حركة خارج السرب | في مدح النّسيان
في مدح النّسيان
2019-06-26 | 1807 مشاهدة
أحمد العطار
مقالات

” لولا نعمة النّسيان، لما بدأنا حياة جديدة في كلّ يوم” –  فولتير

“في الزّمان دواء عظيم اسمه النّسيان” – جمال الغيطاني

بين النّسيان و الذّاكرة صراع محتدم لا يكاد ينتهي.

– الذّاكرة: ضدّ سيولة الزّمان، ضدّ انمحاء الحدث، ضدّ الواقعة في صيرورتها، ضدّ الفكرة وهي تتوارى              وتحتجب. ضدّ العلاقة وهي تتبدّد وتختفي…

– النّسيان: محو الذّكرى والأثر، تجاوزه، ابتلاعه، نفيه، وترحيله إلى صحراء التّيه.

–  جاء في الحديث الّذي أخرجه الترمذي: “ونسي آدم فنسيت ذريته”، ومن ثمّ “فالإنسان أخو النّسيان”.

– لولا النّسيان، لما كان للحياة طعم، وللكائن الإنسانيّ بقاء. لهذا اعتبره “غوسدورف”: “شرطا لاستمرار الوجود”.

– الكتابة ذاتها فعل ضدّ النّسيان. لهذا كتب الإنسان القديم على أحجار الكهوف والبرديات والورق. كشكل من أشكال الحرب على النّسيان.

ما يكتب يستعاد في الزّمان والمكان، كذاكرة خارجيّة، يتمّ تخليده وتحنيطه كمومياء فرعونيّة. يخفّف عن الذّاكرة الداخليّة حمولتها، مثل جمل مثقل راكم ما راكمه من تقلّبات الحال و لأحوال والأثقال. فما  يلبث يتخفّف حتّى يستزيد حملا آخر على طريقه الرمليّ الكثيف.

لكنّ النّسيان يقاوم بدوره كلّ حيلة أو خدعة أو مهارة، ابتكرها البشر، ليلتفّ بدوره على كلّ شيء. يتجلّى كقوّة مدمّرة، كقنبلة نوويّة تحاول سحق ومحق كلّ أثر وذكرى بفعل عوادي الزّمن وسيولته. ولهذا عاشت مجتمعات بلا كتابة، ولهذا أيضا كان التّاريخ الأحمر الدموي، تاريخ الأمم والملوك، يصرّ على أن يجرف معه من بين ما يجرفه في جبروته وشوكته، مكتبات كاملة، حتّى أضحت الوديان مدادا وبطون الكتب دخانا. إنّه يتقصّد ذاكرة العدوّ بالمحو، إنّه انتصار أنثروبولوجي للنّسيان.

– كتابة التّاريخ أو التّأريخ له، موجّه ضدّ النّسيان. ما حدث يبقى محفورا فيما قاله المؤرّخ. لكن أليس المؤرّخ أحيانا، يده الّتي في الوقائع في يد السّلطان.

– حتّى التّحليل النفسي مع فرويد يعمد الماضي ويؤصّل ذكرياته ويخزنه في جعبة اللاّوعي، حتّى إذا ما خلناه انطمر مع الزّمن عاد ليتسامى إلى سطح الوعي في أشكال متعدّدة: نمط شخصيّة، إستيهامات، حالات مرضيّة، أو إبداع. فلا مجال للنّسيان هنا، الكلّ محفوظ في ثلاجة اللاّشعور. لكن أليس هناك من اعتبر أنّ النظريّة الفرويديّة مجرّد شخصيّة أسطوريّة ومعطى تخيلي وهمي، بل أكثر من ذلك هي فنّ لإبداع الحيوان المخيف داخل كلّ واحد منا (إميل شارتيي/ آلان). أو ليس العقل صنم الإنسان العتيد أو ليس الوعي قدّاس الأقداس.

– النّسيان لعبة لإتقان صيرورة الوجود كفعل بشري، “هيدجر”  الفيلسوف الّذي فتح النّار على اليونان، كونهم نسوا “نداء الوجود” حين انشغلوا بموضوعات الأرض والموجود. ما لم يلمحه “فيلسوف الغابة السّوداء” أن الأشجار نفسها تنسى وريقاتها المتساقطة وفروعها المتكسّرة كي تبقى شامخة، وتبعث الحياة في وريقات غضّة ويانعة. إنّها صيرورة الوجود والعدم، العدم والوجود … عين الوجود والموجود النّسيان.

– دون نسيان يكون “الكائن – هنا” أسيرا لحلقة الماضي، الماضي الّذي ما يفتأ يكرّر نفسه في الحاضر دون انعتاق من ربقته، وهذا هو دور التراث ومكر ومقاومة الحداثة.

–  النّسيان وحده يكفل إغفال الأحقاد والآلام والعذاب والفقد، إنّه الطّريق الملكي للصّداقة والصّحة               والحياة. ولهذا سيعتبره نيتشه:

” تعبيرا عن الصّحة الجيّدة، فالشخصيّة الحقيقيّة تمسح الطّاولة لتفسح المجال لوجبة جديدة “. وكما قال صاحب” مدن الملح”  مرّة: ” لولا النّسيان لمات الإنسان لكثرة ما يعرف، لمات من تخمة الهموم والعذاب والأفكار الّتي تجول في رأسه”.

