لِمَنْ تُقْرَع أجْرَاسُ الفلسفةِ؟!
في يومِها العالمي مع كلِّ عامٍ، ربما يبزغ السؤالُ التالي: هل تحتفل الفلسفة بنفسها؟! ومن ذا الّذي بإمكانه حضور الاحتفال؟ وكيف سيتمّ الاحتفال؟!…. الفلسفة بخلاف أي نشاط عقلي لا تحتفل بذاتها(أو هكذا يتمّ). لا تحتفل كعجُوز بلهاء( أم العلوم قديماً ) تُطلق صيحات الظّفر والفرح(الزّغاريد) بعريس شابّ( العلم- التكنولوجيا) تطَّلُعاً لأحفاد جُدد. ولاسيّما مع إبداع الفلسفة(الرّاهن) كحالة كونيّة تستحث إنسانيّة الإنسان وتدمر حتميات الفكر والمعرفة. وهي كذلك- الفلسفة- تهدم نفسها بنفسها وتتجدّد وفقاً لأليات ومعايير التّفلسف الحُر.
الفلسفة قدرة خاصّة على كشف مناطق العتَّمة في حياتنا، حيث ترمِّم الوجود الإنساني بوصفها دعوةً عقليةً مفتوحةً لما يُشبع فضولنا الأوسع. حين يتفلسف المرءُ، فهو يُفسح مجال نشاطه مُلبيَّاً نداء ما هو إنساني داخله. ولا يعود دون تجديد أُطره النسقيّة الّتي ترى الأطراف من أعلاها إلى أدناها بالوقت نفسه. أي ينبغي أن يستحق مرتبة الإنسان كماهية لوجوده الحق، وألَّاَ يكون مجرد كائن فارغ المعنى والمصير. إنَّ امتلاء إرادتنا الحرّة وعقلنا الخلاَّق- بافتراض ذلك- شرطان لا غنى عنهما لاستقبال الزمن.
المجتمعات (الّتي تعترف بمساحة للفلاسفة) هي مجتمعات تتمرن يومياً على المصير، (أليست الفلسفةُ – أفلاطونياً – تمارين قاسية على الموت، الّذي هو الحياة وجهاً لوجه؟!). فالفلسفة ترمق أخطار الوجود البشري كآثار جوهرية وتهجس بمشكلاته، لأنّ التّفكير الفلسفي هو مستوى الضّرورة في أعماقنا. إنَّ الحياة الغُفل نومٌ عميق وكوابيس بحجم التّاريخ الزّاحف كثعبان الأناكوندا المفترس( Eunectes ) أو أفعى الكبرى القاتلة( Naja ).
وقد لا يخطئُنا الصّوابُ إذ نقول إنَّ الفيلسوف مُروِّض ثعابين بالدرجة الأولى(ثعابين المفاهيم والعقائد المتطرّفة والأخيلة والأنماط والأفعال الكبرى). إنَّه يخرجها من أدغال الثّقافة والسّياسة والأحداث ويدرك طريقة حياتها ويترقّب منها الشّراسة والتّحول. لكنّه يعرفنا أيضاً كيف تلدغ وخطورة السّموم الّتي تحملها. هناك سموم تدمر الأعصاب وهناك سموم تحدث شلاً وأخرى تسمم الدّم وغيرها تسبب عماء لا مهرب منه وهناك سموم تقتل على الفور.
ما أكثر ثعابين التخلَّف والفوضى والعنف والإرهاب والاستعباد والقهر والديكتاتوريّة الّتي تلدغ مجتمعاتنا في لحمه الحيّ. وهذه الأشياء تضرب بأذيالها أنسجة الحياة وتتمدّد حيث لا نلتفت إلى جذورها وأبنيتها الغريبة. الفلسفة تدربنا حثيثاً: كيف نفكر بهذا الكلّ الّذي يتكون، وبأيّة صورة نلتقط تعقيده وانفكاكه معاً. التّفكير هنا كالإحساس الغريزي( للأحياء) بحركة الحياة والموت. أي العيش وفق الكلّ كما كان اللّوغوس logos لدى هيراقليطس يطلق العنان لحياة الحكمة ومعرفة الفيزيس( الطّاقة النّامية physis).
