ترجمة يوسف اسحيردة
في بداية القرن الخامس قبل الميلاد، بدأت تظهر الفلسفة في اليونان، و بالتالي ظهور مجموعة من المدارس الفلسفية. تأسست، تباعا، أكاديمية أفلاطون، معهد أريسطو، حديقة أبيقور و أقواس الرواقيين. كل هذا شكل ما سيسمى لاحقا ب " المعجزة الإغريقية ." بالطبع، الفلسفة، بالترجمة الحرفية للكلمة، هي البحث عن الحكمة، و الحكمة هي الحياة السعيدة، بإعتبار أن الحكيم هو ذلك الشخص الذي يبحث عن الهدوء و التناغم مع الكون. بطريقة أخرى، الحكيم هو ذلك الإنسان الذي يبحث عن معنى الحياة بطريقة "علمانية" متحررة من الدين.
أشرح أكثر بمساعدة لوك فيري. القيم نوعان : قيم أخلاقية و قيم روحانية، و هما قيمتان منفصلتان، تحقق إحداهما لا يعني بالضرورة تحقق الأخرى. القيم الأخلاقية منحصرة في شيئين إثنين : عدم أدية الغير، و الحرص على فعل الخير. لكن، لنفترض أنني إلتزمت بهاتين القيمتين، هل سيجنبني ذلك الحزن و الألم؟ الجواب هو لا. مهما فعلته من خير، و إلتزمت به من قيم أخلاقية سامية، لن يمنع عني المعاناة بسبب الفشل في الحب، و لا الألم بسبب فراق أعز الأحباب، و لا قلق الموت و العدم. هنا، فقط، يأتي دور القيم الروحانية (بالمعنى الشامل الذي يضم الدين و لا ينحصر فيه لوحده)، التي تمدنا بالقوة اللازمة من اجل تجاوز كل هذه الامورة المحزنة، فهي التي تفتح لنا المجال واسعا لخلق المعنى و العيش من أجله. هذه القيم، يمكن أن تكون مستندة إلى الدين، و يمكن ان تكون بعيدة عنه أو حتى ضده، أي عن طريق الفلسفة، من اجل خلق الخلاص هنا على الأرض، و ليس في أي مكان اخر.
ضمن هذا السياق، يتناول الفيلسوف الفرنسي لوك فيري، في كتابه الذي نحن بصدده، حدث ولادة الفلسفة، كصياغة عقلانية للميثلوجيا الإغريقية ، خاصة أسطورة الأوديسا التي كتبها هوميروس ( أو هومير ) في القرن الثامن قبل الميلاد. و من هذا المنظور أيضا، فلا مجال للحديث عن تعبير لاعقلاني ك "المعجزة الإغريقية"، لأن هذه "المعجزة" لم تظهر من فراغ، فقد كان هناك تراث أدبي و علمي ( أو شبه علمي) مهد لها الطريق.
مهما يكن من أمر، نعيد ما سبق، فنقول أن الفلسفة لم تبرز من فراغ، و إنما هي إعادة صياغة للمثولوجيا الإغريقية، و خاصة الاوديسا التي كتبها هومير في القرن الثامن قبل الميلاد. لكنها صياغة فلسفية و عقلانية قطعت مع الأسطورة من حيث الشكل ( حوارات افلاطون)، لكنها حافظت على المضمون نفسه. لكن، ماذا تحكي الاوديسا في العموم؟ و أين يوجد المنعطف الذي من خلاله سيمر الإغريق من الأسطورة إلى الفلسفة، من الميتوس إلى اللوغوس؟ و كيف بلور أفلاطون كل هذا إلى فلسفة متماسكة؟
الأوديسا
الحكاية تبدأ بالفوضى (chaos) و الحرب ( حرب تروادة)، و تنتهي بوصول البطل الى مملكته إيتاك. الأوديسا، في المجمل، تحكي كيف سيستطيع أوليس (أو أوديسيوس)، في هذه الأجواء المضطربة، المبعثرة و المشتتة، أن يصل إلى التناسق، الحب و السلام الممثل في مدينته إيتاك قرب زوجته بينيلوب و إبنه تليماك. فكرة العودة إلى المكان الطبيعي المخصص لنا في الكون (le cosmos) ، تخترق كل الفلسفة الإغريقية من افلاطون حتى الرواقيين. هذه الفكرة تقول، في المجمل، أن الأشياء تملك مكانا مخصصا لها في الكون، إذا خرجت منه فقدت معنى وجودها.
