بقلم حكمت البخاتي
لقد ختمت الأنظمة السياسية بالديمقراطية في العالم الحديث، ولم يعد هناك حديث الا على مستوى المعرفة النظرية عن النظم السياسية التي ظلت لصيقة بالتاريخ البشري منذ ظهور المدينة/القرية الزراعية الأولى في هذا التاريخ، والحاجة التي انبثقت عن نشأتها وظهورها الى النظام السياسي الذي ينظم العلاقة بين الشعب – المحكومين والحاكم ويسعى الى ادارة وتنظيم موارد المجتمع.
والعقد الاجتماعي الذي تحدث عنه مفكرو التنوير منذ القرن السابع عشر الميلادي والذي نظم هذه العلاقة بالممارسة المفترضة تاريخيا، وفيها تنازل الأفراد بطوع ارادتهم عن حقوقهم الطبيعية والفردية لصالح الحقوق العامة والمجتمعية التي رمزت اليها سلطة الحاكم – الملك.
كان هذا العقد يشكل وافتراضا أيضا جوهر وأساس النظام السياسي، وكانت الغاية من فكرة العقد الاجتماعي هو التأسيس للديمقراطية في أول انتقالة من الحالة الطبيعية التي عرفها هوبز بأنها حرب الكل على الكل الى النظام السياسي، وفي هذا التأصيل التاريخي القديم للديمقراطية من خلال فكرة العقد الاجتماعي وذلك التضمين الديمقراطي لها، كانت الديمقراطية تكتسب مشروعيتها القانونية وشرعيتها الانسانية – التاريخية، وبذلك تكون هي الخطوة الأولى نحو تأسيس الاجتماع البشري السياسي ومن ثم تكوين النظام السياسي الذي يعد بدوره انتقالا من طور القبيلة الى طور المدينة التي ظهر وساد فيها الحاكم – الملك وطور القوانين العرفية بواسطة التدوين، فتأسست القوانين الرسمية وضمنت وكرست له السلطة.
وحتى يتخلص الحاكم – الملك من فكرة التفويض اليه من الشعب ابتكر هذا الحاكم – الأول فكرة التفويض اليه من الآلهة لإزاحة الحق العام للشعب في التفويض بالنسبة للسلطات وإزاحة المشروعية المشروطة بهذا التفويض واستبدالها بمشروعية الوكالة أو النيابة عن الآلهة التي ابتكر فكرتها وأسس لها هذا الحاكم – الدكتاتور الأول، ومن هذه الوكالة المدعاة زورا استمد مشروعية الحكم المطلق، بل ذهب بعيدا هذا الحاكم – الدكتاتور وادعى أن دماء الآلهة الزرقاء تسري في عروقه وهي التي تمنح أسرته وذريته حق الحكم والملك غير القابل للاستبدال بالحق الشعبي.
وهكذا تم تقويض الديمقراطية -بما أنها تخويل ومنح الصلاحيات من الشعب الى الحاكم- في مهدها ولحظاتها المبكرة في تاريخ البشرية والتي ما ان قاربت خطوط التطورات الكبرى العلمية والاجتماعية والاقتصادية في العصر الحديث حتى التجأت الى إحياء فكرة العقد بين الشعب والحاكم واستنزالها من حيزها الافتراضي الى الحقل الواقعي لها في السياسة ونظام الحكم واقتراح الديمقراطية مسارا سياسيا وتاريخيا للإنسان الحديث.
وكانت الأهمية الفائقة التي اكتسبتها الديمقراطية في العالم الحديث انها جاءت نتيجة تجارب مؤثرة وملحمية ومأساوية في أغلب الأحيان خاضتها البشرية في ظل أنظمة الحكم القديمة، من أرستقراطية ونعني حكم الأفضل أو الطبقة الذهبية، الى أوليغاركية وتعني حكم الأقلية وهي غير مشروطة بمبادئ الارستقراطية وتنصرف الى الاهتمام بمصالحها الخاصة، الى ثيوقراطية وتعني الحاكم الفرد الذي يحظى بالمنصب بالتعيين وليس بالانتخاب وغالبا ما تكون الحكومات الدينية من هذا النوع، الى دكتاتورية تؤمن بالحكم المطلق وقد تكون بيد الحاكم الفرد مثل الثيوقراطية وقد تكون بيد حزب أو مجموعة وهنا تختلف عن الثيوقراطية، وقد ينصرف الدكتاتور الى حكم القانون بالقوة ويعبر عنه بالمستبد العادل.
