حركة خارج السرب | الوجودية في الفكر العربي.. قراءة في وجودية عبدالرحمن بدوي
الوجودية في الفكر العربي.. قراءة في وجودية عبدالرحمن بدوي
2019-05-29 | 3062 مشاهدة
د. علي المرهج
مقالات

الوجودية فلسفة إنسانية، ظهرت كردة فعل على التيارات المادية التي ظهرت في الفكر الغربي والتي تعاملت مع الإنسان بوصفه آلة، وسيلة أو غرضا، مهمتها الوصول إلى المعلومات عن طريق البحث العلمي، مستبعدة الجانب الجواني فيه، من روح ومشاعر ووجدان والعواطف وكل المكنونات الداخلية التي تختلج بها النفس الإنسانية. لذلك ظهرت الفلسفة الوجودية لتعطي لكل خلجات الانسان مكانها من الوجود الإنساني، بل وتعاملت مع هذه المكنونات بوصفها أس الوجود الفردي الإنساني.

كانت مهمة الفلسفة الوجودية تتحدد بمعرفة الوجود الفردي الإنساني، فكل إنسان له وجوده المتفرد الخاص وعلى هذا الإنسان الإنطلاق من مقولة أساسية في الفلسفة الوجودية هي أن "الوجود سابق على الماهية"، فأنا موجود ثم أخلق صفاتي وأعمالي.

تتعامل الوجودية مع الإنسان "بوصفه موجوداً لا بوصفه ذاتاً مفكرة" (ماكوري:ص13) كما تعامل معه (ديكارت)، ولكي أكون كذلك وجب أن أكون حرا، فأنا مُجبر على أن أكون حراً، والحرية تستدعي "حرية الإرادة"، فالإنسان الحر يفعل ما يُريد، وبكونه قادر على فعل ما يريد، فعليه أن يكون مسؤولاً عن أفعاله، فحرية الإرادة مرتبطة بـ "المسؤولية". من هنا يبدأ "القلق" فالحرية تستتبعها المسؤولية التي تستدعي القلق، فمعنى أنني حر والحرية تعني الإختيار والإختيار، فذلك يعني أنني مسؤول عن إختياري، وإختياري يعني أنني أرشد الآخرين للسير وفقاً له ووضعه إنموذجاً يُحتذى، ولربما سيكون إختياري هذا خط سير للآخرين، ومنها سيكون القلق أكبر لأن المسؤولية سوف لا تكون مسؤولية لإختيار فردي لتحقيق ذاتي فقط، بل يمكن أن يكون إختياراً للآخرين ممن لا يبحثون عن تفرد الذات. هذا الأمر جعل الإنسان الوجودي يميل للتشاؤم والقلق الذي نظر إليه الوجوديون خاصة كيركيجارد "على أنه مفتاح أساسي لفهم الوجود البشري" (ماكوري:ص240) تكوين الإنسان من جسد وروح يبعث على التوتر وهذا التوتر هو القلق بعينه. والإنتقال الوجودي من البراءة إلى الخطيئة بعد نزول آدم يمثل فقدانا للإتزان يُثير الإضطراب ويبعث على القلق. وسعي الإنسان إلى الحرية "الحرية بطبيعتها حُبلى بالإمكان، وما يعرفه المرء ويخبره بوصفه القلق هو تحرك الإمكان في "أحشاء" الحرية".(ماكوري:ص241) القلق بعبارة هيدجر "يجعل الإنسان Dasein وجها لوجه أمام وجوده الحر من أجل أصالة وجوده" (ماكوري:ص244) أو "الوجود الأصيل".

الوجودية بحسب قول سارتر: "نظرية تجعل الحياة الإنسانية ممكنة"1(1).

تلتقي الوجودية مع التجريبة في رفض الأخيرة العقلانية النظرية المؤمنة بالمعرفة القبَلية. لكن الوجودية تختلف عن التجريبية حينما يتجه الوجودي للتجربة البطنية الذاتية الداخلية باحثا عن معطيات هذه التجربة، في حين نجد التجريبي يتجه إلى التجربة الخارجية. الوجوديون يؤمنون بالمعرفة عن طريق المشاركة، أما التجريبيون فيؤمنون بالمعرفة عن طريق الملاحظة.