على كل حال، أوليس سيساعد الاغريق في الإنتصار في معركة تروداة ( التي دامت 10 سنوات) عن طريق خدعة حصان تروادة الشهيرة بعد حصار دام طويلا. لكن، لماذا قضى بعد ذلك أوليس 10 سنوات من أجل العودة إلى أصله و مكانه الطبيعي ( إيتاك). تجدر الإشارة إلى أن أوليس فتق عين أحد العمالق (مخلوق ضخم بعين واحدة)، هو في الاصل إبن إله البحار بوسيدون Poséidon الذي سينتقم شر إنتقام من بطلنا. بوسيدون سيحكم على أوليس بالنسيان و فقدان البوصلة في كل مرة يقترب فيها من سواحل مدينته، أي في كل مرة يريد أن يهرب من الحياة السيئة إلى الحياة الجميلة و السعيدة. فلسفيا، هذا النوع من العقاب يعني الكثير : الأمر يتعلق بعمل بوسيدون على إنساء أوليس او اوديسيوس لمعنى حياته، و لا ننسى أيضا أن نظرية المعرفة عند أفلاطون، كما سنرى لاحقا، ما هي إلا عملية تذكر لتلك حقيقة التي كنا نمتلكها قبل الولادة، و نراها رؤية العين.
مهما يكن من أمر، عقاب النسيان سيأخذ أوجه عدة، منها غناء حوريات البحر، النوم المفاجئ، صوت الساحرة سيرسي (circé)..و ما إلى غير ذلك من الحيل. لكن ما علاقة كل هذا بولادة الفلسفة كروحانية "علمانية" و فلسفية بدون الدين و الله، و لكن بوسائل الإنسان الخاصة و التي يملكها هنا و الآن؟ هذا ما سنعرفه في النقطة الموالية ( أو المحور الموالي)، فيما سيشكل الربط بين الأوديسا و فلسفة أفلاطون التي سنعرضها هي الأخرى في هذا التلخيص المطول الذي يلامس -أو يكاد- الترجمة الصريحة.
ولادة الفلسفة
قلنا، سابقا، أنه في رحلة عودة أوليس الى موطنه الأصلي، بعد حرب تروادة، سيتعرض لمحاولات إله البحر بوسيدون من أجل إبعاده عن هدفه من خلال كافة أشكال النسيان و الإلهاء. و قلنا أيضا أن نقطة العودة الى المكان الطبيعي المخصص لنا في الكون هي مسألة مركزية في الثقافة الإغريقية. من بين حيل الإلهاء و التضليل هذه نجد كليبسو، و هي آلهة إغريقية جميلة ستقع في حب أوليس ( اوديسيوس) إلى درجة أنها ستسعى إلى إمتلاكه و إبقائه في جزيرتها التي تشبه الجنة. ستأخذ كليبسو من حياة أوليس سبعة سنوات سيقضيها بعيدا عن مملكته إيتاك. سبع سنوات سيمضيها في البكاء على شاطئ الجزيرة و عيونه بالدمع تحن إلى زوجته بينلوب و إبنه تليماك. لكن الآلهة أثينا المحزونة على حال البطل، ستتوسط له عند أبيها زيوس (إله الجميع) كي يتم إطلاق صراحه. كليبسو، غاضبة، مجروحة، ستقدم إلى أوليس عرضا مغريا بأن تمنحه الحياة الأبدية ( أن تحوله إلى إله) في حال بقي بجانبها. أوليس سيرفض، و هنا ستولد الفلسفة كأسلوب حياة، ستولد الفلسفة كروحانية "علمانية" تمنح المعنى للحياة الأرضية بوسائل الإنسان الخاصة بعيدا عن الغيبيات.
هذا الرفض يعني أن حياة أبدية بعيدة عن مكاننا الأصلي و الطبيعي، بعيدا عن أهلنا، هي حياة مبعثرة و فاشلة حتى لو كانت في الجنة ( جزيرة كليبسو). فشل هذه الحياة الابدية و لامعناها، يكمن ايضا في فقداننا لذاتنا إذا انتقلنا من صفة الإنسان الى صفة أخرى مغايرة و إن كانت ستمنحنا إكسير الحياة. أوليس سيقبل نفسه كما هو!