وكل هذه الأنظمة جاءت في أعقاب التحول من طور القبيلة أو البدائية الديمقراطية الى طور المدينة/القرية الزراعية، وهي تشكل بمجملها أساليب أو وسائل التخلي عن آلية او مبدأ التفويض الذي كانت تمارسه القبيلة تجاه الممثلين لها من المسنين او الحكماء أو وفق نظرية العقد الاجتماعي هو التفويض الممنوح من الشعب الى الحاكم، ورغم أفول تلك الأنظمة وانتهاء عصورها السياسية لكن ظل خطر الدكتاتورية قائما في العصر الحديث، وظل يهدد المصلحة العامة للشعب والدولة وغالبا ما توضع الديمقراطية في هذا العصر في قبالة هذا النوع من انظمة الحكم أو هي البديل المطالب به في ظل هكذا نوع من الأنظمة الدكتاتورية.
أنواع الديمقراطية في المسار التاريخي
تعد أول أنواع الديمقراطية التي سبقت كل أنواع النظم السياسية وليس النظم الديمقراطية فحسب، هي الديمقراطية المباشرة التي يكون فيها الشعب هو المشرع المباشر للقوانين والأنظمة والمنفذ المباشر للسلطة - مع ضبابية هذا المصطلح "السلطة "في تلك الحقب القديمة من التاريخ - عبر الالتزام بهذه القوانين وفاء والتزاما بالواجب الاخلاقي - الفطري تجاه الجماعة، فالجماعة الأولى كانت تشكل كتلة واحدة بنفي التفاوت ونفي التمايز او التمييز، وكانت القبائل البدائية الأولى وقبل طور المدينة/طور الحاكم – الملك تدبر شؤونها وتمارس نفوذها الجمعي بهذا النوع من الديمقراطية بإجماع أفراد القبيلة كلها أو بأجماع ذوي السن والحكماء منهم، وليس هناك رئيس او ملك مستبد يحكم برأيه دون رأي الكل، وهو تأويل يكشف عن تأصيل للديمقراطية في تاريخ الطبيعة الاجتماعية البشرية.
وقد تحدث جان جاك روسو عن هذه الديمقراطية المباشرة وأطلق اسم السيدة على السلطة التشريعية التي يمارسها الناس مباشرة واسم الخادمة على السلطة التنفيذية والقضائية التي يعين الشعب أفرادها، وكان روسو شديد النقد للديمقراطية الانكليزية ويعتبرها من قبيل الوهم لأن الإنكليز لا يديرون شؤون التشريع والحكم مباشرة وانما عن طريق هيئة منتخبة.
وتعد الشورى الاسلامية تطورا مباشرا عن هذا النوع من الديمقراطية المباشرة وقد جاء تطويرها على يد الشريعة الاسلامية بعد ان كانت عرفا اجتماعيا أوليا تمارسه القبيلة العربية، واكتسبت شرعيتها الدينية مع الممارسة النبوية لها بعد ان نص على ذكرها القرآن الكريم في آيتين جاءت في قوله تعالى "وأمرهم شورى بينهم" وفي قوله تعالى "وشاورهم في الأمر" وبذلك دخلت في مصدري الشريعة وهما الكتاب والسنة، رغم أن التاريخ السياسي في الاسلام ودوله قد شهد تأخيرا او تغييبا لها في الحياة السياسية الإسلامية، لكن الفقه الاسلامي المتأخر عاد الى الاهتمام بها مجددا ودخلت في التداول الفقهي والأصولي العلمي لها مؤخرا لا سيما في كتابات الفقيه المعاصر السيد مرتضى الشيرازي.