تلتقي الوجودية مع المثالية في أنهما يؤسسان فلسفتيهما على الذات البشرية أكثر من الموضوع. ويختلفان في أن المثالي يبدأ من الإنسان بوصفه ذاتا مفكرة، في الوقت الذي يبدأ فيه الوجودي من وجود الإنسان الشامل في قلب العالم. الفيلسوف المثالي يبدأ من الأفكار فيما الفيلسوف الوجودي يبدأ من الفعل. (ماكوري:ص30ـ36) 

أقسام الفلسفة الوجودية:

الوجودية المؤمنة: ويمثلها الوجوديون المسيحيون، أمثال كيركيجارد و كارل ياسبرز وجبريل مارسيل.

الوجودية الملحدة: وأهمهم هايدجر وسارتر وكامو وسيمون دي بوفوار.

هاتان الفلسفتان تتفقان على صعيد واحد هو أن "الوجود يسبق الجوهر"(2)

مبادئ الفلسفة الوجودية

1ـ الذاتية: اي الانسان لابد ان يحقق ذاته، ويحقق ذاته حينما يوجد وبعد ان يوجد ويكون، ممتلكاً الوعي بهذه الكينونة، وهذا ليس بالرغبة بل بالسعي الى تحقيق هذا الهدف فقد أرغب أن أحقق شيء ولكن ليس لدي الارادة في السعي الى تحقيق ذلك الشيء. "الإنسان على حد قول سارتر: "هو خالق لنفسه لأنه هو وحده متصور لها"(سارتر:ص30)، "أن نعي أنفسنا بأنفسنا وبدون أية واسطة كانت.(سارتر:ص65). هذا ما يسميه سارتر بـ "الذاتية" "فالإنسان هو ما شرع في أن يكون، لا ما أراد أن يكون"ص31. الذاتية ليست تفردا من أجل رفض الآخر، لأن "التعديل الذاتي ليس إلا تأثرا بالغير وتقربا منه"(سارتر:ص33). "إن كينونة الوجود البشري ـ حسب تعبير هيدجر ـ هي السبيل المشروع لفهم حقيقة الوجود العام... (فنحن) لا نفهم الوجود إلا عن طريق وجودنا أو في صميم كينونتنا ...الإنسان هو ذلك الكائن الذي ينكشف الوجود من خلاله"(3). فلا انفصال بين الإنسان والكون، فالذات مرتبطة إرتباطا جوهريا بحقيقة خارجية هي العالم، وهذا ما سماه هيدجر "الوجود في العالم" ومثله "الوجود مع الآخرين"، فالذات "إنما هي تجد نفسها أيضا في عالم الآخر الذي لا بد لها من أن تتعامل معه وتعيش إلى جواره"(4).

"أنا أفكر فأنا موجود" لا تجعل الإنسان الوجودي يعي نفسه كما ذهب إلى ذلك "ديكارت" ولكنها تجعلني كإنسان وجودي كما يقول سارتر:"أعي نفسي مواجها الآخرين، وتجعل الآخرين شرطا لوجودي، ووعيي لهم لا يقل قوة عن وعيي لنفسي" "وجود الآخر شرط لوجودي وشرط لمعرفتي لنفسي وعلى ذلك يصبح اكتشافي لدواخلي اكتشافا للآخر كحرية تعمل إما إلى جانبي أو ضدي(سارتر:ص66ـ67). "الذات عند الإنسان الوجودي هي الموجود في نطاق تواجده الكامل، فهذا الموجود ليس ذاتا مفكرة فحسب وإنما هو الذات التي تأخذ المبادرة في الفعل وتكون مركزا للشعور والوجدان"(ماكوري:ص12).

2ـ الإرادة: أي إنني أٌريد أن أكون، وأسعى لتحقيق ما أريد، وبناءً عليه فأنا مسؤول عما أريد وما أُحققه.

