على مستوى الوجودِ، لم يختفِ الصراعُ بين الجسد والسّلطة رغم اتّفاقهما في كثيرٍ من الوجُوه. كلاهما يتعلق بأفكارٍ مثل:(الوسيط، التّحول، السّر، العلامة، الذّاكرة، الفعل، الوشم، الرمز، الصورة، السريان، الشبح)، وكلاهما يزاحِم الآخر داخل ثقافةٍ تحدد إلى أي مدى سيمارس أدواره. وهذا هو “مَوطِّئُ الأثر” لأيةِ علاقةٍ محتملةٍ بينهما، كما أنَّه يؤكد معاني الحضور المتبادل( الجسد سلطة والسلطة جسد)، إذ اعتبره الاثنان صِراعاً قاسياً إلى الداخلinterior من كِليهما. أيهما يقنن الآخر ويرسم عالمه الخاص؟!
في هذا الإطار يعدُّ “تاريخُ الجسد هو ذاته تاريخ السلطة” نزاعاً حول فضاءٍ لن يتقهقر خلفاً، وهو فضاء الحرية. كانت نتيجته بعض التطورات نحو استقلال كيان الإنسان، وذلك يعني وجود الفعل الأنثروبولوجي في التاريخ البشري. فمع توتر العلاقة بين ما هو “جسدي وسلطوي”، ثمة إنسانٌ يُقاوم إفرَاغ كيانه من الحياة. يخشى إزاحةَ وجوده الهش دون أنْ يلامس شيئاً، لأنَّ السلطة كامنةٌ في خفاءِ المجتمعات إلى حدِّ القبول الساذج بلا وعي.
السلطة تمارس احتواءً ناعماً soft تجاه أي جسدٍ متمردٍ (عام أو خاص)، تنحو إلى تشتيت وحدتَّه واستنزاف طاقاته (= القمع بصوره الثقافية). بالمقابل قد يُحدِث الجسدُ داخل هيكل السلطة اضطراباً، فوضى، فجوة (= الحراك السياسي)، فغرائز الكتل البشرية لا تخضع لمنطق واضح ويصعب التحكم فيها.
وعلى الصعيد الفردي قد يتوَّحد الجسد بالسلطة في هيئة ديكتاتور يري نفسه بحجم العالم، ويجعلها حِزاماً رخواً من شهواتٍ تستنفد مجالها العام. أيضاً تتصف السلطة بأوصاف عضويةٍ حسية: تجُوع، وتقتل، وتفتك، وتلتهم وتزأر وتفترس(= حيوان الثقافة)، بالتوازي يتسلَّط الجسد ويضربُ ويُعنِّف، ويتحرش، ويزاحم، ويتعقب، ويراقب، ويقرع أجراسَ الترهيب للآخرين.
مشكلة فلسفية
تاريخياً يتولَّد هكذا استفهامٌ فلسفي مزدوجٌ:
أولاً، هل استطاعت السلطةُ كقوةٍ مهيمنة تشكيل جسدٍ إنساني ما أيَّاً كان عنوانُه، صادفَ الزمنُ أنَّه هنالك بوضعٍ معينٍ( تبعاً للاهوت والأسطورة والتراث الثقافي والأنثروبولوجيا)؟ ومن ثمَّ سينتج الجسدُ معالمها(أي القوة) في فضاءاته، حيث تتعين السلطة بوسائل مؤثرةٍ اجتماعياً، أي السؤال دوماً عن كيفية تعامل السلطة مع الجسد، وبأي معنى تنحته وفقاً لقوالبها.
ثانياً، عكس ذلك، هل تُوجد للجسد سلطةٌ في ذاته قادراً على الانفكاك من القيود؟ وبالتالي- كما سنوضح – لماذا تبدو ثمة فجوة (بين السؤالين الآنفين)؟ وبأية صيغةٍ هي فجوة تُلخص طبيعة الجسد وتحولاته وقدرتنا على تغيير دلالاته؟!
المشكلةُ من ثمَّ ليست في تحديد هوية الجسد( ذكراً أم أنثى أم خنثى أم صاحب توجه جنسي sexual orientation ) وابراز التأثيرات الجانبية للسلطة، لأنَّ تشكيل الجسد في ذاته هو البصمة الوراثية السابقة على ذلك. إنَّ جيناتَّه الثقافية genes cultural التي هي تحديد أنطولوجي أعمق وأكثر جذرية. حيث تراث لاهوتي- وجودي كوَّن السلطة ولم يُفلتها عبر التكوينات الاجتماعية الناجمة عنه. بلغ الوضع أنْ اخترق حاجز الكيان البشري منتزعاً وجوده في العالم. لأنَّ الجسد الإنساني هو أخص شعور حي للفرد التصاقاً بأناه.
