حين نتحدث عن القراءات التاريخية للقرآن، أي تلك القراءات التي تقوم "بوصل الآيات بظروف نشأتها و بيئتها" لو أخذنا بهذا التحديد الذي وضعه لها طه عبد الرحمن في تناوله لهذا الجانب من القراءات الحداثية للقرآن تحت عنوان "خطة الأرخنة" ، فأول ما سيتبادر إلى أذهاننا أسماء مثل نصر أبو زيد ومحمد أركون، ربما بصورة أقل و بسبب عدم شهرته عربيا، قد ينضاف إلي القائمة اسم الباكتساني فضل الرحمن مالك، فهذه الأسماء الثلاثة مشتهرة باشتغالها على القرآن وفقا لمنهجيات حديثة تمثل الأرخنة جزءا رئيسا منها، لذا فإنهم حاضرون في كل حديث عن "التاريخية"، في هذا السياق يحاول هذا المقال تحقيق هدفين رئيسين:
الأول: كشف مدى تعددية وتركيب مفهوم "التاريخية" و كيف أن "الأرخنة" ليست كلمة شفافة أو واضحة تستطيع الإحالة بكل بساطة إلي نمط محدد من التعامل مع النص القرآني أو إلى برنامج مطرد من "عمليات منهجية" في التعامل مع علومه يجمع كل هؤلاء نصر وأركون وفضل بل وغيرهم كما قد نستشف من قراءة طه، فما نراه وما نحاول البرهنة هنا عليه هو عكس هذا تماما، حيث نظن أن كل مفكر من الموسومين بالتاريخية يمتلك قراءة خاصة تحمل كثيرا من الاختلافات عن قراءة غيره، وأن هذه الاختلافات ليست سطحية أو ظاهرية أو إجرائية، بل هي خلافات شديدة العمق، حيث ترتبط بتصور كل منهم ل"التاريخ" الكلمة المفتاحية في هذا القراءة، سواء من حيث تعيينه –أي تاريخ يتم موضعة القرآن في سياقه؟- أو من حيث طبيعته –هل التاريخ هو موضع التغير والصيرورة أم أنه قد يحمل قدرا من الثبات قد يقارب اللاتاريخ ؟!-، بالإضافة لاختلافهم في الدور التي تضطلع به عملية "الوصل" هذه أو ما نسميه ب"التسييق التاريخي" داخل عدتهم المنهجية المشغلة على القرآن بغية إنتاج المعنى.
هذه الاختلافات الممتدة على مستوى المفاهيم الرئيسة والمنهجيات ينتج عنها تباينات عميقة في تصور كل منهم للقرآن من حيث "كينونته" أي مدى احتفاظه باستقلال تجاه الواقع الجاهلي وتغيرات زمن الدعوة، و لهذه التبيانات انعكاسات كبيرة على برامجهم تمتد من "العمليات المنهجية" الدقيقة كتعاملهم مع علوم القرآن المتعلقة بعلاقته بالتاريخ -مثل أسباب النزول و النسخ و فكرة التنجيم- وتصل حد تصور كل منهم لطريقة قراءة النص وإنتاج المعنى، مما يعني أننا هاهنا لا نتحدث عن تاريخية واحدة، بل في حقيقة الأمرعن تاريخيات.
الهدف الثاني لهذا المقال هو توسعة اشتغالنا على التاريخية بحيث لا نقتصر على من يمكن اعتبارهم "تاريخانيين محترفين"، أي هؤلاء الذي يمثل القرآن وآليات قراءته محور اشتغالهم الرئيس وربما الوحيد مثل أركون ونصر وفضل الرحمن، بل توسعة إطار البحث ليشمل بعض المفكرين الذين وإن لم يعرف عنهم اشتغالا رئيسا على القرآن أو منهجيات قراءته و تأويله، إلا إن لهم كتابات تناولت علاقة "الوصل" هذه، وطرحت أفكارا ورؤى تتعلق بكينونة نص القرآن وعلاقته بتاريخ تشكله، نتحدث هنا بالأساس عن مفكرين اثنين هما عبد الله العروي وهشام جعيط، حديثنا عن العروي يتعلق بكتابه الأخير "السنة والإصلاح" و الذي تحدث فيه عن القرآن وعن إبراهيم "الراموز" وعن أمية النبي وعن مفاهيم "العهد" و"النداء" و"التوبة"، إلى جانب طرحه أسئلة تتعلق بالقرآن وقراءته وأي ترتيب هو الأفضل لتحصيل الفهم، الترتيب الحالي في المصحف، أم ترتيب النزول أم ترتيب ثالث؟ وهي أفكار وتساؤلات مهمة لموضوعنا حيث تتعلق بتصور معين ل"تاريخ" الإسلام والقرآن، ولكينونة القرآن. أما جعيط، فبسبب من كون القرآن هو مصدره "الرئيس" لكتابة السيرة، فقد كان عليه أن يتسائل عن علاقة القرآن بالتغيرات السياسية والدعوية الحاصلة في تاريخ نشر محمد لدعوته، وهل من الممكن الحديث عن وجود تغير في القرآن استجابة لتغير الواقع الدعوي كما يقول بعض المستشرقين أم لا، وهي أسئلة تتعلق كذلك بإشكال كينونة النص وعلاقته بالتاريخ، ما يبرر لنا القيام بهذه التوسعة ومد إطار البحث في التاريخية لهذين المفكرين.
