان المحافظين من شيوخ النقل ألببغائي كما يؤكد على ذلك المفكر الحبيب الجنحاني. إذن فقد بقي العقل العربي ممزقا ولم يهتد الى الموقف الحضاري الذي يجب احتذاؤه لتدارك الهوة السحيقة بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب.
وسنطرح الآن هذه الإشكالية مع جيل جديد من التّنويريين الذين أخذوا على عاتقهم قضية التأخر التاريخي وهم الجيل الثاني الذي ظهر بعد نيل الدول العربية لاستقلالها.فكيف ستكون رؤية هذا الجيل لقضية التحديث وكيف تصوروا السبيل الأمثل لخلق الإنسان العربي الحديث؟
الجيل الثّاني من التّنويريين العرب: التّحديث العلماني
لئن فشل الجيل الأول من التنويريين في تحقيق الإقلاع الحضاري، فقد انطلق الجيل الثاني الذي كان أكثر وعيا بحكم تكوينه المزدوج العربي الإسلامي والأوروبي من مسلمة وهي ” لا حياة حديثة بدون فكر حديث” إذ كان الهاجس هو ضرورة التوصل لخلق عقل عربي حديث وبالتالي الإنسان الحديث الُمُلم بقيم الحداثة والمساهم في عملية البناء التاريخي و الحضاري .
سنبدأ بمفكر مغربي لا يشك أحدا في قيمة كتاباته أو جهده التنظيري خاصة في طرقه لمسألة “الأصالة و الحداثة” وهي من المسائل التي ما انفكت تؤرق أجيال وأجيال من المثقفين العرب. ولا ريب أنها تمثل نفس المسألة التي خاض فيها الجيل الأول وهي التراث والحداثة. لقد تناول “عبد الله العروي ” هذه القضايا في كتابين هامين: الأوّل ” الإيديولوجية العربية المعاصرة” والثاني “أزمة المثقفين العرب” وقد حاول خلالهما أن ينتقل من مستوى المؤرخ المحترف المتخصص إلى مستوى المثقف المشارك بما هو كائن في التاريخ. لقد تساءل “العروي” أساسا عن الأسباب التي أدت الى خروج العرب من التاريخ على الرغم من تعدد محاولات التحديث إذ يلفت نظرنا و هو المتأثر بالماركسية الى غياب طبقة بورجوازية حداثوية في العالم العربي الإسلامي تنهض بمهمة التحديث مثلما كان الأمر مع الغرب فهذه الطبقة وإن وجدت فإن وجودها ” هلاميا و جنينيا” كما أن لا مستقبل لها في النظام الرأسمالي العالمي ذلك أنها ليست لها القدرة على اللحاق بالعقلنة العلمية الصناعية لأنها طبقة هجينة مشدودة الى الماضي في مستوى روحانيتها وعاداتها. إذن فما هو المقترح بالنسبة للعروي؟
في حقيقة الأمر لا يبدو للعروي مقترح بل مقترحات فقد دعا في البداية الى ماركسية معربة ثمّ نراه في مرحلة أخرى ينظر إلى التاريخانية كخيار إيديولوجي وكأدلوجة تحديثية فيبدو لنا إذن كما وصفه المفكر التونسي هشام جعيط: اورببياني ضد الأوروبي، عربي تاريخي ضدّ العروبة، ثقافي ثوري ضدّ الثورية. وأخيرا ماركسي ضد الماركسية. وعموما فإنّ العروي يتمسك بنظرية الثورة الدّائمة وضرورة أخذ موقف راديكالي وهو بذلك لم يثر مشكل الحداثة بل رمز إليه في شكل إشارات عابرة.
ننتقل الآن إلى المفكر التّونسي “هشام جعيط ” الّذي حاول أن يفهم الشخصية العربية الإسلامية في كتابه ” الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربي” إذ يتساءل ” ما عسى أن تكون الحركة العميقة التي من شأنها أن تحرك الكيان العربي الإسلامي ” لينتهي الى أن التحديث في المجتمع لا يجب أن يكون مسقطا من فوق أو من الخارج بل ضرورة أن يكون نابعا من التراث نفسه أي من الماضي وبالتالي فقد سقط في إشكالية التوفيق بين القديم والجديد. أمّا المفكر الآخر فهو المصري ” حسن صعب” الّذي تناول أيضا هذه القضية في كتابة التراث والتّجديد حيث يؤكّد فيه على ضرورة ربط الماضي بالحاضر إذ التراث والتّجديد يمثلان حسب حنفي عملية حضارية و اجة ملحة. بيد أنه يكتفي بالتّنظير والتّحليل ويقدم حلول عملية تمكننا من تكوين وعي تاريخي وحضاري تجاه المسألة.