وبخاصة أنَّ الأسئلة ترتبط بماهية الجسد(لا هويته الجنسية) إذ ستأتي تحولاته لاحقاً على صعيدها. وهو ما سيجعل الأنوثة والذكورة مع ” الجسد الافتراضي” ثنائية غير مهمةٍ، وأنَّها مفتعلة بخلاف أي شيء أخر، أهميتها كامنة في كونِّها أداة عنف ثقافي لوأد المرأة في رداء اجتماعي. بينما الجسد الراهن- كما بالواقع الرقميdigital reality- سيعالج وضعيته من نفس الجنس الأنطولوجي للمشكلة. فمبررات التصنيف لثنائية الذكورة والأنوثة مجرد قشرة للجسد واستعمالاته، لكن انفجار طبيعة الجسد ذاته(افتراضياً- عضوياً) يحتم انفجاراً لأية قشور ممكنة، ويؤدي إلى ترتيب مفترض لأوضاع الجسد ومحمولاته الثقافية.
لقد أبقت ممارسات السلطة على البعد البيولوجي لدى الإنسان ولم تعبأ بتحولاته الثقافية، إلاَّ أنَّ إخماد فاعلية الإنسان- مثلما ترى الأنظمة السياسية- لا يتم بمجاراته ثقافياً، إنما بالتعامل البيولوجي معه ككائن يحمل نقيض وجوده الحي( غريزة الموت). وهي غريزة اشتغلت عليها السلطة لإيجاد مضاد ثقافي لما هو بيولوجي، أي نشر ثقافة التخويف والعنف والقمع، لكنها تناست أنَّ جسد الإنسان(البيولوجيا) دخلت عليه تغيرات من جنس الثقافة والمعارف المتقدمة، لدرجة أن اندماجهما( البيولوجيا والثقافة) بات مؤكداً لدى العوالم الإلكترونية والوسائط الديجيتال. مازالت مفاهيم السلطة تعمل على خلفية “الجسم” لا الجسد وإذ أظهرت تطورات الذكاء الاصطناعي استحالة ارجاع الجسد إلى خانة الجسم مرة أخرى.
تُراث الجسد
وردت خلفية القضية في تاريخ الثقافة الإنسانية عبر فكرة التَّوحُد بالطبيعة- كما في الثقافات الشرقية القديمة- لالتماس القوة واعتبارها الملجأ الذي يزود اجسامنا بالأسرار والإمكانات المطلوبة لمواصلة الحياة. ووردت أيضاً بشأن القوى الخارقة للأجسام كما عبرت الأساطير عن وجود الآلهة بأنصاف بشرية وبرؤوس حيوانية وطبيعية(الحضارتان الفرعونية واليونانية).
إن الرسوم الجدارية في معابد الفراعنة تحمل صوراً تخلط بين البشري والحيواني، وربما كانت الفكرة غريبة بالنسبة إلى المشاهد، لكن الحياة بينهما متصلة من زاوية أبعد. لأنَّ القوة المقدسة تحمل الجانبين طبقاً للخيال البشري، وهو خيال حسي أكثر التصاقاً بجسده وتداعياته. وبالتالي سيكون الشكل الهجين من جنس العمل مباشرة.
ثم مع تطور البشرية، ارتبطت الفكرة راهناً بصور النجوم العابرة للثقافات والجغرافيا: رجال السياسة والاعلام وقادة الحروب ورموز الفنون ونجوم الرياضة والمودة والأزياء. حيث اختفى “المسخ الأسطوري” للجسد ليعبر المعنى عن العبقرية والإتيان بشيء فائق الوصف. والآن أصبح الجسد كراساً عولمياً تدَّون فيه الأرقام القياسية (كموسوعة جينيس للأرقام القياسية) للإتيان بطاقات وألعاب وأفعال فوق المألوف.
