بقلم عبد الرحيم عنبي
تأتي هذه الترجمة في فترة تعرف نقاشا قويا داخل الجامعة المغربية والهيئات السياسية، حول المسألة الأمازيغية والعروبة، نقاش حول المكون الهوياتي للمجتمع المغربي. هذه الترجمة تجيب على العديد من القضايا، التي يتم التداول فيها بشكل خاطئ. لذا، فإن المترجم كان ذكيا باختياره لترجمة هذا العمل في هذه الفترة، التي تعرف صراعا قويا للهويات المحلية، والتي عبر عنها الباحث بالدويلات أو الجمهوريات الأمازيغية.
يجيب هذا المؤلف عن العلاقة بين العرب والأمازيغ، مبينا أن المناطق الأمازيغية بالمغرب وخاصة بالريف، كانت مصدرا للحروب والصراعات بين المجموعات الاجتماعية الصغيرة مع الوقوف على دور القبائل العربية في بناء الدولة الموحدة من خلال الشرعية المكتسبة من خلال المرجعية الدينية، بل وحتى الدول الأمازيغية، التي حكمت المغرب، كانت تستند على المرجعية الإسلامية مبينا كيف كانت تبحث لنفسها عن النسب الشريف الذي يربطها بالرسول، على الرغم من كونها أمازيغية وذلك بهدف الاستمرار في السلطة.
يقع هذا الكتاب في 119 صفحة من الحجم المتوسط، صدر عن دار أفريقيا للشرق، الدار البيضاء، المملكة المغربية، بدعم من وزارة الثقافة، سنة 2014 تحت عنوان "الحياة الاجتماعية والسياسية للبربر"، وهو مجموعة من المحاضرات التي ألقاها روبرت مونطاني، بمعهد الدراسات الإسلامية، بكلية الآداب والعلوم بجامعة باريس، خلال شهري نونبر ودجنبر 1930. قدم لهذه الترجمة الأستاذ الدكتور أحمد صابر، على امتداد 6 صفحات، تناول في البداية عملية الترجمة، باعتبارها من أقدم العمليات التواصلية بين البشر المتحدثين بلغتين أو أكثر من لغة. غير أنها من أصعب وأعقد أنشطة البحث الأكاديمي. وعليه؛ يذهب الأستاذ الدكتور أحمد صابر، في تقديمه لهذا المؤلف المترجم، إلى الحديث عن خطورة الترجمة، التي تتجلى في الغالب في خيانة النص الأصلي. ومن ثمة أكد الأستاذ أحمد صابر في تقديمه لهذا العمل على الأمانة المفروض توافرها في كل عمل يخص الترجمة، لكي لا تكون هناك أية خيانة لفكرة ما أو لجملة من أفكاره. وتساءل ضمن هذا التقديم عن درجة الأمانة في عمليات الترجمة خارج لغة العلوم البحثية متسائلا كذلك، عن درجة الأمانة في ترجمة نص إبداعي مثلما هو الحال بالنسبة إلى النص الشعري.
وعليه، خلص الأستاذ إلى كون ترجمة النص الإبداعي الذي يتطلب إدراج الأحاسيس الشخصية، إلى جانب النص في العلوم الحق، واللذين يطرحان إشكالا أساسا. عكس الترجمة في العلوم الاجتماعية؛ كالتاريخ مثلا، حيث لا يتجاوز المترجم سرد الأحداث والوقائع، دون أن يتدخل على مستوى التأويل أو ما نحو ذلك. رغم ذلك، فإن الترجمة حسبه تتطلب توخي الحيطة والحذر لا تعفي الباحث المهتم بترجمة النص التاريخي من النهل من علوم أخرى والتشبع بالعلوم اللسانية التي تعد حسب الأستاذ أساس عمليات الترجمة.
يرى الأستاذ أن عمل الترجمة هذا الذي أقدم عليه الأستاذ محمد ناجي بن عمر يغلب عليه الطابع التاريخي، لذا فالمترجم غاص في عمق العلوم الإنسانية المجاورة؛ كالجغرافيا وعلم الاجتماع والإثنوغرافية والأنثروبولوجيا وغيرها من العلوم الاجتماعية والإنسانية المساعدة، بهدف فهم هذا النص المترجم، على اعتبار أن هذه العلوم تحمي النص الأصلي من الانزلاق وتوصل المعنى والفكرة المقصودتين. وعليه، فعملية الترجمة اليوم في رأيه تحتاج إلى فريق يتكون من مختلف التخصصات في العلوم الاجتماعية والإنسانية.
