حركة خارج السرب | العرب والغرب، لمحة عن الجذور التاريخيّة النفسيّة للنّظرة الدوغمائيّة
العرب والغرب، لمحة عن الجذور التاريخيّة النفسيّة للنّظرة الدوغمائيّة
2019-11-29 | 2570 مشاهدة
مقالات

يمكن القول أنّ  المسلمين في الأقطار العربيّة ينظرون للغرب وحضارته المعاصرة، نظرة سطحيّة ودوغمائيّة ((dogmatic والّتي يمكن تعريفها بأنّها اعتقاد يقيني برسوخ وثبات مجموعة من الأفكار حيث لا يقبل صاحبها أي تصويب أو تعديل أو نقد وتطوير، وهي حالة من الجمود الفكريّ العقائديّ.  يشترك الغرب على مستوى الإعلام السّياسيّ وعلى مستوى الفكر الاجتماعيّ في هذه النّظرة أيضا للعرب بشكل عام. وسبب ذلك في الأقطار العربيّة هو تاريخ الأحداث الّتي شهدتها المنطقة العربيّة، وأيضا وجود تصوّر جمعيّ عن أب تراثي حامي لهذه الذّات العربيّة،  يمكننا أن نسبر ذلك الاشتباك الحداثي في الوقت الّذي جرت فيه الحملات العسكريّة على الشّرق بقيادة نابليون على مصر وشرق المتوسّط، لقد كانت بالنسبة للعرب والمسلمين أوّل صدام حقيقي مع الغرب بكلّ نتاجاته التقنيّة والعسكريّة والحضاريّة، وحتّى ذلك الوقت كانت معظم الدراسات والبحوث الّتي تتمّ في الدّوائر الغربيّة تجري من خلال قناتين أساسيتين أوّلهما الدراسات الاستشراقيّة المبكرة منذ نهاية القرن الثّامن عشر وحتّى بدايات القرن العشرين، والمصدر الآخر ما كتبه الرّحالة والمغامرين أو صائدي الكنوز في الشّرق. بمعنى أنّ الغرب لم يعاين على المستوى الشعّبي أهميّة وعمق وغنى التّاريخ في الشّرق إلاّ عبر المغامرين وصائدي الكنوز في الشّرق القديم. وقد تمّ الكشف عن هذا الموروث من خلال حملة نابليون على مصر بداية القرن الثّامن عشر والّتي فتحت العيون في الغرب على الشّرق، والّذي كان لفترة طويلة من الزّمن من نصيب التّجار والمغامرين على طريق الحرير بين شرق المتوسط وأوروبا، وعن طريق البعثات التبشيريّة وسواها، ومنذ ذلك الحين، أي بعد حملة نابليون وما بعدها توضّح الشّرخ النّاتج عن علاقة صداميّة بين المسلمين والغرب مازالت آثاره مستمرّة إلى اليوم. يضاف إلى ذلك ومن الفترة الّتي تلت سقوط أو زوال الدولة العربيّة تحديدا (الدولة العربيّة العباسيّة في بغداد) من خلال حملة هولاكو 1258م، وزوال حكم الموحّدين في الأندلس وحتّى تاريخ الحملة النابليونيّة على البلاد العربيّة كانت البلاد العربيّة تعيش تحت وطأة صراعات داخليّة وإقليميّة استنزفت مختلف الموارد البشريّة والاقتصاديّة. وحتّى تاريخ تلك الحملة بقي التراث وكلّ ما ينتج عنه في البلاد العربيّة على اعتباره مصدرا أساسي في التّشريع والحياة والتّفكير والانجاز وسواها. لقد صدم العرب والمسلمين عامّة بتاريخ وأفكار المنجزات الغربيّة بعد حملة نابليون ووقعوا أمام تناقض داخلي نسبي على اعتبار أنّهم الأفضل والأمدى في التّحضر، لكنّهم وجدوا أنفسهم أمام واقع اجتماعي وسياسي جديد وغريب في الوقت ذاته.