3ـ المسؤولية: أي أن يكون الانسان مسؤولا عما يتخذه من قرارات وأفعال، وهذا لايعني بأن الانسان مسؤول عن نفسه فقط، بل هو مسؤول كذلك عن كل الناس، فكلمة ذاتية تعني انك حينما تريد لذاتك شيء ما فأنك تدعو الناس لأن تريد مثلما تريد وهذا ما تعنيه الوجودية بالذاتية التي تقتضي المسؤولية. "فأول ما تسعى إليه الوجودية هي أن تضع الإنسان بوجه حقيقته، وأن تُحمله المسؤولية الكاملة لوجوده"(سارتر:ص32).

"عندما نقول أن الإنسان يختار نفسه بنفسه نعني بالتالي أن الإنسان الذي يختار نفسه إنما يختار تبعا لذلك جميع البشر"(سارتر:ص32).

فاختيار شيء ما هو تأكيد وإعلاء لقيمة هذا الشيء. وهذا الاختيار معناه دعوة للناس لهذا الإختيار. وحينما يكون هناك إختيار وهذا الاختيار ينبع من المسؤولية التي على الفرد ان يمتلكها، فان هذه المسؤلية التي هي عن نفسه وعن الآخرين تقتضي القلق.

4ـ القلق: الانسان في الفلسفة الوجودية يحيا في "كآبة" ويكابد القلق، وذلك لأن الانسان عندما يلزم نفسه تجاه شيء ما ويدرك في الوقت نفسه أن اختياره سوف لا يُكون وجوده لوحده، وانه لايختار لنفسه، بل يختار له وللانسانية كلها. عندها تكون المسؤولية يرافقها القلق الذي هو توتر بين مقولتين مختلفتين لذة ـ وألم، حب ـ كراهية. القلق بتعبير هيدجر "هو الذي يرد الكائن الحر إل إمكانية وجوده...فالقلق تجربة وجودية تكشف للذات عن حقيقة وجوده في العالم"(5).

5ـ الإختيار والحرية: الانسان حينما يختار يمارس حريته، ولكنه قبل ان يختار يجد نفسه حيال ممكنات لانهائية، لكنه عندما يختار ينبذ هذه الممكنات إلَا واحداً، فالاختيار نبذ وعدم الاختيار نقصان، وهو توتر بين الممكن والواقع، والذات وهي تختار تخاطر وتمارس العدم في الوقت نفسه(6). والإنسان اذ يختار فأنه مضطر الى ذلك لأنه لابد ان يفعل فجوهر الوجود الفعل ولا فعل من غير حرية، "فالإنسان مضطر أن يكون حرا وقد حٌكم علينا بالحرية"(سارتر:ص42). لقد سمى هيدجر الحرية بـ "الوجود الأصيل" في مقابل "الوجود الزائف"، فالوجود الحقيقي أو الأصيل هو (الذي تشعر معه الذات بأنه قائمة بنفسها، مسؤولة عن ذاتها، أما الوجود الزائف فهو ذلك الوجود العيني الذي تهبط به الذات إلى مستوى الموضوع، فتميل إلى الإنغماس في المجموع، آملة من وراء ذلك التهرب من حريتها، والتنصل من مسؤوليتها، والتخلص من شعورها بالقلق)(7).

هذه الحرية تجعل قيمة الإنسان فيما يقوم به من عمل، فما لا يرسمه الإنسان في الواقع ليس له أدنى وجود وبالتالي ليس له أدنى قيمة، فقيمة الإنسان بما يهتم به وما يسعى في سبيله وما يؤديه من أعمال وما يُقيمه من علائق.(سارتر:ص57ـ59)(8).

