حركة خارج السرب | مواطنة كونية...هل يمكن الجمع بين الكوسموبوليتية والديمقراطية؟
مواطنة كونية...هل يمكن الجمع بين الكوسموبوليتية والديمقراطية؟
2019-08-22 | 1572 مشاهدة
مقالات

مواطنة كونية...هل يمكن الجمع بين الكوسموبوليتية والديمقراطية؟


أستاذة الفلسفة سيلا بن حبيب: كيف‮ ‬يمكن وضع البنى الديمقراطية في‮ ‬إطار تنال به الاتفاق على المستوى العالمي؟ ألا تعوق العولمة الديمقراطية؟ ‮ ‬لكن سن حقوق أساسية عامة للانسان،‮ ‬في‮ ‬استقلال عن الشعب أو عن الدولة القومية،‮ ‬تقليد ضارب في‮ ‬القدم‮.‬ ‮ ‬إنه‮ ‬يمتد من كانط إلى هابرماس،‮ ‬ويطرح الأسئلة الحاسمة في‮ ‬القرن الحادي‮ ‬والعشرين.

إن مناسبة احتفال هابرماس بعيد ميلاده الثمانين، مدعاة لي للاحتفال أيضا. فقبل ثلاثين سنة توجهت في إطار منحة لمؤسسة ألكسندر فون هامبولت، وبالضبط في خريف 9791 إلى ألمانيا للدراسة لدى هابرماس في مؤسسة ماكس بلانك في ستارنبيرغ.

ومنذ البداية أدركت أن هابرماس هو الشخصية المعاصرة في التقليد الطويل للكوسموبوليتية. وتعني الكوسموبوليتية بالنسبة لي الاعتراف بأن البشر شخصيات أخلاقية لها الحق في الحماية من طرف القانون، وليس ذلك انطلاقا من الحقوق التي يتمتعون بها كمواطنين أو أعضاء في مجموعة إثنية ولكن ببساطة كبشر.

علاوة على ذلك تعني الكوسموبوليتية بأن حدود البلدان في القرن الحادي والعشرين ستزداد شفافية وأن العدالة داخل الحدود والعدالة خارج الحدود ستصبحان أكثر التحاما، حتى وإن حدثت توترات بينهما. وانطلاقا من هذا الموقف الإنساني والكوسموبوليتي نجد عند هابرماس منذ البداية إرادة "إشراك الآخر" بغض النظر عن انتمائه القومي.

لكن فهم الكوسموبوليتية بهذه الطريقة يجعل من الصعب التوفيق بينها والديمقراطية. فالديمقراطية تعني بناء جماعة سياسية بقواعد واضحة، يتم عبرها تحديد العلاقات بين الداخل والخارج. وفي الديمقراطية يستمد الدستور شرعيته من الإرادة الجمعية والمتحدة للشعب، وكما يقول البند العشرون من الدستور „كل سلطات الدولة مصدرها الشعب“. فالشعب الديمقراطي يقبل سلطة القانون لأنه في الآن نفسه واضع ومستقبل هذا القانون. إن مواطن ديمقراطية ما ليس بالمواطن العالمي، بل مواطن داخل مجموعة سياسية محددة، بغض النظر عما إذا كان ذلك يتعلق بدولة مركزية أو فدرالية، باتحاد أوروبي أو اتحاد للدول.

لكن كيف يمكن التوفيق بين ذلك والرؤية الكوسموبوليتية للعدالة غير المرتبطة بحدود دولة ما؟ أو مع رؤية تقول بالحدود الشفافة التي لا يملك ممثلوا الشعب سلطة كبيرة عليها؟ وأليس „الحق في أن تكون لنا حقوق“، في لغة حنا آرندت، هو دائما حق الإنسان العضو في مجموعة سياسية معينة؟ إذن هل يعني ذلك أنه يتوجب تسمية ذلك ليس بالكوسمبوليتية والديمقراطية ولكن بالكوسموبوليتية أو الديمقراطية؟ ما هي العلاقة إذن بين القيم والآمال الكوسموبوليتية والديمقراطية الدستورية؟

أريد أن أبدأ بتقديم نبذة عن الكوسموبوليتية في تاريخ الفكر السياسي، لأعود بعدها لمشكلة الحدود الوطنية التي توضح أكثر من غيرها التوترات القائمة بين الكوسموبوليتية والديمقراطية.