– جذور الجرح النرجسيّ التاريخيّة:

ومن جملة الأمور الأساسيّة بالنسبة للبنيّة النفسيّة لدى العرب والمسلمين هو وجود تصوّر ذهني بنيوي عن أب تراثي قدسيّ في الذهنيّة الجمعيّة، وفي نفس الوقت لدى العقل الغربيّ صورة إنسان سوبرمان أو (الإنسان الصّانع) والّذي يجب أن يسود على غيره من أبناء الكوكب. هذا ما تمثّل على أكمل وجه في الثّقافة الكلاسيكيّة الألمانيّة وانتهاء بنيتشه الّذي كانت فلسفته القائمة على أساس أنّ الإنسان الّذي يجب أن يسود العالم هو (الإنسان السوبرمان) وأنّ قيمه هي قيم الخيروالعدالة.
حتّى ذلك التّاريخ بقي الغرب مجهولا من خلال منجزاته ومن أمثلتها: (الثورة الكوبرنيكيّة، بدايات العصر الفيكتوري الصناعي في إنكلترا، إضافة للثّورة الفرنسيّة من خلال تاريخ الأفكار والنّظريات في الغرب، أيضاً التّحول الكنسي البابوي في الغرب وسيادة فكرة العلمانيّة وتأسيس مفهوم الدولة وفكرة البرلمانات والجامعات العلميّة). لقد بقي المسلمون في عزلة عن هذه المنجزات لفترة طويلة من الزّمن، ومنذ ذلك التّاريخ هم في حالة مواجهة، كيف لهم أن يقوموا بواجبهم الاجتماعيّ تجاه أبناء جنسهم وفي نفس الوقت كيف لهم أن يصدروا صورتهم إلى العالم، العالم الغربي، أي الآخر؟. يمكن القول بأنّهم كانوا معنيين بإنكار الهزيمة على المستوى العسكريّ والثقافيّ، لكن بقدر ما تكون الرّضّة الّتي تصيب الأنا في أزهى حالاتها النرجسيّة أليمة بقدر ما يكون الإنكار أعظم، وأيضا بقدر ما تزداد الحاجة للاندماج في جميع التّصورات الأبويّة (التراثيّة)، فبعد أن أصيبت الأنا بالجرح النّرجسيّ سوف تسعى إلى ترميمه ومقاومة مصدر الرّضّة، وسيبدو في المخيال الجمعي أنّ الهيكل التراثي الأبوي العربي مقابلاً لهيكل أبوي معتد وآثم (الغرب). أمّا الأبناء من تلك الشّعوب فقد استولى على كيانهم التأثير السّلبي للعقدة الأوديبيّة، ولن يستطيعوا وفق هذه الحالة أن يمضوا أبعد من دون المرور (بقتل الأب) وإنتاج تصوّر جديد عن الأخلاق والعالم. يمكن الاستدلال على ذلك  من خلال تصوّرات الإثميّة والنّدم الّتي سادت، وهي الرّسالة المنقولة من الأب التراثي إلى الأبناء حيث يقول: ” أنتم من فرطتم وأضعتم سلطانكم، ولن تقوم لكم قائمة وتكونوا أمّة تسود على الأمم من دوني أنا!!” . ولا يغرب عن البال فإنّه بقدر ما يتعظّم الجرح النّرجسي لدى هذه الذّات العربيّة من الغرب الآثم الّذي استباح البلاد والعباد، بقدر ما تسود مشاعر الحسد المكبوتة نتيجة اغتراب الأمّة عن واقعها الحضاري وتشرذمها على أيدي الطّامعين، ويمكن القول بأنّ الحالة هنا هي نوع من ثنائيّة المشاعر بين الإقصاء والزّهو المزيّف وبين الحسد، وهذا ما يعزّز التّحديد السّلبي للدّور الاجتماعي في شتّى طبقات الدولة العربيّة لاحقاً. لكنّه ما لبث الغرب أن أطاح بالمؤسّسة الدينيّة من عرش السّيادة المعرفيّة والفكريّة وأشاد صرح العلم والفكر الفلسفي النقدي، ويمكن التّذكير هنا بالثّورة الكوبرنيكيّة وزوال سيادة عقيدة المركزيّة الكونيّة geocentrism المؤسّسة على الإرث الأغريقيّ (بطليموس وكتابه: المجسطي 170-100ق.م) . كذلك والثّورة الصناعيّة في بريطانيا ومن ثمّ ألمانيا إبّان بدايات القرن الثّامن عشر، أيضاً تهافت دور محاكم التّفتيش في تقييد وتجريم الحركة العلميّة والفلسفيّة والدينيّة، لقد أصبح الفرد وفكره طليقين وهما بذات الوقت موجودين من أجل الإنجاز والإبداع. وهذه ليست مبالغة خصوصاً إذا علمنا مقدار التّضحيات الّتي بذلت من أجل تأسيس الحريّة الفرديّة والفكريّة وفي نقد كافّة الثّوابت والقيم التقليديّة سواءً كانت دينيّة أم اجتماعيّة.