لكن في ضوء الازدواج السابق، أليس هذا يفترض مصدراً متعالياً ( إله – طبيعة – مثال- تطور- نمط حُكم) وراء القضية؟ … وإذا كان الأمرُ كذلك، كيف تكون للجسد سلطةٌ ما؟ وإذا لم يكُّن كذلك، فبأي معنى تُعطى أهمية للجسد بحد ذاته؟ كيف ينتج الجسد معانيه عبر الممارسات الإنسانية؟ وما هو مصادر الثراء في تجاربه الحرة على صعيد السياسة والاجتماع؟ والأهم: هل ذلك يستوجب محاولة ترويضه في أنظمة ثقافية تستوعب طفراته أم أنَّه فوضوي، ثائر، خارج التوقُع؟
علماً بأنَّ ثمة دلالةً للسلطة لا تأخُذها إلاَّ في إطار الممارسات الثقافة، وهي دلالة التأثير الرمزي الذي يصلح لانتظام موضوعاتها وفقا لنسقٍ ما يخدم أهدافها، بينما الجسد هو “التكملة المتخيلة ” لما هو بيولوجي مباشر( الجسم) عبر تلك الثقافة. أي هما (السلطة + الجسد) يؤديان دوريهما ضمن الحياة الإنسانية إحاليَّاً أحدهما إلى الآخر. وهاجس اللغة كما يشير رولان بارت لا يغيِّب المعنى اللغوي الوجودي عما سبق، فالجسد آتٍ من التَّجسد، وهو الأثر الباحث عن سواه وهو أيضاً المتأثر إذ يمارس عملاً يعكس نمط العيش. إنَّه استعارة وجودية existential metaphor تملأ الفجوة بين الواقع والمأمول، ويصير الجسد كوسيط وراء الإحساس بامتلاء مجالات الحياة.
الفكرة أنَّ احتكار السلطة بواسطة اللاهوت والأساطير( وأحفادهما) كان يعقبه احتكار (واحتقار) عمومي للأجساد، إذ يطلب منها القيام بأعمال معينة بحكم الخضوع لإملاء هذه الأشياء. وأنَّ تحرر السلطة من عنف الأسماء المفارقة كان تحرراً للجسد أيضاً عن طريق حرية الأفراد وفرص الحياة الكريمة واختيار ما يليق بالإنسان وزيادة الوعي. فجسدي الحر هو الشرط الرمزي لوجودي الاجتماعي والسياسي، وله كامل الأنشطة الممكنة التي تحقق خيالاً اعيش واتصرف بناء عليه. وسأجد الصدى مواتياً فيما عليَّ نيله من حقوق داخل حدود المجال العام وممارساته بدءاً بالفرد وانتهاء بالدولة.
تحولات الجسد
إنَّ تحولات الجسد استوعبت السلطة وأثارت حفيظتها بالوقت نفسه. لا تخشى السلطة شيئاً قدر ما تخشى من تحرر الجسد، لأنَّه يهدد كيانها الحي الذي يلتقي مع الجسد وينازعه الوجود. مما جعل الصراع على مساحة التحرر مشتعلاً مع تغيرات السياسة وأنظمتها. المفارقة أنَّ الدور المزدوج كان رهاناً على امتصاص عنف السلطة وفلترته لصالح أشكال جديدة من الأجساد. ليست الليبرالية سوى جزء من هذا الرهان، وحتى ما بعد الليبرالية بمجمل انفتاحها إنما هي سياسة لفتح مجال الجسد. فمع فرص التحول يكون الجسد قادراً على التمتع بسلطةٍ من نوع ما وباستطاعته أنْ يدبر شؤونه الخاصة.
الحقيقة أنَّ دلالةَ الجسد تنشأ من كونِّه قوة قابلة للتأثير والتأثُر، أي أنَّه وسيط فعال فوق العادة لأشياء قد تأتي غالباً بحكم تفاعل البشر. فتكوين المجتمعات يفترض سلفاً هذا الوسيط الذي يلتزم بآلياته ومظاهر حركته. الأمر فيه جانبان: احدهما الوجود المرتبط بالرغبة الممتدة كبناء شعوريٍّ يجمنا والآخرين، كلَّ الآخرين. فلا يوجد إنسان دون غرائز ولا إمكانيات حسية يكاد يلامسها أيُّ من يدركه.
وذلك يفترض التأثير المجاوز لحدود الجسد في مجاله المعروف. وهو ما يجعل الرغبة – كدالٍّ صائر دون توقف- موضوعاً للآخر ويجعل إمكانية القوة الكامنة فيه واردة باستمرار. ومن ذلك نشأ ما اسميه الوجود معاco-existence وهو المتحقق انسانياً ولغوياَ كما ترى جوليا كريستيفا، فما يميز تاريخ الانسان هو الإحساس بغيره، أنَّه الكائن الذي يأخذ آخريته بعين الوجود ولا يستطيع العيش دونها. فاللغة لا تأخذ امكانياتها الدلالية إلاَّ برغبة تجاه الآخر، التكلم هو ترجمة لرسالة ما كانت لتخرج دون وجوده، والكتابة هي الغياب الذي يغزل خيوط ما يستحيل حضوره، هي تفترض ترك حروف وكلمات وصيغ لمن يأتي في وقتٍ ما.