"كينونة النص"
ربما الاسم الأبرز في الحديث عن التاريخية هو نصر أبو زيد، وربما هو من أكثر هذه الأسماء إثارة للنقد كذلك، من بين هذه النقودات التي صيغت ضد تاريخية نصر أبو زيد ، فثمة نقد شديد الوجاهة، قدمه له علي حرب في كتابه "الاستلاب والارتداد"، فعلي حرب ينتقد قراءة نصر للقرآن في كونها قراءة تهدر "كينونة النص" -والمصطلح لنصر نفسه وصف به القراءة التقليدية في كتابه "مفهوم النص" كما يشير حرب- أي أنها حين تحبس النص في إطاره الواقعي حيث تعتبره نصا "منتَجا" ثم "منتِجا" للواقع، فإنها تمنعه من وقائعيته هو الخاصة، "أي كونه واقعة تفرض نفسها على القارئ" (3)، إذ تحكم عليه هذه القراءة بالانتهاء بانتهاء ما ينتجه من وقائع وتصورات أو ينتج هو من وقائع مآلها التغير الدائم، فوقائعية النص هي وحدها التي تعطيه " قوته، وحضوره وصموده"، هذا النقد من حرب شديد الدقة، لكن ما نريد التركيز عليه هنا هو أن الإشكال الذي وقع فيه نصر والذي جعله يرهن النص للسياق التاريخي بحيث يفقد أي استقلال تجاه تغيراته أي يفقد وقائعيته كما يقول حرب، لا يتعلق في ظننا بإصرار نصر على موقع للتاريخ في القراءة أو "وصل الآيات بظروف نشأتها و بيئتها" بتعبير طه، بل يتعلق بماهية "التاريخ" الذي يصر نصر على موقعة القرآن فيه، المختلف من حيث "تعيينه" و"طبيعته" عن ماهية التاريخ المستخدم في قراءات أركون العروي وجعيط وفضل الذين يظل للنص عندهم كينونة خاصة في مواجهة التغيرات الجاهلية رغم وصلهم للآيات بتاريخها.
فمن حيث "تعيين التاريخ" الذي يتموقع داخله القرآن، فإن نصر يعين التاريخ المراد اختراقه داخل نظام القرآن والمسؤول عن تشكيل مفاهيمه وتشريعاته بالتاريخ القرشي العربي، ورغم أن نصر يذكر صلة هذا التاريخ بالتوحيدية الإبراهيمية ممثلة في ظاهرة الحنفاء تحديدا، إلا أنه وفي بحثه عن مفاهيم القرآن ودلالتها فإنه يرجعها لتاريخ قرشي كأنه خال من الإبراهيمية، يتضح هذا في إرجاعه صورة الله في القرآن لتصور العرب للملوك، و قصص الجن والشياطين والسحر لتصورات القرشيين الأسطورية، مع الغفلة عن صلة كل هذه التصورات بالكون التوحيدي الإبراهيمي، وهذا سببه أن دين إبراهيم في تصور نصر لتاريخ قريش، لا يتعدى كونه إيدولوجي الطبقات الطامحة للتغيير ضد الطبقات المسيطرة ، مما يعني أن التاريخ الذي يموضع نصر القرآن فيه هو تاريخ قرشي معاد تركيبه بحيث يخلو من التوحيدية الإبراهيمية المختزلة لمستوى الإيدولوجي.