ثم عرج بعد ذلك على تقديم العمل المترجم "الحياة الاجتماعية والسياسية للبربر"، وأشار إلى أن ترجمة عمل من هذا النوع يعد مغامرة، جريئة مفعمة بروح الفضول العلمي والمعرفي، مشيرا إلى الدقة المتناهية التي توافرت في المترجم، باعتباره أعطى للنص وقتا طويلا مكنته من سبر أغواره، فالمترجم في هذا العمل راهن على الدقة والنفاذ إلى ما بين سطور الكتاب، وهذا ليس غريبا على اعتبار أن المترجم سبق له أن خاض في ترجمة الكثير من الأعمال الخاصة بالسوسيولوجيا الكولونيالية. ويصنف المقدم العمل المترجم، في إطار التاريخ والسوسيولوجيا باعتبار المؤلف عكف فيه على فهم البنيات الاجتماعية. نظرا لمكانته، حيث شغل مهمة ضابط في الجيش حلال فترة الحماية، مثلما شغل مهمة إدارة الأبحاث والدراسات المغربية، مما جعله يسهم في إنجاز دراسات وأبحاث تعد مهمة لفهم البنيات الاجتماعية وتاريخ المجتمع المغربي.
بعد ذلك، سلط الأستاذ أحمد صابر في هذا التقديم الضوء على ثنائيتي "المنظور/ والمقاربة" باعتبارهما يطرحان نفسيهما داخل النص المترجم على اعتبار أن المؤلف وضع نصب عينيه القارئ الفرنسي في الوقت الذي يضع فيه المترجم القارئ المغربي والعربي نصب عينيه. ولعل مفهوم المنظور كان حافزا للباحث بأن ينبش بدقة في تاريخ الاجتماعي للأمازيغ، فالمعطيات التي تعد في نظر الباحث المغربي باليومية، تعد في نظر الآخر مظاهر ثقافية مقارنا إياها بالحياة الثقافية بمجتمعه الأصلي؛ غير أنه ينبغي توخي الحذر أثناء قراءتنا لهذه المتون وتأويلها خاصة في كتابة التاريخ. مؤكدا أن إنتاج النص الأصلي كانت غايته الأولى هي دراسة تاريخ المجتمع الأمازيغي، لهذا، فقد وظف العديد من المقاربات، من قبيل المقاربة اللغوية، حيث مسألة الازدواج اللغوي بين العرب والأمازيغ وتفاعلها على مستوى الواقع.
يقدم لنا الأستاذ الدكتور محمد ناجي بن عمر ترجمة لكتاب روبرت مونطاني، "الحياة الاجتماعية والسياسية للبربر" الذي يأتي في إطار سلسلة من الترجمات، التي أخذها المترجم على عاتقه، منذ أن انتبه إلى الأعمال التي نشرها إدموند دوتي، وخاصة مقالته الشهيرة تحت عنوان "أسباب انهيار حكم سلطان"، هذا الباحث الذي كرس حياته للدراسات الإثنوغرافية حول المغرب، حيث قدم سنة 1905 دراسة منوغرافية مهمة عن "التنظيم الاجتماعي واليومي لمنطقة حاحة". بعد ذلك، نشر كتابين "مراكش" و"خلال القبيلة" فمن خلال هاذين الكتابين، يؤكد الباحث الإثنوغرافي إدموند دوتي، حسب المترجم على أهمية العناصر والقضايا المميزة أكثر للحياة الاجتماعية للمملكة الشريفة، التي ظل الفرنسيون يجهلون عنها الكثير. تضمنت مقدمة هذا المؤلف، تبيان أهمية انتقال المعمر الفرنسي من السهول إلى الجبال، ثم أهمية ربط علاقات قوية مع الأهالي في أعالي الجبال، خاصة المناطق التي لم يطأها الرحالة قبل استعمار المغرب. من خلال هذه المقدمة لهذا المؤلف، يبرز لنا المترجم أهمية البحوث العلمية وانتظامها، ثم ما مدى مساهمتها في معهد الدراسات العليا المغربية، تحت إشراف هنري باسي ونشاطاته العلمية الحيوية. في هذا الاتجاه، أشار المترجم إلى كون البحوث انطلقت من الجزائر من خلال أعمال هانوتو وماسكراي وروني باسي. كما أن الأبحاث التي أجريت ما بين 1920 و1930 انتهت إلى خلاصات حول المغرب.. وأشار المترجم إلى أهمية هذا البحث، حول البربر والمخزن، والذي قدم من خلاله خلاصة ست سنوات من البحث التاريخي والسيولوجي، على مناطق غير معروفة خاصة بسوس والريف.