أما الوجه التالي، فهو البعد الرمزي الذي يحل محل البعد المادي الأول عبر فضائه غير المدرك. أي هو الشيء الحاضر حين يغيب الآخر مادياً عن قصد أو دونه. فالرمز شيء يحضر مكان شيء غائب دلاً عليه. وكلمة الشيء لا مهرب من استعمالها، فلا يسعفنا معجم اللغة تعبيراً عن رموز بصيغ لا تشير إلى معطياتٍ ما.
الموت -على سبيل المثال- يُعرف أنَّه فقدان لروح الحياة في الكائن، لكن ما هي ماهيته؟ ما طبيعته؟ هو وضع رمزي يفعل دلالياً داخل الجسد وخارجه، وهنا يعرِّفنا اللاوعي والخيال أبعاداً أخرى في شكل اللاجسد. ولا يعني ذلك تصفيةً لقضايا الجسد بمعطاه الحي لكنه يمثل وجوداً من نوع خاص.
بالتدريج التاريخي يمكننا- لإتمام الفكرة- رصد تحولات الجسد من الخارج إلى الداخل واضعاً السلطة في احراج تكويني ومحاولة التحرر منها. أي أنَّه عبر مراحل التاريخ الأولى في ” تراث الجسد” حتى النهاية خضع الجسد لسلطة ما، استغرقت دلالاته بالنسبة إليها وبالنسبة لحياته. فهي تهتمُ بالجسد نظراً لاعتباره امتداداً لها، فعلَّيه أنْ يكون موجوداً بينما هي تنتظر منه مزيداً حين لا تكون (في غيابها الظاهري).
ولكن ” الجسد” استطاع أن يتحول مستثمراً الفجوات الثورية لبنية السياسة والمجتمعات الإنسانية. كان عليه بلوغ أقسى درجات التكيف وانتزاع مصيره الأنطولوجي تعبيراً عن طبيعته. المدهش أن مسار الجسد يدفع بالأمور لصالحه حتى اللحظة الأخيرة. أي بنفس منطق السلطة يقارعها الجسد طبيعة بطبيعة محاولاً تصفية كتلته الحرجة والتي تثير غرائز التوحش لدى السلطة حين ترى جسداً متمرداً.
ثمة مراحل مرَّ بها الجسد أنطولوجياً حتى وصل إلى صورته الراهنة.
الجسد مخلُّوقاً(سلطة اللاهوت): وهي مرحلة السلطة اللاهوتية المُضافة إلى الجسد من الخارج، باعتباره احدى بصمات الإله في الإنسان. إنه ” الجسد– القيمة ” من وجهة نظر المؤمنين في الأديان. حيث مثلَّ أثراً لاكتشاف عظمة الخالق بصدد التكوين والوظائف والحكمة التي يجسدها. إنَّ الإله وهب الإنسان جسداً معجزاً في حياةٍ يتحملها كنعمة ميتافيزيقية.
وجميع الديانات تبدي امتناناً للسماء، لأنَّها أوجدت الجسد الذي يحس ويشعر ويتمتع بالملذات ويتطلع إلى الروحانيات، لكن الأهم أنَّ أية سلطة له لن تكون نابعةً منه تخصيصاً، فدوما تستحضر سواها من المصدر المسؤول عن ذلك، هذا بخلاف الغرائز التي ستجد تصنيفها داخل أهواء الجسد. أي أنَّ خطابات الأديان وعظياً تعول على التحذير من انحرافات الجسد كدابة للشر. فالإنسان العاصي ستلاحقه اللعنات، لأنَّه خالف قانون الخالق (للجسد) واتبع شهواته الدنيا. وهذا يضمر كون الجسد محلَّاً لشيطان خفيٍّ.
هناك جانب محقر في المسألة أساسه غرائز الجسد حين تشد الإنسان إلى حمأة الحياة بينما الروح تجذبه إلى أعلى. ونظراً لكون الإنسان لا يستطيع التخلص من غرائزه، فالكهانة الدينية تقنعه بأنَّ خلاصة يعتمد على قمع جسده ووضعه تحت الوصاية. إذن بطبيعة الجسد ذاته لا يستطيع الإنسان التحرر من رجال الدين انتظاماً لقطيع طويل باسم العبودية للإله. أي اعتبار القيد نابعاً من الجسد بتسييس حركته لصالح ما يتحكم فيه.