و كما قلنا، هذا الرفض للحياة الأبدية من طرف أوليس، سيؤدي إلى ولادة الفلسفة كتعريف للحياة السعيدة و إعطاء معنا للوجود بعيدا عن الديانات. إذن ما هي سمات الحياة السعيدة كما عبر عنها أوليس و ستأخدها الفلسفات الكبيرة عنه؟ طبعا باعتبار أن الفلسفة، في نهاية المطاف، هي بحث عن الحكمة :
اولا : الحكيم هو الشخص الذي يقبل بالموت و بحتميته. يقبل ان يكون "هو نفسه" و ليس إلاها. مشروع فلسفي كبير هنا بصدد الظهور : الحكيم هو الشخص الذي يصل الى راحة البال بقدرته على هزيمة كل أنواع المخاوف، و خاصة الخوف الاكبر، الخوف من الموت. لكن لماذا هزيمة الخوف مهمة إلى هذه الدرجة من أجل الوصول الى مرتبة الحكمة؟ بكل بساطة، لأن الخوف يشل القدرة على التفكير و الانفتاح على الآخرين.
ثانيا : الحكيم هو الشخص الذي يملك القدرة على العيش في حاضره بكل جوارحه. لا هو مأخود بآلام الماضي و نوستلجيته، و لا هو مشدود الى آمال المستقبل و ما يخبئه. هو قادر على ما يسميه نيتشه ب l'amor-fati. حب قدرك و القبول به. الأوديسا معبرة من هذه الناحية. طيلة عشرين سنة ( حرب تروادة و رحلة العودة الى الديار) أوليس كان بين الماضي ( ذكرياته الجميلة في ايتاك) و المستقبل ( أمل العودة إلى إيتاك)، لكن ليس في الحاضر و حياته الآنية، ليس في حب واقعه و حياته الحالية. الحكيم هو الشخص الذي يأمل قليلا و يندم قليلا و يحب كثيرا. هذه هي الفكرة الثانية في قصة أوليس و التي سيعيد الفلاسفة، لاحقا، صياغتها بطريقة مفاهمية و فلسفية.
ثالثا : الحكيم هو القادر على التحول إلى جزء من الكون. يظهر هذا عند وصول أوليس في نهاية المطاف إلى إيتاك، إلى مكانه الطبيعي. هنا فقط لا تعود للموت أي معنى، لأن الموت نفسه لا يملك أي سلطان على الكون السرمدي الذي أصبحنا نحن أنفسنا جزء منه.
كما سبق و مر معنا، الفلسفة الإغريقية، في نهاية المطاف، هي عبارة عن إعادة صياغة للمثولوجيا الإغريقية ( خاصة الأوديسا و هي عبارة عن رحلة عودة بطل معركة تروادة "أوليس" أو "أوديسيوس" إلى وطنه، أي مدينة إيتاك التي هو ملكها)، لكن بشكل عقلاني قطع مع الأسطورة لصالح العقل. و هكذا كانت فلسفة أفلاطون التي سنعرض بعضا من سماتها في هذا المنشور. ربما نلتقي بنفس الشيء، لكن بحدة أقل، في فلسفة نيتشه التي تعتبر صياغة فلسفية لأدب دوستيوفسكي.
فلسفة أفلاطون
فلسفة أفلاطون ستقوم بتحويل أهم مواضيع الأوديسا عن طريق عقلنتها و ذلك في 3 إتجاهات. أي فلسفة تستحق هذا الإسم تملك هذا التصنيف : المعرفة، الأخلاق، المعنى.
.
المعرفة : موضوعها هو دراسة العالم الذي هو مكان تواجدنا، تكوين فكرة عنه، هل هو صالح للعيش أم لا، هل هو جميل و متناسق، أم على عكس ذلك قبيح و فوضوي. بصفة عامة، تكوين نظرة عن العالم الذي تدور فيه أحداث وجودنا. (معرفة سمات الملعب الذي سيلعب فيه وجودنا).
الاخلاق او القانون : هنا لا يتعلق الامر بمعرفة مكان تواجدنا، بل معرفة قواعد هذا التواجد. لأن العيش دائما هو عيش داخل جماعة من الناس، هو عيش مشترك يحتاج قوانين تنظمه. ( الإطلاع على قوانين اللعبة).