إنَّ هناك قانوناً يربط الكائنات المختلفة ويجعلنا على علاقة بأخطار نصنعها بأنفسنا في المجتمعات المعاصرة. مثل زيف الوعي وانتشار الجهل واحتقار العقل وبلادة الدولة وركود التّعليم وتضخم الأوهام وأسواق التّفاهة. هي إفرازات وفضلات لا نستطيع تجنبها وكذلك لا نعيش دونها. فالثّقافة ليست تراكما محايداً خارج إمكانية العودة من أبواب خلفيةٍ، لكنّها كيان حي نصنعه ليتحوّل كالثّعبان الّذي يلتهمنا مرة أخرى. الفيلسوف هو من يحمل مزماره صافراً ولاعباً على علاماته وتوجهاته أمام الجماهير.
ها أنا أتخيّل هؤلاء الحُواة( لنلاحظ فيها دلالة الحياة والاحتواء) الّذين سيقفون في ساحات عامّة ويتحلّق حولهم النّاس مشدوهين ومضطربين، بينما هم منهمكون في إخراج الأفاعي انسياباً من الجراب والرّقص معها، وكأنَّهم يؤدون طقوس عالية الدّقة والمخاطرة. كلّ فيلسوف مبدع له القوّة والاحتمال ذاتهما أمام الجماهير لإخراج بواطن التّصورات والأفكار من مخبأها الغامض. كان الفلاسفة في أصالتهم اليونانيّة مشائين عظام، ولائهم للأقدام والأقدار والخطوات رغم كونهم يخاطبون العقول. ولا يختلط لديهم الحذاء بغطاء الرّأس، حيث لا يليق بأي إنسان أن يكون الغطاء جهلاً بالمفاهيم أو وعياً آسنا خارج عصره(كحال السّلفيات الرّاهنة).
لعلَّ لغتنا الحيّة الّتي نتوارى خلفها هي جراب الوجود الإنساني (كلّ شيء في جوف الفرا). فليس أعقد تركيباً وأكثر خصوبة لموطئ الوجود والتّاريخ من اللّغة. وليس يفعل بها ويصنع منها شيئاً ذا قيمة قدر ما يطلق فيلسوفٌ صيحات العقل كرَّحالٍّ(مشَّاءٍ) في دهاليز وشوارع المدن باحثاً عن المجهولات. تلك الّتي لا ندركها ولكنّها تؤسّس لعالمنا وتواصلنا وتقنياتنا. وهي بعض المهمّة الّتي يؤديها حالياً الفكر الإنساني على صفحات(الفيسبوك وتوتير وانستجرام وغيرها).
فهذه (الأدوات- الوجوه) هي كتاب الوجود الرّاهن( لوغوس الواقع الافتراضي). يمكن لكلّ إنسان أنْ ينعكس فيها، بيد أنّها تُؤسّس لحريّة الفهم والاختلاف. إنّ وسائط التّواصل الاجتماعيّ هي شوارعنا الّتي فتحناها في أقاليم الكون الخياليّة، لعلّها بمثابة الوجوه البديلة الّتي نقابل بها الأخيرين صباح مساء. ورغم كميّة التلوّن والتّنكر المنطوية عليها إلاَّ أنّها وسائط تجدد وظائف الفلسفة. وربّما سيأتي اليوم الّذي تشهد فيه (فلاسفة جوالِّين افتراضيين) يطلقون أفكاراً تحرّر الإنسان من عوامل قصوره.
إنَّ السّكوت عن المجهول حولنا هو صمت مريع حول: ماذا سيحدث غداَ؟! رغم أنّنا فلسفياً ربما ندرك أنَّ كل إمكانية تأتي من هنالك وأنَّ لها علامات يجب سبر غورها وتحيُّن قدومها بأي وقت!! فاستنطاق الصّمت الّذي يملأ ما يُوجد هو المهمة الّتي تنتظر المتكلّم وفق قواعده. لأنّ أيّ صمت لا يحتاج ضجيجاً وإلاَّ هرب إلى شقوق الواقع وأحداثه. الصّمت له أبلغ الكلام شريطة حُسن التّعامل معه وإطلاق معاني جديدة ومبتكرة لاصطياده.