الجسد مؤسطَّراً (سلطة الأسطورة): والسلطة هاهنا تكمن في إضفاء الطابع الأسطوري على الجسد، فقد تمَّ تصويره في المنحوتات الفرعونية واليونانية القديمة على أنَّه خليط من الحيوان الخرافي والجانب الإنساني. والسلطة تقع على غرار النقطة الأولى خارج قوى الجسد الإنساني، وكأنَّ هناك اسراراً تسكنه ليفعل أشياء خارقة للمألوف.
بإشارةٍ سبقت كانت آلهة الفراعنة تحمل الجانبين كدلالةٍ على قوى تنوء بها الطاقة البشرية. والسلطة تحرم الجسد الآخر في مجال الأساطير من الوجود حراً. لأن ادراج كيانه الضعيف كإنسانٍ عادي يجعل الجسد الأسطوري خارج التوقع ويجلب أسراراً تليق بالآلهة لا بالبشر.
الجسد موجُوداً( سلطة الكائن الإنساني): وهو جسد ناتج عن الحداثة الغربية، فالجسد ليس مسكوناً بالأساطير ولا بالأسرار ولا تحركه قوى ميتافيزيقية مفارقة، لكنه مجرد جسم مادي بيولوجي له سياقه ورغباته. وبإمكانه أن يخضع للتغيرات ويمرض ويشفى متاحاً للدراسة والفحص. وهو ما يفترض قدرة َالجسد على المشاركة في الحياة العامة طالما يمكن التحكم فيه. والعنوان البارز أن الجسد يستطيع التعبير عن نفسه وبإمكاننا تأهيله لتحمل القيم والمسؤولية والحرية داخل مواطني الدول والمجتمعات.
بوضوح قال كوجيتو ديكارت( أنا أفكر إذن أنا موجود) وهو اعلان صريح بقوة الفكر داخل جسد يغدو موجوداً في ذاته. والكوجيتو هنا اعلان سياسي وليس فلسفياً فقط. وطالما نستطيع التفكير بحرية، فإننا نستطع الوجود بالدرجة نفسها. هو اعلان نزع السلطة المقدسة التي أوجدت ذوات الناس سلفاً( الجسد مخلوقاً ومؤسطراً). والفكر يعني ممارسة الجسد كاشفاً قدراته الطبيعية. ورغم ما قيل فلسفياً عن الكوجيتو الديكارتي( ثنائية الفكر والوجود) إذ يباعد الفكر عن الجسد لو فصلَّنا الأمر، لكن تأويلُّه يعني لحظات الفكر الأولى(أنا أفكر) والوجود الثانية( إنا موجود) قد لا ينفصلان. الفكر هو عين الوجود والوجود هو عين الفكر، الأنا واحد.
وتلك خطوة كبيرة في قطع هيمنة السلطة على الأجساد من الخارج، فالسلطة -لأول وهلةٍ ديكارتيةٍ- هي كامنة في ذات الإنسان طالما هو إنسان وطالما يمتلك فكراً حراً وإبداع وجوده. والخطوة التالية أن الفرد قد يكون خالقاً عكس مما يروَّج من قبل رجال اللاهوت والكهانة( الجسد المحقر).
الجسد شفافاً( سلطة الروحانيات): تحاول اتجاهات روحانية بث انفاس إنسانية على إيقاع لاهوتي قديم في الجسد. والأمر مبني على اعتبار الجسد في الحقيقة أقل أهمية من الروح. ولا تخفى الثنائية: جسد/ روح، عقل / حس، جوهر / مظهر.
والجسد هاهنا هو البديل الخلفي لما كانت تمارسه السلطة المادية. ولذلك، فالروح هو السلم لمعراج بالجسد نحو الأعلى. ويؤكد هذا التفكير أنَّ الجسد سيتحول من كتلةٍ غرائزيةٍ إلى مستوى شفاف. أي محاولة للتطهر من الإحساس الداخلي بالخطيئة على افتراض كون الجسد جراباً لآثام قديمة.