وفي الجانب المقابل يجب ألّا ننسى أيضا “الرّضّة” الّتي خلّفتها حادثة سقوط القسطنطينيّة بأيدي العثمانيين سنة 1453م ، وذلك يعني زوال الكثير من الوجود الغربيّ في المنطقة وانكفاء أوروبا على نفسها، لقد شيّد العثمانيون إمبراطوريّة واسعة شملت كلّ البقاع الواقعة تحت سلطة الإمارات والدول العربيّة المنقسمة، وتحوّلت إلى سلطة مركزيّة شموليّة ممثلة بالباب العالي في إستانبول، لا بل أكثر من ذلك، لقد سعت تلك القوّة الصّاعدة للتّوسع وفتح العديد من بقاع شرق أوروبا وصولا إلى النّمسا، كانت الكثير من المعاهد التبشيريّة (المدارس الشرعيّة) تقام في أوروبا من أجل نشر الدّين الإسلاميّ في تلك البقاع، لكن لم يستطع هؤلاء العثمانيون على مدار أكثر من 400 عام من وجودهم في اليونان مثلاً من أن يزيلوا الفارق الإثنيّ العرقيّ والدينيّ وأن يجسروا الهوّة مابين الثّقافة الغربيّة المسيحيّة في العصر الوسيط وما مابين الثّقافة الإسلاميّة.

لم يكن العثمانيين (الثّقافة واللّغة التركيّة) بقادرين على التّأثير حتّى في بنيّة اللّغة اليونانيّة مثلاً وفي البلاد الّتي حكموها. يشير ذلك إلى أنّه طوال تلك الفترة لم تكن الدولة الإسلاميّة بمفهومها السّياسيّ والعسكريّ بقادرة على احتضان الثّقافات المغايرة في أراضي بعيدة عنها، لسبب مهمّ باعتبار أنّها صاحبة رسالة إرث وعلى أنّها حامل لهذا التراث الأبويّ، فهي لا ترضى لأيّ إرث آخر منافس أو مشارك لها على أرض الواقع، إمّا أن تكون هي أو لا تكون. وتلك المقولة تبدو غريبة بالنّسبة للفكر السّائد على المستوى العام في نظرة المسلمين لأنفسهم. إنّ طبيعة التّنظيم الاجتماعيّ السّياسيّ في الدّولة الإسلاميّة تجعل من الشّريعة الإسلاميّة والسّلطان الّذي يمثّل بكلّ ما يلحق به الممثل الشّرعيّ والقانونيّ للشّريعة الإلهيّة، والّتي هي شموليّة وناجزة من حيث المبدأ. وبرغم التّاريخ الطّويل للدّولة الإسلاميّة فلم تستطع إنجاز صياغة مفهوم سياسي للدّولة بما يمثّله من مجالس منتخبة أو هيئات استشاريّة تعنى بالتّنظيم القانونيّ، لقد غابت تقريباً المدارس القانونيّة، وكما يشير النّاقد والمؤرّخ توبي أ. هاف في كتابه: (فجر العلم الحديث، الإسلام –الصين –الغرب، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العددان 219-220)، إذ لا نلحظ مدارس تعنى بتدريس القانون بقدر ما نلحظ مدارس فقهيّة مرتبطة بمؤسّسة الحكم السّياسيّ الشّرعيّ.