*الفصل الأول
عنوان هذا الفصل "الإمبراطورية: البربر الغربيون وتكون الدولة الشريفة" الذي يعود فيه الباحث إلى الاستناد على العلامة ابن خلدون لفهم تاريخ المغرب الكبير طيلة قرون، حيث أقر أن الأمازيغ قوم مرهوبو الجانب، مظاهرون للفرس والعرب والروم واليونان، لهم قوة غير أنهم لما حصل لهم من الترف والملك تلاشت قوتهم، وهو ما يتفق معه المؤلف. بعد ذلك يرى أن الأمازيغ لازالوا يشكلون شعبا كبيرا يمتد من مصر الغربية إلى المغرب والسنغال. وينتشرون في مختلف مناطق أفريقيا الشمالية.
وعلى الرغم من حياتهم وسط العرب، فهم لازالوا يحتفظون بلغتهم وثقافتهم الأصلية وفكرهم وفنهم الأصلي. إن صمود الأمازيغ في المناطق الجبلية لا يعني أنهم لم يتأثروا بالاختلاط العربي بالحواضر.
و يذهب "روبرت مونطاني" في هذا الفصل لمناقشة الطابع السياسي والاجتماعي لهذا الصراع بهدف توضيح كيف أن الأمازيغ لم يستطيعوا. ولكي يبين المؤلف تراجعهم رجع إلى الخرائط المتضمنة في كتب اللغات، حيث كان انتشارهم واسعا في ليبيا، كما كانوا من سكان الكهوف التي تحدث عنهم هيرودوت وحانون في القرن السابع قبل الميلاد. غير أنه في الوقت الذي انتهى منه الأمازيغ في مهاجمة الإثيوبيين ومحاصرتهم، ظهر العرب على مسرح الحياة في المغرب الكبير. وبدأ العرب في الانتشار بالمغرب الكبير، باعتبارهم زعماء سياسيين ورجال دين مثلما توسعت لغتهم بواسطة الإسلام، ثم تطوروا خلال القرن العاشر والثاني عشر كغزاة، على موجتين، الأولى قادمة من "التل" وهم بنو هلال ثم قبائل بني معقل الوافدة من أطراف الصحراء. ولم يحافظ الأمازيغ على لغتهم وثقافتهم إلا في المناطق الجبلية وفي واحات الصحراء وكذا المناطق العميقة. كما حدد المناطق التي توجد فيها المجموعات الكبرى، مثل جبال نفوسة والأوراس وسوس، في حين لا يشكل زناﮔـة والتوارﮔــ، على الرغم من امتدادهم على مساحات واسعة سوى العشرات من الآلاف. يطرح المؤلف مسألة الصراع اللغوي، حيث ميز ثلاث لغات أساس، هناك بلاد اللغة العربية وبلاد اللغة الأمازيغية ثم بلاد المزدوج اللغوي. ثم حدد كل المجموعات التي تستوطن كل مجال من هذه المجالات الثلاثة، ليخلص إلى كون المجتمع الذي يتكلم العربية يعيش في المدن في حين أن من يتكلم البربرية يعيشون خاصة في المناطق القروية. فظاهرة التعريب مرتبطة مباشرة بالتأثير الحضري على القبائل المجاورة. عديدة هي القبائل التي تتكلم البربرية في حين أن الحضريين لا يتكلمون سوى العربية. فالعربية في عمومها هي لغة المبادلات التجارية بين القبائل المتعددة اللهجات فضلا عن كونها لغة الدين والحكم.
كما ناقش الباحث في هذا الفصل كذلك، مسألة أسلمة الأمازيغ، ذاهبا إلى كون فرنسا ليست هي المسؤولة. كما يذهب البعض، أن الأمازيغ عرفوا الإسلام منذ قرون عدة، وتعلقوا به أكثر من العرب. كما وقف أيضا على ظاهرة ادعاء النبوة، خاصة مع قبائل بورغواطة الذين كتبوا كتابا دينيا بالأمازيغية، مع الإشارة إلى التأثير اليهودي لهذه الديانة العابر، ثم عرض إلى المجموعات اليهودية التي كانت ببعض المناطق، والتي كانت تدافع عن أراضيها بالسلاح، وكذلك ظهور دويلات صغيرة للخوارج، ليقف بعد ذلك عند المرابطين الرحل القادمين من الصحراء وكيفية الاستيلاء على السلطة باسم الإسلام الأكثر صفاء.
كما وقف الباحث على العديد من الزعماء الدينيين وبعض الدول الدينية، ولعل بقايا "دولة" تازروالت تشهد على ذلك إلى جانب صلحاء أحنصال شرق دمنات. ولهذه الزوايا طابع مشترك، فهي مؤسسة على موافقة المجموعات الأمازيغية المستقلة عن السلطة المركزية، حيث يأخذ الزعيم الديني مكانته كحكم في النزاعات المحلية. كما أنه يحترم عاداتهم وتقاليدهم بما في ذلك معارضتهم للقرآن. وبهذا وقع انسجام تام بين الإسلام والبربرية المستقلة تحت إشراف الزعماء الدينيين والصلحاء.