عبد الرحمن بدوي والفسفة الوجودية

تأثر بدوي في بداية حياته بفلسفة نتشه التي تُعد تمهيداً لبزوغ الفلسفة الوجودية وظهورها، وكثير من الباحثين حسب فلسفة نتشه فلسفة وجودية بمعناها الإنساني، وقد كان كتاب بدوي الأول بعنوان "نتشه"، الذي نشرته مكتبة النهضة المصرية في القاهرة، ومن كتبه المميزة عن الفلسفة الوجودية والذي وضع فيه فلسفته الوجودية هو "الزمان الوجودي" وقبله كان كتابه "الموت والعبقرية" الذي كان في الأصل رسالته في الماجستير، وقد بين قيمة الفلسفة الوجودية في كتابه "دراسات في الفلسفة الوجودية"(9)، ولكن ما ميز وجوديته وجعلها أكثر وضوحاً هو كتابه: "الإنسانية والوجودية في الفكر العربي "، الذي حاول فيه التأصيل للفلسفة الوجودية عبر إستهاض التراث "المشرقي" والكشف عن نزوع الإنسان العربي وأصول نزعته التحررية في بلاد المشرق من خلال توظيفه لعلاقة التصوف بالوجودية أولاً، والكشف عن النزوع الوجودي في الشعر العربي ثانياً، والدين ببعده الأنسني، بوصفه تعبير فردي عن التجربة الروحية التي يبلورها الدين ويجلي الروح فيها للكشف عن نزعتها الحسية والجمالية المتواشجة مع التجربة الذاتية الفردية التي تميل للعاطفة والرجوع إليها(10).

صفات الإنسان الوجودي عند بدوي:

1ـ يرى بدوي أن الإنسان الوجودي هو مالك الإرادة والمُعبر عنها بما يجب عنها بوصفه ذات إنسانية.

2ـ الابتعاد عن الجانب الميتافيزيقي.

3ـ أساس المعرفة العامة هو النور الطبيعي أعني العقل الإنساني.

4ـ غزو الذات للموضوع بفرضها قيمة عليا واستخدامه كأداة لتحقيق إمكانيتها.

5ـ معارضة الالوهية بالطبيعة بعد السيطرة عليها فتكون هي مملكته بممارسة ممكلة الالوهية.

6ـ تمجيد الطبيعة، أي الإتصال الوثيق بالطبيعة لدرجة عشقها، وعبادة الطبيعة باعتقاد بدوي متأت من عبادة الإنسان لذاته بوصفه جزءً من الطبيعة.

7ـ يمجد العقل ولكن ليس ذلك العقل المجرد الجاف ولكن العقل الحيوي الذي يحيا العاطفة ويتكئ على الحس.

8ـ النزعة الحسية الجمالية التي تميل الى الرجوع الى العاطفة وإستلهامها.

عبد الرحمن بدوي والفلسفة الوجودية

حصل على شهادة الماجستير في رسالة (مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة) وقد نُشرت شهاداته الماجستير والدكتوراه في كتاب (الزمان الوجودي) و(مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة) و(الموت والعبقرية) بالإضافة إلى أن لديه كتبا أخرى منها (نيتشه) و(أفلاطون) و(الوجودية في الفكر العربي) و(الموسوعة الفلسفية في مجلدين) بالإضافة إلى الكتب المترجمة. أما آخر كتبه فهو (الدفاع عن القرآن عند منتقديه والدفاع عن محمد ضد منتقديه).

كان يُعرّف نفسه بعبارة (أنا فيلسوف مصر) وقد تُوفي في الخامسة والثمانين من عمره إثر إصابته بالكآبة والشيخوخة.

أتنقن العديد من اللغات الأجنبية وترجم منها أهمها: اللاتينية القديمة وتفرعاتها: الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية، وترجم عن الفارسية.

كان الأول على دفعته في مرحلة "الليسانس"في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة "فؤاد الأول" عام 1938، وقد حصل على الماجستير بتقدير "إمتياز". كان من أساتذته المُحببين إليه: مصطفى عبدالرازق وطه حسين وأندريه لالاند وماسنيون. (يُنظر: عبدالرحمن بدوي: سيرة حياتي، ج1ـ ج2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، ط1، 2000).

طريقه إلى الوجودية:

يجب التوقف عند أمرين هما:

رحلته مع الوجودية.

رؤيته الذاتية من واقع أحاديث وتصريحاته لكي يعبر بها عن وجوديته كفلسفة ومنهج حياة.