–  الموت كغياب لما كان حاضرا، كانسحاب من الوجود، يبقى رهين فعل النّسيان. لتدور الدّوائر من جديد و تضخّ دورة الدّم في قلب الكون، أن نصادق الحياة معناه أن ننسى الموت.

– الصّمت نفسه نسيان للكلام في لحظة ذهبية لصفاء الذّهن، ولاسترجاع فعل القول المنفلت من عقال ما تمّ قوله سلفا. التّكرار هنا ما بين كلام وصمت، صمت وكلام.  شرط أيضا للتّخفيف عن ذاكرة لغويّة مضمخة بما قاله الماضي فينا وما قلناه فيه. إنّه نوع من الخلاص من ثقل اللّغة وانتصار لسكينة الصّمت.

–  سقراط سيرهن النّسيان بالجهل والمعرفة بالتّذكر، سينتصر لاستذكار واسترجاع حقائق العالم العلويّ،         ولتوليدها عبر السّؤال. أوليس السّؤال نفسه من صميم فعل النّسيان، أن نسأل دوما مغزاه أن ننسى دوما.

– ” الإيديولوجيا” نفسها كما انتبه إلى ذلك “بول ريكور” تعمل في وظيفتها الإدماجيّة، إلى استدعاء الماضي عبر استحضار للذّاكرة الرمزيّة الجماعيّة. فالاحتفالات والطّقوس والأعياد والرّموز تلعب دورا ضدّ نسيان الهويّة المؤسّسة للجماعة، إنّها فعل مخادع للسّلطة ضدّ النّسيان. غير أنّ الهويّة نفسها تجدّد جلدها كالأفعى، عبر إفراغ للموروث من حمولته السلطويّة، وقطيعة مع التّقاليد، وشحن جديد يخضع لمنطق التّجديد عبر الأجيال. جلّ ما يتذكّر كتقليد يتجاوز عبر رياح التّحديث الدّائم.

– هذا شأن “الأسطورة ” الّتي يقول عنها “ريكور”: أنّها ترتبط ارتباطا وثيقا بالتراث بوصفه استذكارا وتحويلا وإعادة تأويل للماضي…. فمن غير الأسطورة تحرم الثّقافة من ذاكرتها. ومن ثمّ فهي تسكن الماضي وتبتلع الحاضر وعينها على المستقبل. غير أنّ “اللّوغوس الفلسفي” كان مواجهة للأسطورة وتشويش لذاكرتها، وانتصار للإنسان النّاسي لسطوة الآلهة وقداستها. إنّه نحت لفجاج عميقة في جبل الأولمب.

– و لعلّ الكذب كتبرير للفعل، للسّلطة، للسّياسة، للكلام، موجّه لنسيان الحقيقة. لكنّه في آخر المطاف لا يخلق إلّا أوهاما، أو في أحسن الأحوال ذاكرة ليوتوبيا مستقبليّة تفتقد شروط تحققها، تبقى الحقيقة حقيقة على الدّوام، مادام حبل الكذب قصير.

–  النّسيان شكل من أشكال الحريّة، كما يقول “جبران خليل جبران”. تبقى الحريّة موجّهة ضدّ كلّ أشكال الإستعباد والاستغلال والقيود والموانع، ألم يكن شعار” نلسون مانديلا” من أجل التّحرر: “إنس الماضي”.

– من بين تحديدات “الثّقافة” هي كونها: “ما يبقى بعد أن يتمّ نسيان كلّ شيء”، ليست للثّقافة هنا كرصيد معرفي ذاكرة فولاذيّة، إنّها بقايا ما تمّ نسيانه، مالم يستطع النهّر على إغراقه في مجراه. نتثاقف به، نفكّر به، ونتقاسمه بيننا. ولهذا السّبب ربّما ما نقرأه بحبّ يصعب أن يصدأ بالنّسيان، وإن كثيرا ما ننسى الحبّ نفسه عند أول مفترق طريق. كما ننسى كثيرا ممّا قرأناه كي نعيش بسلام كإنسان.

– كثير من “الشّعراء” لا يعترفون بالنّسيان، الفراق بين عشيقين مثلا، ليس سببا كافيا لنسيان الحبيب. بكاء على الأطلال أو استذكار لقبلة عابرة أو لمحة خاطفة أو كلمات دافقة، شلالات دموع ومئات القصائد في ذكر المحبوب. وفي الأخير أليس بعض الشّعر هروب من قبضة الواقع إلى أضغاث الأحلام؟

– في المثل الفرنسيّ:” خير لك أن تؤجّل من أن تنسى”، في المثل العربيّ:” لا تؤجّل عمل اليوم إلى الغد”، في المثل الاسبانيّ:” فنّ النّسيان سعادة”. ما بين تفضيل التّأجيل، وذمّ النّسيان أو قرنه بالسّعادة، يكمن تنوع ثقافيّ هائل وشرخ هويّاتي صادم.

وأخيرا… لعلّ في النّسيان ترياق يلثم عوالق الحياة، لعلّ ذاكرة كذاكرة السّمك هي كلّ ما نحتاج …