ويطرح هذا الكتاب كذلك، مسألة أعمق تتمثل في كون أن التعريب والظاهرة اللسانية والأسلمة والقضايا ذات الطابع الديني والسياسي، ليست سوى مظاهر لتحول أعمق وأشمل لبلاد البربر، بل لم يقف المؤلف عند هذا الحد، بل بدأ يبحث في العمل التوحيدي الذي قامت به الدول التي تعاقبت على المغرب الأقصى بدءا بمولاي إدريس الأول مع تصحيح الأسطورة التي تقول إن إدريس الأول فتح المغرب الأقصى، حيث يرى المؤلف عكس ذلك، مبررا طرحه بكون إدريس الأول وأمام تعرض البربر لتأثير اليهودية والمسيحية بعث أولاده لحمل بركته إلى مختلف المناطق من سواحل الريف حتى تخوم سوس.
ويذهب المؤلف إلى كون أول مؤسس لمؤسسة المخزن بالمغرب الأقصى هم المرابطون خلال أواسط القرن العاشر، وهم بربر رحل أصلهم من الصحراء، ينحدرون من العائلات الكبرى لقبائل صنهاجة، الذين امتد نفوذهم إلى سهول المغرب، ثم إلى فاس بعد ذلك أسسوا مراكش. مما جعلهم يدعون إليها كل القبائل من أصول صنهاجية. لقد اتخذ المرابطون من السهول بلادا لهم ولعل الدليل في ذلك هو قيام الدولة الموحدية، التي اتخذت من القبائل الجبلية سندا لها.
أبرز هذا العمل قوة المرابطين التي ظلت حاضرة بالسهول. بعد ذلك ستظهر قبائل بني مرين وهم بربر رحل شكلوا مخزنا قويا مدعما بالقبائل البربرية في السهول والعرب والفيالق المسيحية، فتمكنوا من إخضاع كل القبائل الجبلية وخاصة بالأطلس الكبير مخزنا قويا. غير أن المنطقة سوف تدخل في صراع حول الحكم منذ نهاية القرن الرابع عشر خاصة مع الاجتياح العربي مما جعل المغرب الأقصى يدخل في فوضى غير مسبوقة، حتى وصوله إلى ضعف واضح مع الوطاسيين، لأنهم نهجوا سياسة الانغلاق في فاس، مما جعل القبائل تسترجع قوتها وصارت كل قبيلة تعبر عن نفسها كدويلة مستقلة لا تعترف إلا بزعامة الزوايا.
وسلط المؤلف في هذا الفصل الضوء على قبائل الــﮔيش التي استقرت في ضواحي المدن. كما أشار إلى دور قبائل بني معقل القادمة من الصحراء، ثم القبائل البربرية المعربة ودورها في جمع الضرائب للمخزن. وخصص المؤلف حيزا كبيرا داخل هذا الفصل للحديث عن الدولة العلوية وحربها ضد الزوايا المعارضة، مثل الزاوية الدلائية وتازروالت. وتحدث عن أهمية الجيش الذي كونه المولى إسماعيل، المكون من الزنوج. يقف المؤلف بعد ذلك على اتساع بلاد السيبة، خاصة مع السلطان مولاي عبد الله الذي عرف عصره عدة "انتفاضات" إلى أن جاء المولى الحسن الذي عمل على إعادة النظام للبلاد.
وطرح في نهاية هذا الفصل نقاشا يهم التحولات العميقة لسياسة البربر مع الاحتلال الفرنسي، ليخلص في نهاية الفصل إلى الحديث عن الازدواجية اللغوية والتنظيم الاجتماعي والسياسي للبربر والآداب الشفهي، وهو أهم ما يمكله البربر الذي يعطيهم قوة ستمكنهم في المستقبل من الحصول على مكانة متميزة.
*الفصل الثاني
عنون المؤلف هذا الفصل بـ: "الدولة البربرية: بنية الدولة وتحالفاتها في الحرب والسلم"، لينطلق في تحديد العوامل الثلاثة التي أسهمت في تفكك البربر، والتي أجملها في اللغة العربية والإسلام ثم المخزن. إن فهم حقيقة البربر ينبغي أن ينصب أساسا على فهم بلاد السيبة[9]. كما تم التركيز في هذا الفصل على مورفولوجية الدويلات البربرية المستقلة. وذهب إلى أنه - لفهم البربر - ينبغي التركيز أساسا على العائلة لكونها ذات طابع أبيسي منغلق على عائلة الأب، مثلما يقر بغياب نظام أمومي في شمال إفريقيا، حتى وإن كان الحديث عنه بقبائل التوارﮔــ.