لقد تأثر بدوي بالوجودية الألمانية عند هايديكر حيث قال: "إن غاية كل وموجود أن يجد ذاته وسط الوجود والوجود الفعلي هو دائما حاصل زمني في الآن وكل وجود يتصور خارج الزمان هو موجود موهوم، وليس قول الإنسان الا محاولة للقضاء على الجزع من الزمان، وهو يؤدي بالزمان إلى تضليله وتعليله بالأماني الكاذبة. وأولى بالإنسان أن يسلم بواقعه الزمني ويواجهه ككائن حر.".

والوجود الحقيقي هو الوجود الفردي الحر ومعنى الحرية الإمكان وليس ثمة إلا وجودان هما:

وجود الذات.

وجود الموضوع.

وإن وجود الذات وهو الذي يتمثل بالوجود الفردي الحر أي هو وجود الأنا المريدة أو هو الوجود الذي يتضمن معنى الاختيار.

أما الوجود الموضوعي فهو وجود زائف، يتملك الإنسان فيه الأشياء وهو لا يملكها.

والآنية: هي تحقيق الذات للمكن بإرادتها واختيارها. والشعور بالوجود لا يكون بالفكر لكنه بالوجدان وذروة هذا الشعور بالوجود لا يكون بالفكر، لكنه بالوجدان وذروة هذا الشعور في التوتر، والتوتر وحده بين الأصل والمقابل، فالتألم أصل، والسرور مقابل، والوحدة المتوترة هي التألم السار. وكذلك فالخطر أصل، والإيمان مقابل، والوحدة المتوترة هي الخطر الآمن. وإن منطق بدوي يقوم على مبدأ التوتر، وطابع الوجود الذاتي هو التوتر الناشئ عن اتحاد الوجود واللاوجود عدم، وهو الأصل في الفردية وفي الحرية والزمان هو العلة الفاعلة لاتحاد الوجود بالعدم، ولا وجود إلا بالزمان، ومع الزمان ولا حاجة إلى القول بوجود خارج هذا الزمان، أي لا حاجة إلى القول بوجود المطلق.

وقد اشتهر عبد الرحمن بدوي كفيلسوف وجودي ارتبط اسمه باتهامات تلاحقه بالإلحاد قبل أن يقدم أعماله الإسلامية. وممن كتبه (الإلحاد في الإسلام) وقد يكون سبب ذلك هو تأثره بهايديكر.

الفلسفة الوجودية في الفكر العربي

بدات الفلسفة الوجودية مع الفيلسوف الدانماركي كيركيغارد الذي انطلق في فهم الوجودية من الايمان معتبراً ان عدم تحقيق الانسان لوجوده يعود الى الاغتراب الذي يعيشه عن الذات وعن الله.

يمثل كيركيغارد وجبريل مارسيل وكارل ياسبرز الوجودية المؤمنة، اما هايدجر وسارتر فانهم يمثلون الوجودية الملحدة.

تتفق الوجودية المؤمنة مع الوجودية الملحدة بنقطة اساسية وهي القول بأن الوجود سابق على الماهية بمعنى ان وجود الشيء سابق على التفكير به، الانسانية ماهية، محمد، زيد، عمر، وجود، فكيف يسبق الوجود الماهية فالانسانية كانت في عقل الله (ان جاز التعبير) وهي ماهية.

الوجودية الملحدة ترى انه اذا لم يكن الله موجوداً فانه يوجد على الأقل مخلوق واحد قد تواجد قبل أن تتحدد معالمه وتبين، هذا المخلوق هو الإنسان أو أنه بلغة هايدجر الواقع الانساني، بمعنى أن وجوده كان سابقاً على ماهيته.

الوجودية المؤمنة ترى أن الإُنسان خلق اولاً في صورة الإنسان، الصورة العامة للانسان في عقل الله، ثم بعد ذلك تتحدد صفات كل إنسان ومعالمه، أي أن الوجود أيضاً يسبق الماهية.

لكن ماذا تعني الوجودية بأن الإنسان يوجد أولاً ثم يتعرف الى نفسه ويحتك بالعالم الخارجي فتكون له صفاته ويختار لنفسه أشياء هي التي تحدده، فإذا لم يكن للإنسان في بداية حياته صفات فذلك لأنه بدأ من الصفر، بدأ ولم يكن شيئاً وهو لن يكون شيئاً الَا بعد ذلك، ولن يكون سوى نفسه.