وكما ذكرنا فإنّ الرّضّة الّتي خلفتها معركة سقوط القسطنطينيّة في أيدي (الغزاة العثمانيين) والّذي جاء في الفترة الّتي تشهد فيها أوروبا تحوّلا فكريا وثقافيا على مستوى المؤسّسة الدينيّة وعلى مستوى الوعي العام، وابتداء من القرن العاشر الميلادي وما بعد تعيش الثّقافة الكنسيّة الباباويّة في ذهنيّة متناقضة بالنّسبة للمسلمين والشّرق، فهي تارة تحسده على نتاجه من خلال المبدعين والكشّافة والمفكّرين أمثال ابن سينا والبيروني وأولاد موسى بن شاكر وابن رشد، وفي نفس الوقت تريد أن تقول للعوام وللمؤمنين بأن سلطتها هي الأصلح والأقوم، وأنّ هؤلاء، أي (الثقافة العربيّة الإسلاميّة)  ليسوا إلّا مارقين على طبيعة الإيمان المسيحي القويم، لا بل أكثر من ذلك، لقد فهمت المؤسّسة الكنسيّة البابويّة أنّ الكنائس الشرقيّة أيضا بأنّها مارقة على هذا التّصور الإيماني القويم، لقد كان الجميع ينظر من زاويته إلى الآخرين على أنّهم مارقين ومخطئين، وكان كلّ طرف سواءً في الشّرق بمؤسّساته الدينيّة أو في الغرب، وحتّى ضمن الدّوائر العلميّة والفكريّة، كلُّ كان يعتبر نفسه المحور وأنّ الآخرين هم من يجب أن يدورون في فلكه. وبالتّالي تعزّزت وتعضّدت النّظرة الشرقيّة لهذا الأب التراثيّ الحامي كرد فعل دفاعي من جهة (الأنا) وفق آليّة الإعلاء النرجسيّ، لقد خلّفت علاقة العداء والصّدام والفتوحات العسكريّة والماسي الكبيرة الّتي عاشتها المنطقة في تلك الآونة مقدار كبيرا من النرجسيّة والعداء بالنسبة للآخر. لقد كانت هذه (الأنا العربيّة المسلمة) تدافع عن وجودها الحضاري بمضمونها الفكريّ والنفسيّ والاجتماعيّ بحالة من التّفوق النرجسيّ غير الواقعيّ وغير العمليّ، فمثلا تمّ حصر واختزال العلم أو البحث العلمي إلى العلوم الشرعيّة والفقهيّة. لقد سادت في البلاد العربيّة المدارس الفقهيّة الّتي كان يقصدها الدّارسون أو الباحثون،  وكانت كلّ مدرسة فقهيّة تجيز من يتعلّم لديها للعمل والإفتاء أي تصحيح الأخطاء  في النّسق الاجتماعيّ، ولم يتوضّح حتّى في أزهى فترات الحضارة العربيّة الإسلاميّة، أنّه يجب أن تكون دار العبادة منفصلة عن دار العلم، فنحن نجد مثلا أن جامعة بولونيا في إيطاليا تمّ تأسّست في العام 1088م وكانت تدرس العلوم والفلسفات اللاتينيّة إضافة إلى اللاّهوت والدّارسات التاريخيّة، لاحقا تمّ تأسيس جامعتي كامبريدج وأكسفورد 1067و 1129م ثمّ جامعات فرنسيّة كجامعة بواتييه والسوربون وسواها.