ثم بدأ بعد ذلك، في التدقيق في القانون العرفي وخاصة بالأطلس الكبير مع الإشارة إلى الجانب السلبي، والذي يلتقي فيه البربر مع العرب، حيث حاولوا استخراج مفاهيم عائلية خاصة بهم. استند المؤلف في تبيان هذه الأطروحة على الدراسة التي أجريت في كل من القبايل والأوراس، حيث إن دراسة العائلة الواحدة تلو الأخرى تكشف أن أسماء الأجداد ما هي إلا علامات يتم إلصاقها بالمجموعة الاجتماعية المعنية، والتي يمكنها أن تتحول في مرحلة تاريخية ما.
وقد استند المؤلف على كتاب قواعد المنهج لدوركهايم بهدف التموقع بشكل موضوعي حيال البربر. بعد ذلك، شرع في التمييز بين القرية، والمدشر، والقبيلة، ثم الفخذة، والتي تحظى باهتمام كبير وتستحق الدراسة باعتبارها نواة أساسية للتنظيم السياسي للبربر المستقرين. كما حاول الوقوف على طبيعة نشوء الدولة البربرية، والتي غالبا ما تنشأ بجوار الأودية والمناطق العالية.
ونقرأ في هذا الفصل كذلك، كيف تنقسم الأحماء لما تكبر وتتجاوز الحدود المسموح بها، واضعا تشبيها بين هذا الانقسام وانقسام الجزيئات من الدرة في عالم البيولوجيا. إن بلاد البربر بالأطلس الكبير حسب ما جاء في هذا الفصل، كانت منظمة بشكل دقيق، حيث يشرف عليها زعيم أو شيخ ينتخب كل سنة، وتتم تسوية كل النزاعات والمخالفات بشكل عرفي. القبيلة تنظم بشكل محير، حيث تتكون من أربعة أعراش متعادية؛ اثنان في مواجهة اثنان أو ستة أعراش ثلاثة في مواجهة ثلاثة، حتى إنه في فترات النزاع تكون القوات متساوية في الطرفين وهذا يبعد حسب المؤلف الخوف من الهزيمة.
ويشير هذا الفصل أيضا إلى مكانة الحلف بالمقارنة مع القبيلة وكيفية تكونه، والعناصر التي يضمها كل حلف ووظيفته الاجتماعية والسياسية. كما أفرد المؤلف مكانة الوصف الدقيق لمؤسسات بربرية تشكل الاتحاد بين المجموعات الاجتماعية، والتي يصطلح عليها باللف أو الصف ويبقى دور هذه اللفوف أساسا في بناء التحالفات أثناء الحرب. كما حدد بعض المناطق الجغرافية التي تضم أحلافا مهمة مثل الأطلس الصغير الذي يوجد به حلفان متقابلان. وتحدث كذلك، عن اللفوف في الواحات مثلما تحدث عن التنظيم السياسي في بلاد جبالة والريف. في خاتمة هذا الفصل تحدث الكاتب عن تكون الروابط السياسية أو الإثنية التي تعمل على خلق توازن طبيعي للقوة في بلاد البربر.
*الفصل الثالث
عنون المؤلف الفصل الثالث بـ: "الجمهوريات البربرية: المؤسسات السياسية والاقتصادية"، حيث أفرده للحديث عن مميزات التنظيم وتراتبيات الدول الصغيرة المتقابلة، سواء تعلق الأمر بالفخذات، أو القبائل أو الأحلاف راسما بذلك لوحة سياسية واجتماعية عن الدول الستاتيكية. ونبه القارئ بعد ذلك إلى كونه سبق أن تحدث عن التشابه القائم بين البربر في شمال إفريقيا مع التركيز على كون المجموعات القديمة بإفريقيا الشمالية حافظت عن استقلالها في علاقتها بمؤسسة المخزن أو البايات العرب أو الأترك. كما أشار إلى أهمية حفاظ هذه المجموعات الاجتماعية على مؤسساتها العفوية وصراعها من أجل العودة إلى النظام الجمهوري. وأقر المؤلف بأنه أجبر على توظيف اسم الجمهورية، حتى يحدد الشكل القار لحكومة البربر، وهي حكومة فوضوية بدون زعيم غير أنها فوضى منظمة.