هذا التاريخ الذي يتحرك فيه نصر يختلف كثيرا عن التاريخ عند البقية، حيث التاريخ مع البقية أكثر اتساعا؛ فقراءة القرآن "قراءة تزامنية" عند أركون لا تقف عند حد تاريخ الدعوة المحمدية ولا حتى فيما يسبقها في "المدة القصيرة" المليئة بالإضرابات التي يحكي عنها نصر، بل تقضي بإدراج خطاب القرآن -وقصصه خصوصا- في "المدة الطويلة جدا" بمصطلح بروديل، وتتسع هذه المدة عنده فلا ترتبط فحسب بالكتب التوحيدية الإبراهيمية " الأنجيل والتوراة"، بل تتعداها "لتشمل الذاكرات الجماعية الدينية في ثقافة الشرق القديم" (5)، الأمر نفسه مع العروي في حديثه عن كون الإسلام هو الوريث ل"نداء إبراهيم" و "عهده"، غير أن إبراهيم هنا ليس مجرد طبقة تاريخية قد تصل للمدة الطويلة أو الطويلة جدا كما عند أركون، بل كأفق ل"وعي كوني"، و"راموز" للحظة انفصال الإنسان عن الكوزموس، وهي لحظة كونية، تجعل العروي حتى لا يستبعد وجود إبراهيمات في ثقافات أخرى.
هذا الاتساع في معنى "التاريخ" والذي يمتد من الزمان المتوسط للطويل "أركون" للتاريخ "الرمزي والحكائي" "العروي" الواصل حدود اللاتاريخية أو "مابعد التاريخية" بمصطلح المصباحي، هو ما يجعل للنص كينونة خاصة في مواجهة التاريخ القرشي وتاريخ الدعوة، هذين التاريخين الذين قضى نصر على النص بالانحصار فيهما فتم اهدار أي كينونة له.
هذه الكينونة المستقلة للنص تظهر في بلورة "خطوات منهجية" شديدة الأهمية في عملية القراءة وإنتاج المعنى، منها حديث أركون عن "ألسنية خاصة للنص"، بما يعنيه هذا من أن كون العربية هي لغة القرآن، لا يعني أبدا عدم تميز لغته، أو ارتهانه للعربية لأسالبيها وتصوراتها، فلغة القرآن مختلفة عن اللغة العربية من حيث طبيعتها كلغة دينية لها آلياتها الخاصة في "توليد المعنى و تشكيل الوعي "، عبر القص و إشارية الضمائر و العلامات الزمانية و المكانية المحولة لرموز، فالمفردات المذكورة في القرآن وفقا له "لا تستخدم لذاتها، وإنما كعلامات ورموز إلي أشياء أخرى تتجاوزها" " مرتبطة بمفاهيم العهد و الميثاق و الحياة و الموت و الإيمان و الكفر" .
هذه الرمزية القرآنية الخاصة تحقق ما يتحدث عنه علي حرب من احتفاظ النص بوقائعية خاصة ، وطبيعي للغاية أن الاختلاف بين رؤية نصر وأركون للتاريخ و لكينونة النص تمتد إلي فكرته هذه عن الألسنية الخاصة، وما يرتبط بها من حديث أركون عن "وحدة النص"، وانسجامه الكلي "كعمل كلي واحد حيث تتشابك كل مستويات الدلالة و المعنى، تستند إلي ما كان قد دعي بالنسبة للتوارة ب"البنية المركزية للميثاق" أي كل ما يتعلق بكينونة النص، حيث أن نصر و رغم عدم اعتراضه على تميز اللغة الدينية، إلا أنه لا يرى هذا مبررا للبحث عن ألسنية خاصة لها، فضلا عن اعتباره حديث أركون عن الوحدة محض تطميينات أو ترضيات، تلك القراءة من نصر غير سليمة في ظننا، حيث أن خلافه مع أركون ليس خلافا في مقدار "التطمينات" المقدمة للمخالفين بل في تصور كل منهم للتاريخ، ولعل نصر نفسه يلمح ذلك حين يتحدث عن كون "تزامنية أركون عليها أن تتعلق بالزمن المحدود بدلا من الزمن غير المحدود" فخلافهم هو خلاف في معنى التاريخ محدودغير محدود وما يرتبط به من تصورهم لكينونة النص ووقائعيته وما يتعلق بهذا من عمليات منهجية.