وعموما ظلت قضية الأصالة والمعاصرة أصل انشطار وانقسام النخبة العربية الحديثة. وعلى كل يبدو أن الجيل الثاني أيضا لم يستطع تحليل مفهوم الحداثة تحليلا نظريا علميا بعيدا عن الأهواء والنزوات. فالمشكل في نظرنا يبقى في ايجاد السبل الكفيلة لخلق عقل عربي حديث لا حداثة مادية متجسدة في برلمان ومؤسسات وقوانين. فالمثقف العربي في نظرنا ظل يعاني إلى اليوم انفصام في الشخصية ففي داخله يكمن الماضي بما هو ركام تراثي هائل وكذلك يعصف بشخصيته فكر معلمن حداثي لكنه هجين. فكأنّ معاناة العرب حقّا تكمن في كونهم “يسكنون آنا غرفة العلم المعاصر و آنا يسكنون غرفة الخوارق والكرامات”؟.
وقد تزداد الامور تعقيدا خاصّة مع صعود ” الأصوليّة الإسلاميّة ” في بعض البلدان العربيّة في السنوات الأخيرة الأمر الّذي يضع المشروع التنويري في خطر ذلك أنّ هؤلاء الأصوليون لم ينفكوا يعبرون عن رفضهم للحداثة والعلمانية. ألم يقل سيد قطب بأنّ المجتمعات العربيّة الإسلاميّة الحالية ليست سوى مجتمعات جاهلية ” ليأتي من بعده ” يوسف القرضاوي” ليقول بأن العلمنة بضاعة غربية لم تنبت في أرض الإسلام”. ألم يقرأ هذا الأخير ابن رشد الّذي يتحدّث عن حريّة المرأة ( خاصّة ضرورة قيامها بالواجب العسكريّ) وهو ابن القرن الثاني عشر ميلادي”؟؟؟؟
إنّ قضية التنوير العربي لا يمكن أن تحسم في هذه السطور القليلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع بل إنها قضية شائكة متشعبة يكثر فيه القول ويطول. وعموما مع أن الحداثة الحقيقية هي تلك التي عبر عنها المفكر ” محمد صالح المراكشي ” بأنها صهر لقيم الماضي المضيئة وقيم الحاضر الحديث في بوتقة واحدة” فإنّي أؤمن بأنّ العقل العربي الإسلامي لن يكابد مشكلة الحداثة طويلا فهذا الاختمار الفكري الّذي يعصف بالعالم العربي منذ القرن التاسع عشر سيفضي حتما إلى تحول حضاري هام إذا آمنا حقا بأن المستقبل الحقيقي هو في الإيمان الرّاسخ بالعقلانيّة وأهميّة العمل والعلم. فنحن ما زلنا في طريق البحث عن الحداثة يحدونا في ذلك الأمل في التأسيس للعقل الحديث والإنسان العربي الحديث المتجذر في الحداثة وذلك لمواجهة جل التحديات المعاصرة في خضم عالم أصبحنا فيه ” أضيع من الأيتام على مأدبة اللّئام”.
عن الأوان
المراجع:
-التيمومي( الهادي): تونس والتحديث، دار محمد علي، صفاقس، 2011.
-التونسي خير الدين: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك.
-القاسمي ( فتحي): العلمانية واتشارها شرقا وغربا، الدار التونسية للنشر،1995.
-الملولي ( رضا): في الحداثة والتّقدم حوارات فكريّة، نقوش عربية، 1996.
-المراكشي ( محمد صالح): قراءات في الفكر العربي الحديث والمعاصر، الدار التونسية للنشر، 1995.
-الجنحاني (الحبيب): ” لماذا انتكس التّنوير العربي”، مجلّة العربي، العدد 530، جانفي 2003، ص ص 53-59.