وأوضح أيضا طريقة التداول في الأمور السياسية والحياة اليومية في اجتماع هو أقرب إلى البرلمان مع إبراز الطريقة التي يعين بها "المقدم" ووضع تدابير مؤسساتية لمراقبته، حيث يتوجب على المقدم أن يعمل على خلق توازن بين كل أطراف الصراعات وبين زعماء العائلات الكبرى المؤثر في القرار والحرص على تقسيم السلط. يتحدث هذا الفصل كذلك، عن أهمية الصندوق الجماعي وكيفية توزيع الفائض. بينما أشار إلى كون بعض المناطق مثل سوس لم تتخذ مقدما خوفا من نشوء نظام دكتاتوري. وعليه، فإن قبائل سوس كانت تتخذ العديد من التدابير العرفية لمعاقبة مرتكبي جرائم القتل والسرقة وما نحو ذلك. وينتقل الباحث من بلاد الأطلس الغربي ليقف على جمهوريات الريف، التي يرى أنها تتشابه مع باقي بلاد البربر من حيث هيمنة العائلة الأبيسية. غير أن ما يميز الريف كون الخلافات الداخلية والانتقامات المتبادلة تحظى بأهمية كبرى. فالرجال في الريف لا يفارقون البنادق ولا يغادرون مساكنهم قبل النساء اللواتي يخرجن مبكرا للتأكد من عدم وجود من يتربص بهم.
فالريف هي بلاد الحروب والصراعات، وقد اندلعت حرب قوية بين مكونين اجتماعيين بسبب قتل كلب، حيث سقط قتلى من الجانبين وفر المنهزمون. ليتحدث المؤلف بعد ذلك، عن كيفية عقد الرباطات للحد من السرقة والقتل ضاربا مثلا عن الأريحية التي كانت يتمتع بها بربر القبايل قبل الاحتلال الفرنسي بالمقارنة مع بلاد الريف التي تعيش في حروب وصراعات. كما قارن في هذا الفصل بين التسيير في القبايل؛ وذلك الذي كان قائما بالأطلس الكبير.
وخلص إلى كون هذا التنظيم الذي كان سائدا "بالقبايل" لم يكن بمقدرته أن يؤسس للديمقراطية على اعتبار أن المحاربين القدماء هم وحدهم من يتحكمون في اتخاذ القرارات أثناء اجتماع المحاربين، ثم رصد بعد ذلك رصدا دقيقا، التحول الذي وقع في هذه الجمهوريات، حيث لم تعد للمؤسسات التنظيمية التي تحدث عنها المؤلف في السابق أي دور حيوي، بل يشير إلى أن هذه الحيوية السياسية تمركزت في القرية. وتحدث أيضا عن الصراع الذي برز بين القدماء والشباب العائد من معامل فرنسا، حيث كان الهدف من هذا الصراع هو الحفاظ على التقاليد، مؤكدا أن هذا التعارض أسهم بشكل كبير في حماية الضوابط والقانون العرفي، الشيء الذي ساعد على استمرار فكر البربر في بلاد عملت فيه الإدارة الفرنسية نحو ستين سنة على تغيير الفكر القبلي.
وأشار في نهاية هذا الفصل، إلى أن التنظيم السياسي يكاد يكون متشابها في كل بلاد البربر مع وجود فروق دقيقة بين بعض المكونات بعد دراستها والتدقيق فيها.
*الفصل الرابع
عنون المؤلف هذا الفصل بـ "نشأة سلطة القياد وتطورها" عالج من خلاله نشأة سلطة "القياد". غير أنه في بداية هذا الفصل ذكر بكونه أعطى أهمية كبرى في الفصول السابقة للطابع الستاتيكي للبربر، وكيفية استمرار ثقافتهم وعاداتهم ومقاومة كل المؤثرات الخارجية. مؤكدا أن سلطة وقوة التقاليد الجمهورية ترتبط بقوة ظهور رجال في هذه الدويلات قادرين على تحقيق الارتقاء الاجتماعي، ليتزعموا مجالس الأعيان ومنهم من يؤسس إمارات ومملكات وإمبراطوريات. بعد ذلك، نقرأ تقديم المراحل الأولى لتشكل سلطة القياد والزعماء عن طريق تكوين الأحلاف بين القبائل مع الإشارة إلى الكيفية التي عمل بها المخزن العربي على تفكيك البربرية وإخضاع الجمهوريات إلى دولة موحدة.
وركز الباحث في هذا الفصل كذلك، على التمييز بين المراحل التي تكونت بها سلطة القياد في علاقة بالبنية النووية للمجتمع الأمازيغي معتمدا في ذلك المنهج المقارن. إن القياد والزعماء في رأي المؤلف ظهروا في كل المناطق مع الوقوف على أكثر المناطق ذات خصوصية. كما أن بداية القائد تكون صعبة، فيكون السوء من نصيبه خاصة إذا انطلق من سلطنة دون أن يعمل على خلق وحدة مبنية على الخيانة داخل الحمى القبلي، إنها القوة والدهاء. كما درس وظائف وأدوار القائد مع ذكر أسماء بعضهم خاصة بالأطلس، ليصل في نهاية هذا الفصل إلى كون إعادة تنظيم البربر تتوقف على المناقشة والتفاوض مع الزعماء ومراقبة تصرفاتهم والحد من تجاوزاتهم.