كذلك تظهر هذه الكينونة المستقلة مع العروي في عدم تثمينه قراءة للقرآن بترتيب النزول، فلأن النص غير مرتهن لواقعه وتغيراته – أو لحظته المحدودة التي نعرفها من أسباب النزول بلغة نصر- فإن قراءته وفقا لترتيبه الزمني فحسب قد تهدر معناه، يقول العروي في جملة مكثفة عن ترتيب النزول "علم ينفع، لكن لا يكفي" ويقترح قراءة بتسلسل "أعمق من التسلسل الزمني، لا يعاكسه بالضرورة لكنه لا يوافقه تلقائيا، تسلسل يشهد على الصدع والكشف، على الانغلاق والانفتاح.. "
هذا الاتساع في التاريخ المستحضر في قراءة القرآن وما يتبعه من احتفاظ ب"كينونة للنص" وما ينتج عنه من "خطوات منهجية" في القراءة، نجده أيضا عند جعيط في كتابته للسيرة، فجعيط ينتقد هذه القراءة الاستشراقية التي تقول بوجود تغيرات في القرآن سببها تغير الواقع السياسي والدعوي وتغير أطراف المساومات المحمدية، حيث يمد جعيط تاريخ القرآن ولغته ومفاهيمه –خصوصا عن الوحي وجبريل- لآفاق أعمق تتعلق بالإبراهيمية في نسختها المسيحية الشرقية، مما يعطيه كينونة خاصة تجعل جعيط يتحدث عن "استراتجيه التكشف" (12) ليفسر ما يظن أنه تغيرا في مواقف القرآن، مفهوم "استراتيجية التكشف" إذن هو مفهوم منهجي هدفه ضبط العلاقة بين نص له كينونة خاصة وواقع متغير كان محمد يتحرك فيه ب"جهوزية تامة" دون تغيير أفكاره التغييرية.
وهذا "التكشف" الذي يتحدث عنه جعيط لأفكار مكتملة يشبه عند فضل ما يمكن لنا أن نسميه "تهيكل" القرآن في الواقع الجاهلي، حيث المسائل القرآنية الكبرى عند فضل تأخذ مركزيتها وتشكلاتها وتهيكلاتها كحقول مفاهيمية من خلال التفاعل مع السياق الجاهلي العقدي، لكنها ليست أبدا نتاجا له أو ردا عليه.
هذا يعني أن جعيط وفضل يستعيدون في قراءاتهم للقرآن التاريخ القرشي وتاريخ الدعوة "أي التاريخ قصير المدة"، لكن لا لتفسير تصورات الإسلام ومفاهيمه عبر هذا التاريخ كما عند نصر، بل فحسب للوقوف على "تكشف" هذه المفاهيم و"تهيكلها" في الواقع، وهذا ما قصدناه باختلاف التاريخانيين في الدور الذي يلعبه "وصل الآيات بظروف نشأتها" أو في "التسييق التاريخي".
فالفارق مع هؤلاء جميعا وما جعلهم ورغم استحضارهم ل"التاريخ" لم ينفوا احتفاظ النص بكينونة خاصة في مواجهته عكس ما حدث مع نصر، هو اختلافهم معه في ماهية "التاريخ" من حيث تعيينه، فاستحضار التاريخ لا يعني ببساطة إهدار كينونة النص، هذا ما تقوله قراءات أركون والعروي وجعيط، التي وبسبب رؤيتها للتاريخ تعطي للنص كينونة خاصة، تجعل استحضار حتى التاريخ الضيق "تاريخ قريش وتاريخ الدعوة" يعمل لا على تفسير النشأة كما عند نصر بل على تفسير "التهيكل" و"التكشف" كما رأينا عند جعيط وفضل.
السبب الآخر لاختلاف مفكري التاريخية في التعامل مع "كينونة النص"، هو الخلاف بينهم في النظر ل "طبيعة" التاريخ، فلأن نصر يعطي للتاريخ معنى التغير الدائم، فإنه يخلط بين احتفاظ النص بكينونته تجاه الواقع وبين وجود التاريخ داخل نظامه، فيجعل كينونة النص مرتبطة بتصور طبيعته كنص له وجود أزلي سابق على دعوة محمد، في حين تاريخيته تعني فورا عدم ثباته وإهدار"كينونته"، فكأن ثبات المعنى رديفا للإطلاق يرتفعان سويا ويحضران سويا، لذا فإن نصر في معرض دراسته الذي ذكرناها بالأعلى عن أركون يتسائل "كيف يمكن القول بوحدة النص مع التاريخية؟" كاشفا عن تعارض الوحدة والتاريخية، أما بالنسبة لأركون والعروي فالنص عندهم يحتفظ بكينونته ووحدته في مواجهة ملابسات الدعوة وتغيراتها، ليس هذا بسبب لا تاريخيتهم بل بسبب أن تصوراتهم للتاريخ القائم في النص والذي يقرأ النص من خلاله لا تتحرك في هذه الثنائية التي تحكم فكر نصر، بين تاريخ قصير المدة يضيع منه أي ثبات من جهة وبين أزل وإطلاقية وثبات في جهة أخرى، فتبنيهم مفاهيم التاريخ الطويل والتاريخ الحكائي يجعلهم تاريخيين يحمل تاريخهم قدرا من الثبات قد يقاربهم من اللاتاريخية، فكأن الثبات لا يعني الأزلية كما يتصور نصر، بل هو أحد طبائع التاريخ ذاته!