في الوقت الّذي كان فيه الوعي في أوروبا يخوض صراعا مابين الثّقافة الكنسيّة الروحيّة والانجازات الفكريّة والعلميّة في شتّى الميادين، كانت تبرز شيئا فشيئا في أوروبا حقيقة فصل الدّين عن أمور الدّولة والمجتمع بالرّغم من أنّه تمّ تأسيس محاكم التّفتيش الأسبانيّة في العام 1478م  ابتداءً منذ عهد فرناندو الثاني وَإيزابيلا الأولى وذلك بموافقة ومباركة البابا سيكستوس الرّابع. إلاّ أنّها قد بدأت (محاكم التّفتيش) على يد البابا إنوسنت الثّالث في العام 1203م في ايطاليا، ولقد تمّ إعداد قوائم بالكتب والمنشورات الممنوعة، وتمّ في البداية ملاحقة كلّ شخص يعارض صلاحيات البابا الكهنوتيّة، وفي كلّ وقت كانت تزداد وطأة حضور البابا في الحياة اليوميّة والدينيّة، كانت تتقلص مساحة الحريّات العامّة، لقد تمّت ملاحقة أتباع مارتن لوثر في ألمانيا مثلاً، وفي ما بعد أيضاً ملاحقة العلماء والمفكّرين على أنّهم “المهرطقين، والمشعوذين”، وهم في واقع الحال مجموعة كبيرة من الفلاسفة والعلماء من مذاهب شتّى يمكن أن نذكر في هذا الصّدد المحاكمة الشّهيرة لـ جيوردانو برونو الّذي حكم عليه بالهرطقة والعشوذة وتمّ تنفيذ حكم الإعدام فيه بالحرق في إيطاليا في العام 1600م مع أنّ برونو مفكر ورياضي وفيلسوف لاهوتي. والملاحقة الشهيرة لكتب كوبرنيكوس القائلة بمركزيّة الشّمس ومحاكمة جاليليو جاليلي.

إنّ الذّات العربيّة المسلمة لم تنجز مشروعها الحضاري المعاصر، لأنّها لم تنجز بعد نقدها  التّحليلي على المستوى الذّاتي، لا يمكن البدء بيوم جديد ومستقبل جديد من دون هضم وقتل اليوم السّابق، بما فيه الأب التراثي. يجب أن يقتل هذا الأب التراثي فهما ونقدا وتحليلا، لا أن يقتل إقصاء أو نسيانا، بمعنى أنّه لا يمكن سنّ واقع جديد وأخلاق جديدة إلاّ من خلال نقد واقع زال وأخلاق تراثيّة ماضويّة. إنّ الذهنيّة التراثيّة العربيّة ذات حضور بنيوي في هذه الذّات وفاعلة، ولا يمكن بحال من الأحوال الوصول إلى تناقضاتها الداخليّة، إلاّ من خلال وضع كلّ هذا النّتاج التراثي على طاولة البحث والنقد، لقد نجحت التّجارب الّتي خاضها المغامرون والأحرار والفلاسفة والمفكّرون من عند جيوردانو برونو مرورا بديكارت ومنهج الشك ووصولاً إلى الفلسفة الكلاسيكيّة الألمانيّة، والانجازات والابتكارات العلميّة في الجزر البريطانيّة إضافة إلى الكشوف الجغرافيّة في إيجاد صورة مختلفة عن العالم عن الصّورة الّتي رسمتها الكنيسة الباباويّة طوال فترة قرون من الزّمن. لقد انتصرت النّظرة العلميّة في أوروبا وابتداء مع الثّورة الصناعيّة والجمعيات الملكيّة الّتي تمّ تأسيسها في بريطانيا في ما بعد، وحتّى الفلسفة الألمانيّة، جميعها قد تأثرت بالنّزعة التجريبيّة الانجليزيّة من خلال الأعمال الّتي قدّمها جون لوك وديفيد هيوم مطلع القرن الثّامن عشر وغيرهما.
-العرب بين الصّورة الرومانتيكيّة والإنكار النّرجسي:

تجدر الإشارة بأنّ معظم الدّراسات الانثروبولوجيّة تنظر إلى تلك المجتمعات في الشّرق أو في شمال إفريقيا على اعتبار أنّها مجتمعات بدائيّة ومحليّة وأقلّ أو أدنى في الإنسانيّة، ويحتاجون إلى التّحضر والوسائل الّتي تمكّنهم من العيش والبقاء، بل حتّى إلى المفهوم الرّوحي والديني، ولم ينظر إلى تلك المجتمعات نظرة موضوعيّة وعلميّة بقدر ما نظر إليها نظرة ديماغوجيّة وغير إنسانيّة. وبالتّالي تولّد نوع من الخصام على المشهد الفكريّ والاجتماعيّ مابين الشرق والغرب، إذ لم تكن العلاقة وديّة في تلك الفترة بين الشّرق والغرب، لا بل شملت الكثير من الحملات العسكريّة والتوسعيّة بالنّسبة للغرب في بقاع عديدة من العالم الإسلاميّ والعربيّ حتّى الهند. لقد كانت نظرة الإنسان الأوروبي المنتج للحضارة والقادر على خلق واقع جديد هي الّتي تعمي أصحاب القرار والسّياسة في أوروبا  عن هويّة المجتمعات الّتي يريدون الوصول إليها والحصول على خيراتها.