الفلسفة تضيء كالنّور دون أنْ تزاحم الآخرين على الظّهور. المزاحمة هي اشتراك بين أطراف في شيء معروف وقابل للتّكرار وممكن تعميمه. بينما ترفض الفلسفة على وجه الإجمال الاثنين (المزاحمة والتّكرار)، فهي ضدّ أي ابتزاز فكري وكرنفالي باسم العقل. لو أنّ فكراً زاحم فكراً آخر، فلا يجرى الأمر سوى بالاقتتال المنطقي، وسينقل الوضع إلى صراع وجود. وسيكون الفكران نوعاً من العنف بينما واقع الحال يقول إنَّهما وجهان ثريان لاختلاف العقول. ومن ثمّ فالفلسفة استثناء غير قابل للمزاحمة ولا المعاودة من جهة الأصالة العقليّة تبصُراً وكشفاً. هي تتجنّب الشّيء المعروف: لكونه ليس حقيقياً على الدّوام وقد يصبح عبئاً أمام الانسان. وكذلك تنقد القابل للتّكرار، لأنّه يواري سوءة الفكر ويجعله مجرد مركبة نقل عام!!
الفلسفة في كلِّ زمنها احتفاءٌ حر من غير أن تفعل، احتفال دون طقوس شكليّة، فالعتمة حين تُضاء (بطريقة مصباح ديوجين اللائرثي) إنّما تعدُّ ضرباً من الإبهار الاستثنائي. حالياً الواقع الافتراضي virtual reality هو مصباح ديوجين، ففي أي وقتٍ يُضيئ العالم كلَّه، وفي أي مكان يتحرّك مثيراً للدهشة والخيال والهواجس والأخطار أيضاً. وفي هذا ستكون الفلسفة هي فعل إبهار واحتماله الافتراضي الفذّ. فالنّشاط الفكري الحيّ يجعل وجودنا أكثر ثراء وزخماً. وكأنّنا نتعدّد لحدّ التّباين في حياتنا الفرديّة. الفلسفة بذلك ستضع مسيرتها ومسيرتنا العقلية تحت أنوار مختلفة كما لو كنا نراهما لتونا فقط.
إنَّ أجراس الفلسفة ستُقْرع على هيئة نواقيس هذه المرّة، لأنَّها ستواجه في مجتمعاتنا العربية صدوداً غير مبرّر. نقول للآخر المتكلّم أو الفاعل: ” بْطّل أيا هذا فلسفةً “. وترجمة هذه العبارة هي (الفلسفة باطل)، أي كفّ عن التّفكير ولا تناقش ولا تحاور ولا تطرح ما تريد. وإن انتقدت فعليك اللّعنات الحاضرة والغائبة إلى قيام السّاعة. والخلط واضح بين الدّين والفكر، حتّى أنّك لا تستطيع التّساؤل:(يأيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم). فلقد تمَّ تحريم وتجريم الأسئلة السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة رغم أنَّ القرآن لا يقصد النّهي عنها تحديداً.
فالسّياق تبدّل ثقافياً حتّى شمل هذه المجالات بفعل الأنظمة المستبدّة والدّاهسة لوعي الإنسان. وبالتّالي ليكُّن وضعك أيّها الإنسان كما أنت: سامعاً مطيعاً خانعاً بلا رفض ولا تذمر. وكأنّنا نتحدّث لأموات وليس لأحياء. خطباء الدّين يتحدّثون لأموات يشهدون كلامهم، رجال السّياسة يسمِعون من في القبور، رجال الإعلام يلقون دروساً في الوطنيّة والهويّة كشيوخ يلقنون الأموات إجابات لملائكة العذاب. ثمّ يأتي المسؤولون الرّسميون كالسّائلين: “ناكر ونكير” أثناء عذاب القبر … من ربُك السّياسي؟ من تؤيّد؟ ما دولتك؟ وما هو نظامك السّياسي؟ لماذا لعنت الظّروف مرّة؟ وهل عصيت الحاكم يوماً؟ هل خرجت على النّظام ولو في خاطرك؟! والإجابات معروفة بحسب التّلقين الثّقافيّ للأدمغة الفارغة.
كيف تحتفل الفلسفة إذن؟ نحن العرب حاضرون بلا فرح ولا إنجاز ولا موضوع (لا عريس ولا عروس) إلاَّ بحكم الزّمن فقط. الفلسفة في هذه الحالة يحب أن تكون تمارين لإحياء الموتى. فلئن كان اليونانيون القدماء يتدرّبون فلسفياً على الموت، فالمجتمعات العربيّة يجب أن تتدرّب فلسفياً على الحياة، على أن تعيش عصرها، أن تفعِّل حاضرها وتُدخِل غدها نطاق الخدمة العموميّة. الفلسفة لدينا ينبغي أن تكون فنّ إحياء الأرض الموات (أرض العقل وأرض الثّقافة) وبعث الوعي من الأجداث الّتي تكبّل حركته تاريخياً وكأنَّها قدر مشؤوم!!