*الفصل الخامس
عنون المؤلف هذا الفصل بـ "تحول البربر" أفرده للحديث عن تكون المملكات والإمبراطوريات التي تأسست على أنقاض الجمهوريات البربرية. وصنف هذه الإمبراطوريات إلى صنفين مختلفين، إما أنها إمبراطوريات عربية مثل الشرفاء السعديين والعلويين، أو أنها إمبراطوريات أمازيغية نشأت بالجبل.
ونقرأ في هذا الفصل فحصا دقيقا للعناصر المكونة للإمبراطوريات مع وصف الحياة البربرية، سواء بالمناطق المعربة أو التي كانت توجد ببلاد المخزن وذلك قبل الحماية، مذكرا أن ما كان يجسد المخزن بالنسبة إلى القبائل هو السلطان من أصل شريف حقيقي أو مدعى، ثم الجنود الذين يسهرون على النظام وتحصيل الضرائب. السلطان في نظرهم حسب المؤلف هو شخص من نوع خاص يحترم، بل تخاف منه القبائل في بعض الأحيان. إن تمثل القبائل لشخص السلطان، حيث يربطون بين حكم السلطان الجيد وجودة المحاصيل ووفرة الكسب. إن قوة السلطان موروثة من جده النبي لهذا يشير إلى مهارات الملوك منذ عهد الموحدين، رغم كونهم بربر نجدهم قد اجتهدوا في وضع شجرات نسب شريف لتبرير وصولهم للحكم ومن أجل بسط قوتهم. ويظل السلطان حسب المؤلف محترما، حتى عندما تنتفي صفة السلطة.
يقدم الباحث في هذا الفصل صورة واضحة لتشكيل الحكومة مع تحديد دور كل عنصر من عناصرها، سواء تعلق الأمر بالوزير أو الحاجب والموظفين والجيش الشريف وغيرها من العناصر التي تشكل الحكومة. بعد ذلك، يقدم صورة عن التنظيم القيادي للمخزن في بلاد البربر مع إبراز أهمية الشيخ أو القائد داخل هذا النظام. كما أشار إلى أن حضور المخزن ذا الأصول العربية المستند على الإسلام غير قادر على تنظيم الدولة لكون الإمبراطوريات ذات الأصل البربري لها بنية محافظة. لهذا يقدم وصفا للإمبراطوريات مع البحث في الروايات التاريخية مقدما دراسة حالتين كشاهد تاريخي؛ حالة الدولة الفاطمية والدولة الموحدية. ونقرأ في ختام هذا الفصل بروز عبد الكريم الزعيم ابن قاضي أجدير ودوره في توحيد الريف أمام التهديد الاسباني، بالرغم من الصراعات العائلية العنيفة التي سبق أن رصدها الكاتب في الفصول السابقة. وتحدث عن حركة الزعيم الريفي "عبد الكريم" مع ذكر العديد من القبائل التي اجتمعت حوله، حتى انهزم أمام القوات الفرنسية والاسبانية وبالتالي انهارت البنية السياسية التي كونها هذا الزعيم الريفي.
*خاتمة
يعود المؤلف في خاتمة هذه الدراسة مرة أخرى إلى المؤرخ ابن خلدون الذي انتبه إلى الفوضى التي عمت الحياة الاجتماعية واضمحلال الأسر البربرية الحاكمة وسبب ذلك، الرشوة والإغراء الذي تمارسه المدن على سكان الفيافي المتعطشين لحياة أجود والقادرين على الاستيلاء على السلطة، لكن يظلون غير قادرين على المحافظة عليها أمام نعومة الحياة الحضرية، وبالتالي فالبدو والقوة الخلاقة لمؤسسي الإمبراطوريات يمثلان القوتين المتصارعتين والمتحكمتين فيهم، والتي تقتل إحداهما الأخرى.
إن دراسة المؤسسات البربرية هي ركام بعض التنظيم الذي كان سائدا في إفريقيا الشمالية. يربط في هذه الخاتمة التنظيم السياسي والفوضى المنظمة بعبقرية الجنس. كما إن اختفاءهم هو راجع بالأساس إلى إضعاف نواتهم الصلبة التي تعتبر القلب النابض لدولة البربر. فيما يعود ضعف الدول العربية التي تشكلت بالمغرب الكبير إلى ضعف الحكومة المركزية أمام حركات السيبة وتمرد القبائل. بعد ذلك يؤكد الباحث بأن البربر لا يسعون إلى تشكيل برلمان ولا إلى الاستقلال عن العرب، بل هم متمسكون بديانتهم الإسلامية بشكل كبير، وفي الوقت نفسه أوفياء للعرف. إن العودة إلى التاريخ الاجتماعي للمغرب تجعل من الصعب إحداث التفرقة بين البربر والعرب، بل تذهب إلى كون هذه التفرقة يمكن أن تؤدي إلى الفوضى.