إن الإنسان في الوجوديتين يوجد ثم يريد أن يكون، وهو يكون ما يريد أن يكونه بعد القفزة التي يقفزها الى الوجود.

يذهب بدوي الى البحث عن النزعة الإنسانية في الفكر العربي المعاصر الى الجذور فيرى أن التداخل الفارسي العربي كان له أبعد الأثر في تطور النزعة الإنسانية لدى العرب، لذلك يذهب الى القول أن هذه النزعة بطابعها الوجودي توضحت أصولها في عهد كسرى آنوشروان وهو (بروزويه) بنزعته الشكية وقوله أن "الإنسان هو أشرف الخلق وأفضله".

أشار بدوي الى شخصية بولس الفارسي وتفضيله العلم على الإيمان، لأن العلم لا يُداخله الشك بينما الإيمان يداخله الشك، والشكك ليس في ذات الفرد أكثر منه في نظر الآخر.

ركز بدوي على سلمان الفارسي التي تنقل بين الأديان شاكاً وباحثاً عن الدين الحق من المزدكية الى المسيحية وأخيراً الإسلام الدين الذي إستقر فيه ودافع عنه.

فكرة الانسان الكامل

وهو النموذج الأول للإنسانية وأصلها أو بعبارة إفلاطون "إن الإنسان الحسي هو صنم لذلك الإنسان الأول الحق، الَا أن المصور هو النفس وقد خرجت لأنها تُشبه هذا الإنسان بالإنسان الحق، وذلك لأنها جعلت فيه صفات الإنسان الأول ولكنها صفات ليست كاملة كما هي عند الإنسان "الكامل" الأول، وذلك لأن الانسان الأول نور ساطع فيه جميع الحالات الإنسانية إلَا انها فيه نوع أفضل وأشرف وأقوى.

ولهذا المعنى يذهب هرمن حيث يقول "الطَباع التام شمس الحكم وأصله وفرعه، فقيل وما هو الطباع التام، قال روحانية الفيلسوف التي هي متصلة بنجمه فتتفتح مغالق الحكمة وتعلمه ما إستشكل عليه صوابها وتُعلمه مفاتيح أبوابها في النوم واليقظة".

الطَباع التام هذا بمثابة النموذج الأعلى للإنسان وهي كما يعتقد بدوي رمز تجسيدي لقوة الإنسان المُبدعة في أعلى درجات إمكانها، ومن يعتقد بالإنسان الكامل وبضرورة الوصول اليه أو إدراكه إنما هو باعتقاد بدوي ذو نزعة انسانية خالصة.

أما النظر الى الإنسان على أنه مركز الوجود فقد وجد بدوي خير تعبير عن هذه الفكرة عند ابن عربي وعبد الكريم الجميلي، لا سيما ربط ابن عربي بين الإنسان والألوهية وأن الله خلق آدم على صورته، والقول بالعالم الصغير والعالم الكبير وأن كل ما وجد في العالم الكبير إنما له وجود في العالم الصغير، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه، ومن عرف ربه فقد عرف نفسه.

أما عبد الكريم الجميلي فقد تابع ابن عربي وأكد القول بأن الإنسان الكامل أو الأول هو صورة دقيقة كاملة من الله ولهذا فهو خليفته في الأرض، فالإنسان عند الجيلي كما يعتقد بدوي جامع لكل الموجودات شاملا لكلتا الحضرتين الإلهية والكيانية (الانسانية).

الإنسان قادر على بلوغ هذه المرحلة التي هي الإنسان الكامل والوصول إليها، مثال ذلك ما تحقق في الإنسان النبي الذي يُتخذ نموذجاً للإنسان الحسي، لأن النبي في الإسلام يُنظر له على أنه إنسان بكل ما لهذه الكلمة من معنى.

ولربما يقول قائل أن هذه هي روح صوفية وليس لها علاقة بما يقوله بدوي؟ إلَا أن بدوي يرى أن هذه النزعة ما هي إلَا محاولة ودعوة لإكتشاف أسرار الطبيعة ومعرفة العلل وكيفية نشوء الأشياء. وهذه النزعة ما هي إلَا تبرير روحاني للاعمال العفوية والنظرات العلمية الخاصة بإستخراج علم سرائر الخليقة وعلل الطبيعة.