والأخطر أنْ يصل الجسد رغم ماديته إلى سلطة باسم الروح، وهذا ما يعيد قداسته المفقودة. والأمر واسع الانتشار في الجماعات الصوفية والأديان التي تعنى بالروحانيات حيت تختزل القداسة في أشخاص بعينهم. ويصبح الجسد منعزلاً، هائماً فوضويا، غائباً. وهذا له جانب سياسي متعلق باصطياد الاجساد الهائمة ضمن حشود الأيديولوجيا، فالسياسة تفرغ الأجساد من طاقات التمرد، وإذا كانت الروح تفعل ذلك، فليس أمام الأنظمة السياسية سوى مد خط الروحانيات إلى المجهول، حتى تترك الأجساد كقواقع مقذوفة على شواطئ الحياة.
الجسد مؤدلجاً( سلطة الأيديولوجيا): تأتي الفكرة من إلباس الجسد لباس الأيديولوجيا، وكافة الأيديولوجيات تخضع الجسد لمعايير حاكمة، تقده قداً على مقاييس معينة إنْ لم تكن لتخلقه من جديد. الأيديولوجيات الدينية تستعمل لاهوت التحريم للسيطرة على الجسد، فلَّها طقوس حول ماهيته من إسناده إلى الإله وكيفية التعامل معه وآداب اللياقة الجسدية وأزمنته وأهم التغيرات الطارئة عليه. كل ذلك في إطار تنظيم اجتماعي ثقافي يستقبل إمكانياته وفق مرجعية الدين.
كذلك الأيديولوجيات السياسية تتعامل مع الأجساد كمعادل موضوعي لتحقق منافعها. فهي تريد الاصطفاف باسمها وتنحت علامات الجسد وفقاً لتراتب يخدم مصالح الفاعلين. فالأيديولوجيا الماركسية تفترض الاصطفاف في مجتمع الطبقات بما يشعل الصراع الاجتماعي.
وكذلك الاتجاهات الليبرالية تفترض أن الأجساد تتحول إلى ثقافة تحرر نفسها من مركزية السلطة لصالح سلطتها الخاصة، بحيث يتقلص دور الدولة والمجتمع وتزيد رقعة الحرية الفردية. ولأول مرة بعد عصر النهضة وجدت الاجساد صدى لتحولاتها في مسارات نوعية بجب أن تقطعها. ومع وقوع الايديولوجيات في حفرة اللاهوت من جهة مركزية النظرية ونسق الفكر إلا أنها تركت أثراً لم يكن مقصوداً. مؤداه أن الجسد بإمكانه حمل مصيره كطاقة قابلة للانفجار خلال أية لحظة. ولذلك فإن عصور الأيديولوجيات تنتهي غالباً بانفجار حيوي للأجساد على جثث النظريات المغلقة.
الجسد طقساً( التدين الظاهري): وهو المنتشر لدى جماعات الاسلام السياسي كانتشار النار في الهشيم. يعتبرون الجسد طقساً جمعياً علينا تغطيته بالرموز. وهو ما يوثق عرى السلطة مستدعياً اشباحها. السلطة هي سلطة المقدس، فالرجال يرتدون جلباباً وبنطالاً قصيرين، وتنقش الذقون بلحى طويله وتحمل الأيدي سواكاً لا يمل صاحبها تخليلاً لأسنانه. ويمشون بتؤدة ومثابرة بين خطى سريعة وأخرى بطيئة تعكس خجلاً خادعاً كإيحاء بالخشية من الله. ولا ينسى رجال الجماعات الاسلامية محاولة التظاهر بالجدية المطلوبة لحسم الأمور.
الجسد تسييس ذكوري يعكس خطاب الإسلاميين البرجماتي الذي يصطاد متابعيه في شباكه من أول طرحِه، مع الزعم أنه مجرد جسد عابد، قانت لله في تفاصيله ومسعاه. بالطبع سيأتي المظهر مع علامة الصلاة(الزبيبة بالجبهة) والوجه الجاد كأنَّ ثمة مهمةً لا تنتهي. أما جسد النساء فهو محط عناية الاسلام السياسي بالمقام الأول. التغطية بالنقاب والملابس السميكة هي نظرية سياسية في طبيعة المرأة وأفكارها ووجودها في الحياة. كما أن جسدي المرأة والرجل مربوطان بمرجعية جهادية تترجم إلى أفعال دموية، ولذلك فالجسد الذي هو طقس بالمعنى السابق كان عبوة ناسفة تحصد الأرواح لدى الدواعش والقاعدة والسلفية الجهادية وبوكوحرام.
الجسد أداة مدمرة ( تقنية حربية ): هو ما يظهر في الحروب التي ينخرط فيها البشر بلا طائل، وقد مرت البشرية بحربين عالميتين ضروس في النصف الأول من القرن العشرين، الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. حيث كان الإنسان الأوروبي (إنسان الحداثة والعقلانية والتنوير) آلة تدمير بامتياز.