وقد تطورت الديمقراطية المباشرة في مسارها التاريخي الى الديمقراطية النيابية التي استحدثت منصب النائب وابتكرت فكرة مجلس النواب الذي يقوم بمهام النيابة أو الوكالة عن الشعب، والوكالة هي الغطاء القانوني التي من خلالها يكتسب النائب شرعية مهمته النيابية وتأدية وظيفته السياسية والاجتماعية بآن واحد، ويكون مجلس النواب بمجموع كل أعضائه تعبير عن الارادة العامة للشعب. لكن تظل امكانية تمثيل النائب الفرد للأمة قائمة من الناحية القانونية وليس هذا التمثيل مشروط بمجموع هؤلاء النواب.
ويبدو أن فكرة الأغلبية في سن وامضاء التشريعات ابتُكرت للخلاص من مأزق اشكالية التمثيل للأمة أو للإرادة العامة للشعب للنائب الفرد أو للنواب بالمجموع.
وكان هناك حل آخر اقترحه الفكر السياسي ويبدو أنه على وتيرة تحقيق التمثيل الكلي للأمة ولو بشكل جزئي لكنه أقرب الى الواقع لمسألة التمثيل للأمة والتعبير عن الارادة العامة للشعب، وهو حل الديمقراطية شبه المباشرة، وتقوم فكرته على الرجوع الى الشعب مع وجود مجلس النواب الممثل للشعب باعتبار الشعب هو مصدر السلطات وبذلك تكون قراراته تمتلك مشروعية مطلقة ونافذة، وتكون هذه الحالة في القرارات الهامة التي لا يجرؤ أو يعجز مجلس النواب عن اتخاذ قرار بشأنها رغم قدرته وصلاحيته في التشريع.
ومن صور هذه الديمقراطية شبه المباشرة هي عملية الاستفتاء الشعبي كما حدث في بريطانيا بخصوص الخروج من الاتحاد الأوربي، التي أراد مجلس العموم البريطاني التخلص من مأزق اتخاذ قرار بهذا الشأن بسبب الحساسية السياسية والاقتصادية في هكذا نوع من القرارات التي تتصل بمصير الشعب مباشرة فأحالها الى الشعب وحكومته التنفيذية، وكذلك حق الاعتراض الشعبي الذي يتمثل في الاحتجاجات على سياسات الحكومة أو قرارات البرلمان، فتضطر السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية الى إلغاء هذه القرارات والسياسات.
وهناك امثلة عديدة في عالم اليوم على هذا التحول في التعامل مع الديمقراطية النيابية والرجوع مرة أخرى الى الديمقراطية المباشرة، وقد شهد هذا النوع من الديمقراطية المباشرة احياء مستمر له في الدول وعند الشعوب الديمقراطية استجابة الى المتغيرات السياسية والاقتصادية التي تحدث في عالم اليوم، وحتى الدول التي تعمل بالديمقراطية الشكلية والفاقدة للتضمين الديمقراطي الحقيقي اضطرت أخيرا الى الاستجابة لمطالب شعوبها وأخضعت برلماناتها الى شروط الشعب ومطالبه، واذا لم تستجب فإن الشعوب تعمد الى اسقاط حكوماتها وأنظمتها كما حدث أخيرا في الجزائر والسودان، وينطبق أيضا هذا التصور على ما عرف في حينها بأحداث الربيع العربي.
ورغم الفوضى التي رافقت أو أعقبت هذه الأحداث وفسرها البعض بانها ناتجة عن سقوط الأنظمة الدكتاتورية والقبضة الحديدية لحكوماتها وهو محاولة تبريرية لكن لم يجرؤ أحد الى الدعوة أو المناداة بعودة الدكتاتورية بل استمرت المطالبة بالمضامين الديمقراطية وليس الشكلية الديمقراطية التي هي نوع من التبرير الزائف للأنظمة الدكتاتورية.