في أثناء تحليله لتنامي النزعة الاستهلاكية في أغلب المجتمعات الحديثة في العقود الأخيرة، يبدأ عالم الاجتماع البولندي البارز زيجمونت باومان بالانطلاق من حقيقة بديهية، وهي أن جميع البشر مُستهلِكون بشكل فطري، وكانوا على مر الزمان مُستهلِكين بغرض إشباع حاجاتهم ورغباتهم، فليس اهتمامنا بالاستهلاك شيئا جديدا، فعملية الاستهلاك والإشباع سمات إنسانية طبيعية تسبق بالتأكيد ظهور الاقتصاد الرأسمالي الصناعي والتقنية الحديثة والأسواق الضخمة، إلا أنه يلفت انتباهنا إلى ظاهرة جديدة على التاريخ الإنساني بصفة عامة، لم يتصف بها النزوع الإنساني الاستهلاكي من قبل، وهي ظاهرة مُجتمع المُستهلكِين أو بتعبير آخر مُجتمع السوق(1) .
مجتمع السوق
الجديد في هذه الظاهرة ليس في تزايد حجم الاستهلاك ذاته، فهو بشكل ما نشاط فردي يقوم به كل فرد طبقا لاحتياجاته حتى وإن كان يفعل ذلك وسط جماعة، إنما الجديد في ظاهرة مجتمع السوق - وهي ظاهرة تم رصدها خلال الثلاثين عاما الأخيرة - هو ظهور الاستهلاك كمعيار على جودة الحياة وكدليل على الإقبال عليها.
فمجتمع السوق وبحسب تعبير الفيلسوف الفرنسي ألتوسير " مُجتمع يستوجب أعضاءه"، يستوجب أعضاءه باعتبارهم مُستهلكين في المقام الأول بل في المقام الأول والأخير، إنه مجتمع يحكم على أعضائه ويقيّمهم بما لديهم من قدرة استهلاكية وما يتبعونه من سلوك استهلاكي(2) .
والإشارة الأهم هو ربط ظهور هذه الثقافة الاستهلاكية بانتشار عالمي لأيديولوجيا سياسية واقتصادية قديمة ولكن في ثوب جديد تم التعارف على تمسيتها بالليبرالية الجديدة، وهي أيديولوجيا قائمة على خصخصة كل المشاريع المملوكة للدولة، وفتح البنوك المحلية أمام السيطرة الأجنبية، والمساواة الكاملة بين الشركات الوطنية والأجنبية، وحرية نقل الأرباح إلى الخارج، وأخيرا إزالة كل العوائق أمام حرية التجارة، ورغم الطابع الاقتصادي العملي الذي تتصف به الليبيرالية الجديدة، إلا أنها كانت القوة الرئيسية الدافعة لخلق هذه الثقافة الاستهلاكية وإعادة تشكيل المجتمعات في العديد من بٌلدان العالم على نموذج مجتمع السوق(3) .
ما يثير الاهتمام هنا أنه باتت تشير العديد من التحليلات السياسية والاقتصادية بشكل متزايد في الفترة الأخيرة إلى محاولات عالمية وجادة لضم العديد من البُلدان العربية وخاصة دول الشمال الأفريقي ودول الخليج - لما يُطلق عليه معارضو هذا التوجه - "حظيرة الليبرالية الجديدة "، ويعود تاريخ هذه التحليلات ربما إلى قبل الربيع العربي ولكن مع تراجع الثورات العربية وانكسار الحركات وتراجع الضغط الجماهيري من أسفل السُلطة، ما لبثت أن تزايدت تلك الإشارات والتحليلات عن تسارع محاولات المؤسسات الاقتصادية والسياسية الدولية من جديد (4).
ليصير السؤال الأساسي هنا هو كيف تبني المؤسسات الدولية والشركات الكبيرة والتيارات السياسية التي تتبنى الليبرالية الجديدة هيمنتها عبر مساحات عديدة من العالم اليوم؟ وما أسباب انتشارها وتمددها بتلك السرعة؟
الليبرالية الجديدة: سُلطة بلا اسم
يذهب العديد من المفكرين ونُقاد الأيديولوجيا بصفة خاصة إلى أنه لكي تُصبح أي طريقة تفكير سائدة في الواقع، لا بد لها من خلق شبكة مفاهيم كاملة، تستند في تبرير وجودها إلى دوافعنا وقيمنا الإنسانية الأكثر أصالة ورغباتنا الفردية والجماعية.
وإذا كانت تلك التبريرات ذات جاذبية ومبنية على أسُس قوية في التاريخ والعالم، فإنها تتجذر تدريجيا في صُلب مفهوم الفطرة السليمة والرأي السديد بحيث تؤخد على إطلاقها كمفاهيم بديهية لا تتعرض للنقد أو للمساءَلة (5).
يضرب الكاتب البريطاني جورج مونبيوت مثالا للتوضيح " تخيل مثلا أن الناس في الاتحاد السوفييتي لم يسمعوا عن الشيوعية أو عن التخطيط المركزي، لماذا؟ لأنها ببساطة الطريقة التي مارسوا بها حياتهم بشكل تلقائي من البداية، لقد جاؤوا إلى الحياة وتصوروا أن هذه هي الطريقة الطبيعية للوجود، فالمقولات الأيديولوجية التي تهيمن على حياتنا هي بالنسبة للغالبية العظمى من الناس مجهولة المصدر. اذكرها في محادثة مثلا وسوف تُقابل بلا مبالاة اعتيادية" (6).