وقد ظهر إنسان هذين الحربين راكضاً وراء أشباحه كأنَّه كائن أحمق وطائش. يركض ليحرق ويدمر تاركاً الأرامل والثكلى والأيتام في شوارع أوروبا. يبدو أن الإنسان إذا أشعل غرائز القطيع والتوحش لن يوقفه سوى الفناء. لا يختلف في هذا مجتمع عن سواه. مما حدا جان بول سارتر إلى طرح سؤال الوجود كنبع أصيلٍّ لحرية الإنسان. الوجود يسبق الماهية أيا كانت، أي ليَعُد الإنسان إلى وجوده كما هو أولاً، ثم ليبحث عما سيكُّونه من مشروعٍ. الإنسان مقذوف وجودي عليه أن يتحمل تبعاته. ومهما تكن المشروعات التي ستحقق جوهر الفرد، فلن تجدي بدون حريةٍ هي لب ماهيته. الوجود كامن في كيانه الجسدي بقدر أصالة الحياة وغرائزها.
الجسد طاقة( آلة عمل): الجسد هو الرصيد العيني لفكرة العمل، فما لم يكن ثمة جسد هو طاقات مختزلة ما كان بإمكاننا تصريفها في صورة أعمال. معنى ذلك أن العمل هو الجانب المختزل داخل الجسد بإدارة الذات نحو المنفعة. لكنه يفترض مورداً اجادت الرأسمالية استغلاله لتحقيق الأرباح وفتح الأسواق.
كانت المقايضة لا تخطئها العين بين القوى العضلية للجسد والقوى الشرائية التي قد يجنيها، ليجيء جعل الجسد ماكينة بشرية تستنزف قدراته تباعاً. وقد نوَّه ماركس أنَّ العمال يبيعون قواهم الجسدية من أجل احتياجاتهم، وأنَّهم بذلك يقعون تحت نير طبقة الرأسمال التي لا ترحم. حيث يراهن الاقتصاد على فائض القوة الجسدية لجني المكاسب التي تهدر عرق الآخرين.
الرأسمالي لدية كل الحيل الممكنة وغير الممكنة في امتلاك الأجساد بواسطة أمرين. أولاً: التحكم في الأسواق وسيولة الأسعار وبالتالي سيثير سيولة الطاقة الجسدية الباحثة احتياجاتها الأولية. ثانياً: اعتبار الاجساد معاول لزيادة ثرواته عن طريق استنفار غرائزها ببدائل لا تتوافر لجميع الناس نظراً لتدني الأجور. سواء من خلال نوعية السلع المادية أو بالاشتغال على إثارة الرغبات وإدارتها لصالح الأغنياء وأصحاب السلطة.
الجسد عارياً( الافقار والعُري ): ظاهرتا الفقر والعُري ( في مجتمعات معاصرة ) مرتبطان بالتقائهما عند مستوى الشهوات. صحيح لا يوجد قانون للأجساد التي يحملها الفقراء وكذلك لأجساد الطبقة الثرية المتمتعة بحياة مرفهة، إلاَّ أنَّ الجسد الفقير العاري من إنسانيته ومن حماية المجتمع هو منشور سياسي لفضح الأنظمة الحاكمة المستبدة. هذه الأنظمة المتخمة بإشباع الغرائز لفئات عُليا، في حين تتلاعب بالفقراء عن طريق الجسد كترمومتر لبسط النفوذ واستهلاك طاقات التحرر واهدار رصيد الحياة.
صناعة الفقر هي صناعة ثقيلة تشغل ماهية الجسد وتربطه بالمجهول حتى الرمق الأخير. وهي صناعة تقول: ليكُّن الجسد هو الآكل لنفسه إنْ لم يجد ما يقتات عليه. وإذا كان ” كل تغير كمي يؤدي إلى تغير كيفي ” بعبارة الماركسية، فتجويع الجسد يطفئ على الأقل جذوة النهوض والحركة. ومع طبع الفقر في طيات الجسد( الفقراء عادة كالأشباح)، فالفقر علامة واضحة للعيان، الفقر يمشي على رجلين في أحرش المدن والقرى والحواري والأزقة.
أغلب المجتمعات العربية تتَّوحل– بهذا المعنى- في العشوائيات السكانية على نواصي المدن وأحزمة القصور والمزارع. إنه عرض الجسد عارياً لكشف لحم الفقراء أمام العيون، أما حالة العُري في الدعارة والشواطئ والنوادي والفنون والدراما والسينما فتكتب رداً على الإفقار المادي بإفقار قيمي( أخلاقي).