المعنى : أهم محور، هدفه معرفة هدف الوجود، هل نحن سياح في هذا العالم، أم على العكس من ذلك وجدنا لهدف معين. هدف أوليس في الأوديسا كان هو العودة الى موطنه الاصلي، مكانه الذي يحقق بوصوله إليه الإنسجام التام. ( معرفة غاية اللعبة و هدفها).
الفيلسوف الألماني كانط أعاد صياغة هذه المحاور في 3 أسئلة : ماذا يمكن أن أعرف؟ ماذا يمكن أن أفعل؟ ماذا يمكن أن امل؟
نمر الآن مباشرة الى فلسفة أفلاطون التي هي، كما قلنا سابقا، عبارة عن صياغة فلسفية و علمانية لأسطورة الأوديسا. للإشارة، كلمة "علمانية" أصلها هو العالم و ليس العلم، أي أن المغزى هو النزول من السماء الى الأرض، الى العالم الذي نتواجد به فعليا. فلسفة أفلاطون، في مجملها تقريبا، هي عبارة عن حوارات بطلها شخصية محورية هي سقراط. الحوار الحجاجي و بالضرورة العقلاني، هو القطع الفعلي مع الأسلوب الأدبي و الأسطوري الذي طبع الأوديسا. إذن، معرفة خصائص الحوار الأفلاطوني وحدها كفيلة بتقديم نظرية المعرفة عند أفلاطون، أي المحور الاول كما مر معنا، و هو السؤال الأول الذي طرحه كانط.
-1- نظرية المعرفة (ماذا يمكن أن أعرف؟)
قلنا سابقا كذلك، أن فلسفة أفلاطون في مجملها إتخدت شكل الحوار العقلاني، عكس الأوديسا التي تتميز بالطابع الأسطوري و الأدبي، مع قاسم مشترك متمثل في المواضيع الذي ظلت كما هي. بالإطلاع على سمات و خصائص الحوار الأفلاطوني ( تضع في محورها دائما شخصية رئيسية هي سقراط)، سنصل إلى القبض على فلسفة أفلاطون في محور المعرفة و هو الأهم عند تلميذ سقراط.
الخاصية الأولى : معظم الحوارات الأفلاطونية تبدأ بجرد لمختلف الآراء الشائعة حول موضوع معين : الجمال، العدل، الشجاعة، الخير، الشر...إلخ. سقراط يقوم بإدارة الحوار مع التركيز على الآراء المتناقضة. بتحديد هذه التناقضات و تجاوزها نصل إلى الحقيقة، أي الرأي الذي يصمد في وجه خطر التناقض. ما يميز الحوارات الأفلاطونية هو نية المتحاورين في الوصول إلى الحقيقة. إذا فسمة الحقيقة هي عدم التناقض، عكس الدوكسا ( الرأي الشائع ) التي تعج بالتناقضات التي يحاول سقراط تجاوزها إعتمادا على محاوريه أنفسهم.
الخاصية الثانية : نظرية الحقيقة : هذه الخاصية في حوارات أفلاطون غاية في الأهمية، من خلالها سنتعرف على كفية توصل الفيلسوف الى نظرية في الحقيقة ستخترق تاريخ الفلسفة بأكمله وصولا الى ماركس و ربما هايدغر ( رغم إنتقادهما لها كونها مثالية....). نظرية المعرفة توصل إليها أفلاطون كإجابة على تدخل ماكر من أحد السفسطائيين (السفساطئية هي خطاب "شعبوي" " تظليلي" يدعي الحقيقة).
ماذا يقول هذا السفسطائي؟ في جميع الحالات لا يمكننا الوصول إلى الحقيقة، إن فكرة الوصول إلى الحقيقة أمر غريب في حد ذاته. واحد من الإثنين، يواصل السفسطائي : إما أننا نمتلك الحقيقة مسبقا و بالتالي لا حاجة لنا في البحث عنها. أو أننا لا نمتلك الحقيقة و بالتالي لا يمكننا التوصل إليها. لماذا؟ لأنه للتوصل إلى الحقيقة بين كل هذه الاراء الشائعة، نحتاج إلى معيار لتمييز تلك الصحيحة عن تلك الخاطئة، أي ينبغي إمتلاك الحقيقة مسبقا.