ما ذكرناه من خلافات حول "التاريخ" و "كينونة النص" له انعكاسه لا على "الخطوات المنهجية" التي يبلورونها في القراءة فحسب، بل كذلك على تفاصيل دقيقة في "العمليات المنهجية" لهؤلاء المفكرين، خصوصا تعاملهم مع أسباب النزول والنسخ وعلوم القرآن التي تتحدث عن علاقة القرآن بالواقع، فالأمر ليس وكما يقول طه عبد الرحمن من كون "التاريخانيين" يلجأون لهذه العلوم لإثبات ارتهان النص للواقع، ففي هذا المحدد المنهجي الدقيق أيضا يختلف التاريخانيون، فبينما بالفعل يثمن نصر أسباب النزول لإثبات ارتهان النص للواقع وخلوه من أي وحدة أو كينونة خاصة أو مركز دلالي، فإن أركون مثلا يرفض هذا العلم كله، ويضع بدلا عنه فكرته عن "ظرف الخطاب"، وهو مفهوم هدفه الوصول للقرآن في مرحلة الشفاهة "الظاهرة القرآنية"، و لهذا المصطلح صلة بوحدة القرآن وما قلناه من انسجامه التركيبي و الدلالي، ما يعني أن خلافات التاريخية ممتدة من "التاريخ" ل"النص وكينونته" ل"خطوات منهجية" منها "دور التسييق التاريخي في القراءة " لمحددات منهجية شديدة الدقة.
رهان المعنى و"التاريخية المركبة"
ما حاولنا توضيحه في هذا المقال من خلاف التاريخانيين حول "كينونة النص" يجد أهميته في كون الخلاف في كينونة النص يعني أصلا خلافا في رهان المعنى، حيث لا تعِد برامج القراءة التي أمامنا بنفس الوعود بسبب اختلافاتها شديدة العمق هذه، فقراءات أركون أو تصورات العروي وما تنطوي عليه من إدراك لكينونة النص بسبب تعدد طبقات تاريخه وبنيته الرمزية الحكائية تعد بقراءة منفتحة لنص مليء بالمسكوتات والغائبات، قراءة تحرك رموزه وتنفتح على "العجيب المهدش" وتنتقل من التاريخ لما وراءه.
بينما قراءة نصر وحين تموضع القرآن في تااريخ قرشي قصير المدة معزول عن التوحيدية الإبراهيمية وعن التاريخ الأطول للجزيرة، وتتحدث عن قرآن يتماشى مع تغيرات الدعوة واقعيا. وتتجاهل الرمز والأسطورة وأهمية وظائفهم الكشفية، فإنها تحول النص لنص بلا أية مسكوتات، نص لا يملك أي قدرة على الحركة، -من أين ستأتي الحركة والقرآن محصور بلا رمز في تاريخ ضيق؟- مما يعني أنها تعد بقراءة شديدة السكون.
إن استحضار سياق الآيات التاريخي أو "وصل الآيات بظروف نشأتها و بيئتها" كمحدد في عملية التفسير لا ينتج شكلا واحدا من التاريخية أو من خطط الأرخنة وعملياتها المنهجية وخطوات القراءة، في حقيقة الأمر إنه ينتج طيفا من برامج قراءة شديدة التباين، تتحرك من "التاريخية الواقعية" لو أسمينا تاريخية نصر بهذا الاسم إلى ما يمكن أن نسميه استعارة من المصباحي ب"التاريخية المركبة" مع أركون والعروي وجعيط وفضل، مع العلم بأن هذه الأخيرة ليست هي أيضا سوى طيف!