يستشهد بدوي بجابر بن حيان وحديثه عن الإنسان المطلق وقوله "أن الإنسان إذا عرف سر التكوين في الطبيعة إستطاع أن يقوم بدورها فيه، وأصبح بالتالي مُقارناً للإله في القدرة على الخلق فقد ميز ابن حيان بين نوعين من الخلق، الكون الأول وهو الذي أوجده الله والكون الثاني وهو ممكن لنا.

وهذه الرؤية العربية للإنسان هي قريبة كل القرب من قول سارتر "الإنسان يتحقق إنسانا كيما يكون الله".

مجَد داود بن المحبر العقل مستشهداً بقول النبي (أول ما خلق الله العقل) وكذلك هو الحال مع ابن الراوندي حينما مجَد العقل بقوله "ان الرسول شهد للعقل برفعته وجلالته فلم آتي بما يُنافره إن كان صادقا" .

أما ابو بكر الرازي فيقول "أن الباري إنما أعطانا العقل وحبانا به لننال ونبلغ فيه المنافع العاجلة والآجلة وأنه أعظم نِعم الله عندنا وأنفع الأشياء لنا وأجداها علينا .. ولا نجعله وهو الحاكم محكوماً عليه"

كان لآراء السهروردي في كتابيه: "هياكل النور" و "الغربة الغربية" بعدها الصوفي والعرفاني الواضح، ورغم ذلك فقد فاق الشعراء بالإحساس بالطبيعة وبجمالها والإندماج فيها بوصفها الصورة الأخرى لتجليات الله.

أوجه العلاقة بين الصوفية والوجودية

كلتاهما تبدأ من الوجود الذاتي وتقيم من أحواله مقولات عامة للوجود، وهي بالتالي تجعل الوجود سابقاً على الماهية، فالصوفي لا يعترف بوجود حقيقي غير الوجود الذاتي، ولهذا فالقول لا يُحسب للوجود الخارجي إلَا بوصفه مرتبة ثانية من مراتب الوجود.

فكرة الإنسان الكامل تُقابل عند الوجودية فكرة الأوحد، خصوصا، عند كيركيجارد فالأوحد يحيا في ذاته في وحدة هائلة، الوحدة وطنه الحقيقي، كما قال نيتشه، والصمت عنده مصدر للنشوة المستمرة كما قال كيركيجارد، والمعنى الأعمق للأوحد شعوره بأنه سـ "يكون وحده مع الله وحده" او كما قال كيركيجارد "امام الله لن تكون الا امام نفسك .. وحيداً مع ذاتك أمام الله" وكل هذه الأوصاف نراها عند الصوفية الإسلامية. فكما قال الحلاج لحظة إعدامه "لن يكون ثمة واحد هو نفسه" أو قوله "فمن هو فريسة أمام أعين الناس يحيا مع الله وجها لوجه، فإن حضر الناس إختفى الله، ولكن إن حضر الأوحد حضرت الألوهية، حضرت من أجل الأوحد دون أن تكون في حاجة الى ملك يُعلن عن حضرتها". اذن، فكرة الإنسان الكامل عند الصوفية هي أكبر توكيد للنزعة الإنسانية لأن فيها تأليه للإنسان، والوجودية تضع الوجود الإنساني مكان الوجود المطلق وتقول "ليس ثمة كون غير الكون الإنساني، كون الذات الانسانية".

الشعر الوجودي "شاعر يخلق عالما من الوجود قائماً بذاته ويملك من الحقيقة قدر ما يملك الفيلسوف في نظر صاحبه" والفيلسوف الوجودي تساوى في هذه الناحية مع الشاعر الوجودي لان كلاً منهما يؤسس عالمه ويبدعه، عالمه الانساني الذاتي ولا حقيقة خارج هذا العالم عند كليهما . الشاعر يخلق عالمه بواسطة الكلمة، كلمته هو.

 

عن صحيفة المثقف