الجواب على هذا الإعتراض السفسطائي سيكون غاية في العبقرية، و سيمكن أفلاطون ( أو سقراط في الحوارات) من الوصول إلى نظريته الشهيرة في الحقيقة. كل فلسفة أفلاطون كامنة في هذه الإجابة. ما هي هذه الإجابة إذا؟ علاقتنا بالحقيقة تمر عبر ثلاثة مراحل :
-1) لقد عرفنا الحقيقة في الماضي قبل ولادتنا، قبل أن تصبح الروح سجينة للجسد بحواسه الخمس التي تخدعنا بإستمرار. قبل أن "تسجن" الروح، كانت تشاهد الأفكار كما هي دون تشوهات. كانت قادرة على رؤية الحقيقة عارية. كانت لا تزال في السماء، في الجنة...عالم المثل.
-2) جاءت بعد ذلك مرحلة السقوط في الجسد، هذا السجن الحسي الذي يمنع الروح من رؤية الحقيقة كما هي. إنها مرحلة الولادة، مرحلة الحس الخادع. في المقابل، لماذا تخدعنا الحواس بإستمرار؟ لأنها بكل بساطة تجعلنا نأخد نفس الأشياء على أنها أشياء مختلفة و متباينة. إذا إقتصرنا مثلا على اللمس فقط، سنفرق بين الثلج و الماء رغم أنهما شيء واحد. هذا التناقض الحسي يعمينا عن رؤية فكرة "الماء" التي يرمز لها العلماء ب H2O ، لذلك نقول أن كل العلماء أفلاطونيين. مهما يكن من أمر، الخروج من كهف الجسد، هو الوحيد الكفيل بمساعدتنا على إدراك الحقيقة.
-3) هنا نصل إلى المرحلة الثالثة في نظرية الحقيقة هذه، مرحلة ما يسميه أفلاطون بإعادة التذكر أو الإستذكار. تذكر ماذا؟ تذكر تلك الحقيقة التي كنا نعرفها قبل الولادة و فقدناها بعد سقوطنا في الجسد الحسي. نسيناها كما أنسى إله البحر بوسيدون أوليس هدفه في الرجوع إلى موطنه إيتاك. من وجهة النظر هذه، المعرفة هي دائما إعادة معرفة، المعرفة الحقيقية عي محاربة دائمة للنسيان.
هكذا سيتمكن أفلاطون على لسان سقرط من الإجابة على تساؤل السفسطائي الماكر بطريقة غاية في الدقة.
الخاصية الثالثة : بما أن المعرفة هي إعادة معرفة، و الحقيقة هي تذكر للحقيقة التي إمتلكناها سابقا و فقدناها، فعمل سقرط يقتصر على مساعدة خصومه في الوصول إلى هذه الحقيقة، أي توليد الأفكار و هي الخاصية الثالثة في حوارات أفلاطون. سقراط يشبه نفسه بالداية و أمه كانت داية ( مولدة نساء). الفلسفة من هذا المنظور هي عكس الذوغمائية لأن الحقيقة تنبع من الآخر المختلف ( بعد مساعدته -عن طريق طرح الأسئلة الذكية عليه- على تذكر تلك الحقيقة التي عرفها ثم فقدها) و لا تفرض عليه بالقوة من الخارج. و هذا ما حدث بالضبط في حوار سقراط مع مينون عندما أكد له أن العبد أيضا يمكنه إدراك الحقيقة دون أن نفرضها عليه من الخارج. و هذا ما حصل بالفعل حين إسترجع العبد كل مبرهنة فيثاغورس بمفرده و فقط عن طريق الإجابة على الأسئلة الموجهة إليه. خلاصة الأمر أن العبد عرف الحقيقة و نسيها و يمكنه إسترجاعها عن طريق تقنية توليد الأفكار السقراطية.
الخاصية الرابعة : فن السخرية السقراطي : كل ما يردده سقراط بإستمرار هو أنه لا يعرف شيئا، طبعا هو يعرف و قد وصل إلى الحقيقة أو على الأقل يعرف ماذا يريد. فقط بهذه الطريقة يمكن للمتحاورين معه التعبير بكل حرية و إخراج كل عصارة ما يعرفونه إذا صح التعبير. بهذا التعبير يمكن إعتباره الاب الروحي لأساتذة الفلسفة في الثانوية حاليا.