لقد اعتمد الباحث المنهج الدوركهايمي في إنجاز دراسته، الموضوعية في تناول الوضع الاجتماعي والتاريخي الذي كان سائدا في المجتمع المغربي، وهو ما تعكسه الكتابات التاريخية بشكل عام. تأتي هذه الترجمة في وقت بدأ النقاش يحتد في المغرب الكبير حول المسألة الأمازيغية مع ظهور العديد من الهيئات والجمعيات التي تسعى إلى حماية الثقافة الأمازيغية. مثلما تأتي هذه الترجمة في فترة بدأت تعرف فيه الهويات المحلية، والتي عبر عنها الباحث بالدويلات، تصاعدا، حيث أضحت تتجاوز المحلي لترتبط بالعالمي. إن هذه الترجمة سوف تساعد على فتح نقاش جدي داخل الجامعة المغربية والمغاربية حول المسألة الأمازيغية والعلاقة بالعرب.
*موقف الباحث معدّ هذه القراءة
دعوة إلى استعادة تجربة البحث السوسيولوجي العلمي
إن العودة إلى البحث والتنقيب في التراث السوسيولوجي لبروبير مونطاني وجاك بيرك وبول باسكون، يجعلنا نتساءل، حول مصير السوسيولوجي بالجامعة المغربية، حيث يعيش هذا العلم انحرافا وتخريبا لقواعده، ففي الوقت الذي يجعل هذا العلم من البحث في "قوانين" الحياة الاجتماعية والهويات المحلية والنظم الاجتماعية والثقافية، والعودة إلى التاريخ بهدف فهم مجريات الوقائع الاجتماعية وكيف تتطور.
إن غنى أعمال روبير مونطاني وجاك بيرك وبول باسكون بالمعطيات الميدانية والتجريبية، تجعلنا نتساءل اليوم حول مصير "درس السوسيولوجيا" في الجامعة المغربية، الذي نعتبره فارغا من البحث الميداني المواكب للظواهر الاجتماعية، مما جعل منه درسا قريبا من التأريخ للاجتماعي وللمؤسسات في أحسن الحالات، وغارقا في الإنشائية والمناقشات القائمة على استخدام اللغة، سواء عربية كانت أم أجنبية؛ أي ما أسميه "بسوسيولوجيا المناقشات" القائمة على ابتداع سوسيولوجيات متشظية لا تنتبه للكل الاجتماعي.
سوسيولوجيات متشظية تحوم حول الظواهر بدل أن تبحثها في الآن ذاته نظريا وميدانيا خلال فترة زمنية طويلة، تمكن من رصد الانتقالات وأشكال السيرورات ونوعية القوى المحركة للديناميات، التي تفعل فعلها في المجتمع المغربي الذي يعيش فترة تحولات سريعة ومتلاحقة منذ تطبيق سياسة التقويم الهيكلي وتغير وظائف الدولة وتطبيق اتفاقيات التبادل الحر وتوسع الحدود، وظهور أشكال جديدة من الغنى والفقر والهشاشة والجريمة وأشكال التواصل الجديدة والهويات الرقمية وبروز الحيز الرقمي للأفراد، سواء داخل الأسرة أو في الشارع أو داخل مؤسسات الدولة والمقاهي.
في مقابل هذه التطورات، التي تستدعي البحث الإمبريقي والتفكير في تحول المجتمع، نجد البحث السوسيولوجي مختزلا في تقنيات ومنوغرافيات وإنتاج نصوص لغوية، تسمى سوسيولوجيا كذا... وسوسيولوجيا كذا، كما تشهد على ذلك عناوين بعض الإصدارات الحديثة.
ولتجاوز أزمة السوسيولوجيا بالجامعة المغربية لا بد من العودة إلى روبير مونطاني وجاك بيرك وبول باسكون تحديدا لارتباط أبحاثهما بالوقائع المغربية والكف عن جلب إشكالات من خارج السياق المغربي والترويج لمفاهيم لا تعدو أن تكون فارغة المحتوى، وهذا كله لكي لا نتفاجأ - الباحثون في السوسيولوجيا - بالظواهر والأحداث والوقائع مثلما تفاجأ العديد من الباحثين في هذا الحقل خلال سنوات التسعينيات بالظاهرة الإسلامية وبعد مرور عقد من الزمن؛ أي في بداية الألفية الثالثة سوف تكون مفاجأة الإرهاب والتفجيرات الانتحارية، ثم ستكون بعد ذلك مفاجأة ظاهرة ما بات يعرف "بالربيع العربي"، ظواهر تحمل بين طياتها الاستمرارية وتتقاطع مع التغيرات الذي يعرفها العالم.