يمكن أن نستنتج بأنّ طبيعة النّظرة للشّرق من الغرب ومن الغرب للشّرق لم تكن موضوعيّة وواقعيّة، بمعنى أنّها تأثّرت (النّظرة الغربيّة) كثيرا بالانطباع الرومانسيّ المغالي والّذي تسوده الألغاز والخرافة، وقدر لابأس به من الصّورة الفنيّة الرومانتيكيّة، ويتمثّل ذلك في نتاجات رسّامين أو مصوّرين عن الشّرق كمثل يوجين دولاكروا Eugene Delacroix  1798-1863 الفرنسي الّذي رسم العديد من اللّوحات عن الشّرق ومجتمعه وهو لم يزر الشّرق. لا بل استند في تصوّره الفنّي على مرويات من الرّحالة والمغامرين وصائدي الكنوز.

إنّ هذه الصّورة الرومانتيكيّة عن المشرق العربي الّتي سادت في الدّوائر والصّالونات الأدبيّة في أوروبا خلال القرن التّاسع عشر، وفي الوقت الّذي كانت فيه دول مثل فرنسا والبرتغال وانكلترا تسعى إلى بسط نفوذها في الشّرق وإلى اقتسام تركة الدولة العثمانيّة وبالاتّفاق أيضاً مع روسيا القيصريّة، كانت تنضج في وسط أوروبا الأفكار الليبراليّة في الممارسة السياسيّة والحياة الاجتماعيّة حيث برزت نتيجة خسارة ألمانيا في الحرب العالميّة الأولى، لكنّ روح الفرادة الألمانيّة تعضدت كرد فعل على الهزيمة الحاصلة بعد انهيار الكيان السّياسي الجرماني، ومن جهة أخرى برزت النازيّة ممثلة في الجناح اليميني للحزب الاشتراكي الديمقراطي، وفي ذات العصر أطاحت قوى الثّورة البلشفيّة بنظام الحكم القيصري بثورة 1917م حيث اشتركت تقريباً كل من روسيا بالرّغم من الطّابع اليساريّ للثّورة البلشفيّة مع كلّ من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وأيضاً ألمانيا في الرّغبة بتأسيس الإمبرياليّة  وأن تكون كلّ واحدة من هذه الدّول محور هذه الإمبرياليّة الجديدة، بما تتضمّنه من قيم سياسيّة مركزيّة وفي نظرة إلى حد مّا متشابهة بالنسبة للآخر أو إلى الشّرق، أي الغرب المتفوّق في مقابل الشّرق المتخلف. لقد أصبح واضحاً هذا الفارق في بواكير القرن العشرين، لكنّ الأكثر جنوحاً وتطرفاً في هذه النّظرة تمثّل بالأنظمة الفاشيّة في كلّ من إيطاليا وألمانيا. ولن نخوض هنا في طبيعة الصّراع الدّولي في النّصف الأوّل من القرن العشرين، بقدر ما يهمّنا إشكاليات الوعي الثّقافي الجمعي في النّظرة إلى المشرق العربي. حيث أنّ الّذي دفع إلى أقصى حدود الطّابع الإمبريالي هو انتصار الولايات المتّحدة في الحرب العالميّة الثّانية على اليابان بعد كارثتي هيروشيما وناكازاكي، وما تلاه من انهيار الفاشيّة في أوروبا ممثلة بإيطاليا وبألمانيا، وبالرّغم من انتصار القوى الأوروبيّة في كلّ من بريطانيا وفرنسا وأيضا روسيا في الحرب العالميّة الثّانية 1945م، إلّا أنّ حجم الكارثة النوويّة في اليابان كان يلقي بظلاله على أوروبا الجريحة والمنهكة، في ذات الوقت لم تستطع الدّول الأوروبيّة من