الخاصية الخامسة : إعرف نفسك بنفسك : هذه المقولة المشهورة عند سقرط، أخدها من مقولة شبيهة لها كانت سائدة في الاسطورة، لكنه أعطاها معنا جديدا. كانت تعني بالحرف " لا تتعجرف و تتشبه بالالهة، إلزم مكانك". لكنها عند سقراط أصبحت تعني شيئا جديدا و غير مسبوق : "تذكر تلك الحقيقة التي كنت تعرفها و نسيتها." مفهوم حديث للتفكير بما هو إستقلالية كما عرفه كانط في مقاله الشهير " ما التنوير". بدون منازع، سقراط هو أب كل الحداثيين...
الخاصية السادسة : الحوارات الأفلاطونية هي في أغلبها صدام بين خطاب الحقيقة و الخطاب السوفسطائي. سقراط همه الاول هو الوصول إلى الحقيقة عن طريق تجاوز التناقضات. السفسطائيون يسعون فقط إلى الإقناع، تماما مثل رجال السياسة و المحاماة. الخطاب السفسطائي ( الانسان هو معيار كل شيء كما يقول جورجياس) نجده أيضا في الخطاب الغرامي حين نفرش طريق الحبيب بالورود و الكلام المعسول، فقط، حتى نقضي منه حاجتنا الجنسية.
-2- الأخلاق، القانون و السياسة ( ماذا يمكن أن أفعل؟ )
الأخلاق الحسنة بالنسبة لأفلاطون، كما بالنسبة لأغلب المدارس الفلسفية الإغريقية و على رأسها المدرسة الرواقية ، هي ما يتوافق مع التراتبية البديهية التي تحكم الكون و الطبيعة. نحن هنا في لب الأخلاق الأرستقراطية. بهذا الصدد، صحة الأشياء و مشروعيتها، لا تنبع من الإرادة العامة كما عند روسو، بل هي كامنة في الطبيعة و نظام الكون، متواجدة سلفا و ما علينا إلا تطبيقها على حياتنا، عكس ما هو عليه الأمر عند الحداثيين، حيت القاعدة هي تصحيح التفاوتات التي توجد في الطبيعة و ليس تأبيدها، ففي الطبيعة القوي يأكل الضعيف كما يقول سبينوزا. إذا، فبعض الأشخاص صالحون طبيعيا، و البعض الاخر طالحون طبيعيا. و المدينة صالحة إذا عكست نظام الكون و تراتبيته، إذا نسخت الترتبية التي يتميز بها الجسم البشري : في الاعلى هناك الرأس و يعني الذكاء، في الوسط هناك القلب و يرمز إلى الشجاعة، و في الاسفل هناك الأعضاء الجنسية و ترمز إلى الرغبات الحسية الأكثر حقارة. مهما يكن من أمر، المدينة صالحة إذا حكمها الفلاسفة ( أطروحة المستبد المستنير الشهيرة) و إذا كان في وسط هرمها التراتبي الجنود ( رمز الشجاعة و القوة) و في أسفلها الحرفيون و العبيد. هذا هو مفهوم العدالة من منظور الأخلاق الأرستقراطية.
-3- معنى الحياة أو مذهب الخلاص ( ماذا يمكن أن آمل؟)
أفلاطون يعتبر انه حين نعيش طبقا لمقياس الفكر و الأفكار، حين نعيش بطريقة فلسفية، ندخل في نوع من الأبدية، بإعتبار أن الحكيم يموت، في نهاية المطاف، أقل من الأحمق، كما يقول سبينوزا. الحكيم ( أي الشخص الذي يصل إلى الحياة الفلسفية الحقيقية) ليس هو الفيلسوف. الفيلسوف يبحث عن الحكمة، إذا فهو ليس حكيما بعد. الحكيم هو سقراط الذي لا يكتب كتبا : هو في خضم الحياة، لا يتحدث عن الحكمة، بل يمارسها. في لعبة تبادل الأدوار هذه، سقراط هو الحكيم، و أفلاطون هو الفيلسوف. الحكيم هو الشخص الذي يتوصل إلى العيش و فقا لأفكاره، و بما ان الأفكار - من منظور أفلاطون - تتميز بالأبدية و السرمدية، يمكن أن نخلص إلى أن الحكيم هو بنسبة ما، لا يموت، هو شخص مؤله إذا شئنا القول.
كما تلاحظون، هناك تشابه بين هدف كل من الدين و الفلسفة، مع فارق مهم، هو أننا، في الفلسفة، نسعى إلى تحقيق هذا الهدف بوسائلنا الخاصة، مع القبول بحقيقة مهمة متعلقة بإقتران الموت بالوجود البشري نفسه.