 

الكوسموبوليتية نبذة تاريخية موجزة

يتكون مصطلح الكووسموبوليتية من «كوسموس» أي الكون و «بوليتس» المواطن. وتوجد توترات واضحة بين هذين المصطلحين. مونتين كتب بأن أحدهم سأل سقراط عن وطنه فأجاب: ليس أثينا ولكن العالم. فسقراط الذي كانت معرفته أكبر وأعظم من كل الآخرين نظر إلى الكون كوطنه ومعرفتة وأعماله الخيرة وحسه المدني كانت لكل البشرية، بعكسنا نحن الذين لا ننظر إلا لأقدامنا. لا أحد يعرف إن كان ذاك فعلا جواب سقراط لكن القصة نقلها سيسيرو في كتابه محادثات نوسكولوم وإيبكتيت في «المباحثات» وبلوتارك في كتابه دي إيغزيليو حيث يمدح سقراط لأنه ليس أثينيا أو يونانيا ولكن رجلا «كونيا».

لكن ماذا يعني أن يكون المرء كونيا وكيف لكوني أن يكون ديمقراطيا إذا كانت الديمقراطية بالنسبة عند اليونان لا تتحقق إلا داخل حدود الدولة؟ أرسطو كان يقول بأنه للحياة خارج حدود المدينة يتوجب على الإنسان أن يكون إما حيوانا أو إلها. وبما أن البشر ليسوا هذا ولا ذاك والكوسموس ليس المدينة، فإن الكوسموبوليتي ليس فعلا بمواطن ولكنه كائن آخر. ويؤكد الكلبيون مثل ديوجين هذا الاستنتاج، ويزعمون بأنهم لا يشعرون في كل مدينة بأنهم في بيتهم، وإنما هم لا يبالون بكل المدن. إن الكوسموبوليتي رحالة دون وطن، يعيش في انسجام مع الطبيعة والكون ولكن ليس مع مدينة البشر التي ينأى بنفسه عن ترهاتها. إن بعض المعاني السلبية لهذا المصطلح والتي نعرفها من التاريخ اللاحق، مثل النقد الموجه لـ «الكوسموبوليتية المجثة»، نصادفها في هذه العصور القديمة.

لكن ضد هذه الصيغة السلبية عن الكوسموبوليتية كثقافة ترحال بلا مدينة دولة، تقوم الحكمة الرواقية التي ترى أن الإنسان لا يقتسم مع الآخرين القوانين السائدة داخل دولة ما ولكن أيضا العقل الذي يجعل من البشر كائنات عاقلة. في تأملاته الذاتية كتب مارك أوريل „إذا كنا نشترك في ملكة التفكير فإن ذلك يعني أننا نشترك في العقل. وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أننا نشترك في القوانين، وإذا كان الأمر على هذه الحال، فذلك يعني أننا كمواطنين نشارك في إدارة دولة، وإذا كان الأمر كذلك فإن العالم هو في الآن نفسه دولة“.

إن فكرة نظام يتجاوز الاختلاف بين حق الناس في دول متعددة ويتجذر بدلا من ذلك في النظام العقلاني للطبيعة، سوف تتحد في القرون اللاحقة بالمبدأ المسيحي عن المساواة العامة. فقد ألهم القانون الطبيعي للرواقيين فكرة الدولة الإلهية المسيحية خلافا لدولة البشر الأرضية، لتجد في النهاية طريقها إلى نظريات القانون الطبيعي للفكر السياسي المعاصر لدى توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو و إمانويل كانط.

هذه التقييمات السلبية والايجابية المرتبطة بكلمة كوسموبوليتي والتي نصادفها بدءا في الفكر اليوناني والروماني ستستمر عبر القرون: فالكوسموبوليتي هو شخص ينأى بنفسه سواء في فكره أو سلوكه عن الأعراف والقوانين وينظر إليها من وجهة نظر نظام أسمى، هو العقل. أما المنظر الذي سيبعث الحياة في الرؤية الرواقية للكوسموبوليتية وسيعطي لهذا المفهوم اتجاها جديدا فهو إمانويل كانط. فمع كانط سنرى بأن الكوسموبوليتية والديمقراطية، وقد أدمجتا في دستور جمهوري، ليستا بالضرورة غير قابلتين للوحدة، بل لربما يتطلب فعلا كل واحد منها الآخر.

 

عن قنطرة