توسيع نفوذها في البلدان العربيّة بعدما فقدت القدرة والدّافعيّة الاجتماعيّة والسياسيّة في البقاء بالمشرق العربي، لقد أخليت السّاحة السياسيّة في البلاد العربيّة للقوى الوطنيّة والمذاهب الثوريّة حتّى تقود الجماهير وتنشأ الدولة، وليس أوضح وأهمّ من فكرة الدّولة المركزيّة ذات المركزيّة الشموليّة في سبيل التّصدي وحفظ الذّات. وفق هذه المتواليّة فإنّ هذا الأب التراثي الّذي باتت نرجسيته مجروحة وفق أحداث ومجريات تاريخيّة متعدّدة حيث كان آخرها الحروب الخاسرة مع العدوّ إسرائيل لأعوام 1948 و 1967، فكيف إذا كان هذا العدوّ لم يستأهل من العرب حتّى الاعتراف بوجوده، بل اكتفى بنفيه وإنكاره دون أي مقوّمات موضوعيّة لهذا النّفي النّفسي. هذه الرؤية يلمح إليها ويحلّلها جورج طرابيشي في كتابه الموسوم (المثقّفون العرب والتراث، التّحليل النّفسي لعصاب جماعي) على نحو مسهب ويخلص إلى هذه النّوع من الاستنتاجات، وبهذا المعنى فإنّ قناع الايدولوجيا للأقطار العربيّة يؤدّي ذات الدّور والوظائف بالنّسبة للأنا أو (الذّات العربيّة) في الحاضر المعاصر. إذ لا يستطيع الأب التراثي أن يبيّن عن نفسه وأن يكشف هزائمه وخذلانه أمام الذّات، وبدورها فإنّ الأنا أو (الذّات) تنكر وتنفي واقعها المأزوم والمهزومة أمامه بنوع من التّبريرات الهشّة والمتناقضة، لكنّنا نعتقد أنّ آليّة الإنكار والنّفي النّفسي قد مرّت بأكثر من مرحلة في الزّمن المعاصر، ففي البداية يأتي النّفي والتّجاهل بالقفز فوق المعوّقات الموضوعيّة من خلال حلم يوتوبي (خيالي) وهذا ما تجسد بالحلم الثّوري للدولة الوطنيّة في مراحلها المبكرة، فالحلم اليوتوبي هو من يزوّد الأنا بالطّاقة والاندفاعات الغرائزيّة، وهذا واضح ومشاهد في الكثير من أنواع الخطاب السّياسيّ والثقافيّ في تلك المرحلة. لكن عندما يرتطم هذا الحلم اليوتوبي بالثّورة والتّحرر أمام المعوّقات الموضوعيّة، وعندما تنجرح نرجسيّة الأنا ويتهافت الحلم أمام الحقيقة الواقعيّة، تصبح الذّات في مواجهة العالم. وهي في  تلك المرحلة لن تستسلم بل ستواصل تغييب الواقع المرّ من خلال الإنكار هذه المرّة، نعم هي قد جُرحت وقد انهزمت لكنّها تنكر ذلك، وفي هذه الحالة فلا سبيل لها إلّا أن يبرز هذا الأب التراثي عن نفسه بكلّ فجاجته وواقعيته النّفسيّة، لقد حوصرت الأنا في دائرتها الأدقّ وفي مركزيّة وجودها. ولاغرو في هذه الحالة أن يواجه عدوان وسيطرة ودوغمائيّة القطب الواحد (نقصد الفترة الّتي تلت تقوّض الاتّحاد السوفيتي وبروز قطبيّة عالميّة واحدة إمبرياليّة متمثّلة بالولايات المتّحدة الأمريكيّة) بعدوان مماثل، وسيغدو الخطاب في المشهد الاجتماعيّ والثّقافيّ السّياسيّ خطاباً للكراهيّة والنّبذ وستتعمّق الهوّة الحضاريّة والمعرفيّة بين الشّرق العربيّ والغرب.