ويشير هنا المفكر والمؤرخ الاقتصادي ديفيد هارفي إلى النجاح الكبير لمؤسسي الفكر الليبرالي الجديد في بناء مقولاتهم الأيديولوجية على أكثر القيم والدوافع الإنسانية سطوة وجاذبية، مثل قيم الحرية والكرامة وحب التملك والرغبة في التميز، فكان اختيارهم صائبًا وحكيما إلى حد كبير، فتلك القيم والدوافع لا تقاوم من حيث جاذبيتها وقدرتها على الإقناع والتحريك السياسي (7).
بالتدريج وفي وقت قياسي أصبحت النيوليبرالية منتشرة جدا في واقعنا لدرجة أننا صرنا نادرا ما نعترف بها حتى كفكر سياسي، كان التعامل معها كمُعطى بديهي وعدم الاشتباك النقدي مع خلفيتها المعرفية، سبب في الجهل بها وفي قوتها وسرعة انتشارها في آن واحد.
فقد لعبت النيوليبرالية دورا رئيسيا ملحوظا في أزمات اقتصادية عالمية متنوعة: الانهيار المالي 2007 - 2008، وفي نقل الثروة والسلطة إلى خارج المجال السياسي الديموقراطي في أغلب بٌلدان العالم، الانهيار البطيء في خدمات الصحة العامة والتعليم، انتشار البطالة، تصاعد تشرد الأطفال، وباء الوحدة، انهيار الأنظمة البيئية.. وأخيرا بروز دونالد ترمب.
ولكننا نتجاوب مع هذه الأزمات وكأنها تظهر في عزلة، غير مدركين على ما يبدو، أنها جميعا حُفِّزت أو تفاقمت من قبل نفس الفلسفة المتماسكة؛ فلسفة لديها - أو كان لها- اسم. فلا يوجد سلطة أقوى من سُلطة تعمل بلا اسم(8)؟
إعادة تشكيل الخيال أو ما هو الهدف الحقيقي لتلك السُلطة الجديدة؟
الثقافة النيوليبرالية تقوم على افتراض مبدئي، وهو أن المنافسة هي السمة الوحيدة التي تحدد العلاقات الإنسانية، من خلال إعادة تعريفها المواطنين كمُستهلكين وهي السمة الرئيسية لمُجتمع السوق، حيث يمارسون خياراتهم الديمقراطية عن طريق الشراء والبيع وليس بدعم مرشحين وبرامج سياسية وآليات التمثيل السياسي الديموقراطي التقليدية، وهي عملية يُوصف البارع فيها بالجدارة والمبادرة مثلا ومن غير ذلك يُوصف دائما بعدم الكفاءة وفقر الإبداع.
حيث تؤكد النيوليبرالية على أن «السوق» لا الدولة، هي المساحة الأنسب لاستيعاب كافة الأنشطة والعلاقات الإنسانية وتقديم حلولا لكافة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية(9).
وتهدف النيوليبرالية بشكل عام إلى زيادة دور السوق الحر في تنظيم الحياة الاقتصادية وتقليل دور الدولة في رعاية المواطنين وبناء شبكات التضامن الاجتماعي وتربط البرامج الحكومية بالفساد وصورة موظفين الدولة بالكسل وانعدام الكفاءة والفعالية، وتميل في المقابل إلى تمجيد ريادة الأعمال وتراكم الأرباح، والاعتماد على الذات ونشر الثقافة الفردية الصارمة، والسعي بلا أي قيود أخلاقية أو اجتماعية وراء المنفعة الذاتية ورضا المستهلك وترى في ذلك كله معيار على حرية الإنسان.
هذة المخيلة الاجتماعية التي تعززها النيوليبرالية تم استيعابها بشكل واسع حول العالم بالرغم من الاختلافات في مزيج السياسات والخطابات السياسية على المستوى الوطني للدول المختلفة. وكنتيجة أخيرة لهيمنة النيوليبرالية العالمية، فيبدو أن اللغة والنموذج المؤسساتي للسوق تسربت لجميع جوانب الحياة المعاصرة، فالإعلام والثقافة العامة تشربت مفهوم أنه ينبغي علينا امتلاك ذوات ريادية، وأنه يجب علينا أن نكون دائماً على أهبة الاستعداد لإعادة تأهيل ذواتنا تأهباً لفرص جديدة، وأن السعي وراء المنفعة الذاتية أمر طبيعي، وأن الثراء العريض هو مجرد مكافأة للمبتكرين والمبدعين.
وقد ساهم سيادة هذا النوع من الخيال الاجتماعي، حتى بين أولئك الذين أضرت السياسات النيوليبرالية بمصالحهم، في ترسيخ القوة السياسية للنيوليبرالية كأيديولوجيا ونموذج للسياسات الاقتصادية والاجتماعية (10).
وفي الأخير تشير العديد من الدراسات أنه غالبا ما يكون المشروع الليبرالي الجديد قد بدأ على استحياء في داخل المنطقة العربية إلا أن تعليقات كثير من المراقبين تشير أن تطبيق تلك السياسات من شأنها أن تجدد الصدام بين الجماهير العربية والنُظم السياسية مجددا.