–رؤى مستقبليّة:

في خضم قوى العولمة الطّاغية والسّاحقة للكثير من الخصوصيات الثّقافيّة فلا مجال للتّباينات والتّمايزات الدينيّة والثقافيّة، فقد غدت العوالم عالماً واحداً ولوناً واستهلاكاً موحّداً. وفي هذه المرحلة من الصّراع العالميّ على موارد الطّاقة تصبح الخصوصيات الثقافيّة أداة فعّالة في زرع الشّقاق والانقسامات الاجتماعيّة ما يهدّد النّسيج الاجتماعي لمجتمع مّا. إنّ الهويّة الفاعلة والمنتجة لوسائل الحضارة هي الّتي تسود على غيرها من الهويات، لا بل تطبّع بنموذجها مجتمعات أخرى، ولا يمكن الدّخول عبر بوابة الشّعوب التراثيّة كالمجتمعات العربيّة إلاّ عبر تعزيز الحريّات وإنشاء تنظيمات إداريّة ومجتمعيّة تعنى بحقوق الإنسان، بحيث تعيد هيكلة الدّولة وفق معايير الأداء والإدارة الفاعلة، وهنا يأتي دور الذّراع الحامل للتنميّة المجتمعيّة المتمثّل بدور المؤسّسات التربويّة والتعليميّة، فلا مجال للدّخول في ركب الأمم إلّا عبر ترسيخ النّهج العلمي في كلّ شيء، وبقدر ما يمتلك العرب من الكوادر العلميّة المحترفة في مؤسّسات بحثيّة عريقة وحرّة، وأن تحظى بالأولويّة التّامّة من التّنظيم الإداري الفاعل والمنتج، سوف يصبحون قادرين على تغيير النّسق الاجتماعيّ من حالة الاستهلاك التّامّ إلى طور الإنتاج والإبداع.  إنّ القيم الاجتماعيّة والإنسانيّة لا تتجزأ، فهي إمّا أن تأتي كلاً متّسقاً ضمن الوحدة الاجتماعيّة، وإمّا فلا، حيث لا يمكن الادعاء أبداً بأنّ المجتمع العربي يقدّس المرأة ويعطيها حقّها من التّعليم والعمل، وهو بذات الوقت يسحق الحريّات الفرديّة والمبدعين تحت مظلّة التربية الدينيّة أو الإيديولوجيا السّياسيّة، أو حتّى ضمن النّظم التربويّة الاجتماعيّة. إنّ الصّورة الّتي يتمّ تقديمها للوعي العامّ في أوروبا عن المسلمين والأقطار العربيّة من خلال الإعلام فيها كثير من الاختزال والتعميّة والسّطحيّة نتيجة عوامل تاريخيّة عديدة ذكرناها إضافة إلى عوامل حضاريّة  سيكولوجيّة وثقافيّة متنوّعة بين الشّرق والغرب. إن ّالمعني بالدّرجة الأولى في توضيح وإزالة الالتباس في الكثير من القضايا المعاصرة بين الثّقافات المختلفة هو المؤسّسات الثّقافيّة والبحثيّة على ضفتي العالم في الشّرق وفي الغرب أيضاً، وذلك لا يتمّ إلّا بالانفتاح التّامّ عبر الدّراسات النّقديّة والبحثيّة، ونحن هنا نعني تعميق ثقافة التّحاور والجدل أيضاً، لا يمكن استجلاء الحقيقة أو مقاربتها إلّا من خلال الجدل والتّفنيد. يمكن الإشارة إلى أهميّة الدّراسات الاجتماعيّة الميدانيّة دون إغفال ارتباطاتها الثّقافيّة والنّفسيّة في النّسق الاجتماعيّ المعني بالدراسة. وبذلك شيئاً فشيئاً فعندما يتفتّح الوعي في المجتمعات النّامية فإنّها ستصبح أكثر سلميّة وإدراكاً لأهميّة دورها في سلم التّحضر وستجلو الكثير من الحقائق المغيبة عن فضاء الوعي العامّ.