ليس ثمة مبرر أخلاقي يلزم الفقير ببيع جسده وعقله وإرادته وحريته لمن يدفع دون أن يشعر بحرية كيانه. حيث يكون الجسد سلعة الأنظمة السياسية وسلعة علب الليل على السواء. إنَّ العري القائم على الفقر هو أقسى أنماط العُري اذلالاً للإنسان، لأنَّه غدا بضاعة مكشوفة أمام الذباب الاجتماعي والسياسي أينما رحلت. والذباب نتيجة فضيحة انكشاف الجسد لمن يشتري سواء أكان ديكتاتوراً سياسياً يتاجر بالعقول وإرادة الشعوب أم راغب متعة يتسَّقط ضحاياه الذين هم ضحايا آلة اقتصادية تدهس الفئات الفقيرة.
الجسد كائناً آلياً( الربوت): ظهر هذا النوع من الجسد نتيجة تخليط التقنيات المتطورة الكترونياً مع الجسد كنسيج بشري. فظهر ما يسمى الإنسان الآلي أو مزيج من الجسد الحي وشرائح الكترونية تؤدي وظائف بعينها مثل التذكر وتغذية الجسم أو زراعة أعضاء مصنَّعة في اللحم الحي. هذا الجسد يشكك في قدرات السلطة التقليدية على بسط نفوذها، فالسلطة لا تظهر وتمارس وظائفها بخفاءٍ، لكن ماذا لو كانت التقنية متغلغلةً فيما هو حي داخلنا؟!
الجسد الآلي ليس خطراً على الجسد البيولوجي، لكنه دوماً يشكل خطراً على السلطة، لأنه يأتي من النقطة الأكثر عماءً بالنسبة إليها. فكيف سيشعر بالخوف من لا يشعر بالحياة مثلاً؟ كيف يميز الجسد الآلي بين هذا وذاك دونما برمجة سالفة التجهيز؟ هذا الوضع يحتاج نمطاً معقداً من السلطة، فالجسد الآلي يحمل سلطته الخاصة إلى أبعد درجة. ويلعب اللعبة ذاتها التي تفرزها السلطة وهي لعبة الوسيط، فلئن كانت السلطة أداة هيمنة ناعمة، فالجسم الآلي وسيط في الفضاء المعمول به. ليضع أية سلطة تقليدية موضع الاستفهام.
الجسد متخيَّلاً( قوة الخيال): هو الجانب المتخيل الذي لا يجري الجسد بدونه. فليس الجسد مادةً حية ثابتة في كل الأحوال، لكنه نزوع نحو التَّوهم بجسد آخر أكثر قبولاً وكمالاً وإدهاشاً. فقد يكون ثمة جسد مشوه، ولكنه لدى صاحبة دائرة مكتملة تؤدي لتلامس السلبي والإيجابي في صورة جميلة. كما أنَّ الرغبات تمد الجسد بشحنات من جنسها على مستوى الخيال. ويغدو موضع القصور موضعاً لإثارة المزيد منها عند حالات العِوُز.
الجسد افتراضياً( سلطة الديجيتال): وهو الجسد غير المحدد والأكثر ذكاء بين جميع أنماط الجسد وتحولاته السابقة. إنّه منظومة رقمية تتوافر لديها إمكانيات تتفلت من السلطة في فضاء المعلوماتية والانفتاح بين البشري والتقني والتجدد المستمر للإمكانيات( التحديث). كما أنَّه يعلن المشاركة الإيجابية في الحياة عبر خلق شبكة من العلاقات العنقودية بين العقول بمقدار توافر الممارسة فائقة الجودة واللياقة.
وليس يكفي للسلطة أنْ تراقب وتتابع وترسم الحدود بيولوجياً، فهذه الأشياء تحديداً هي ما يعمل الجسد الافتراضي على هدمها. لأنَّه نسيج خارج – داخل أشكال الزمان والمكان بمعناهما المألوف، أي هو جسد يدمر الثنائيات الموروثة بما هي ضد الاختراق وأنها القفزات القصوى لمفاهيم كلية. فالأبعاد المنتمية إلى الاثنين لا تنتمي موضوعياً إليهما وإنْ أشارا إلى ذلك. فالزمان والمكان مقولتان ميتافيزيقيتان في تاريخ الفلسفة، أمَّا في الواقع الافتراضي، فيصبح المكان زماناً والزمان مكاناً على أساس أنَّ التشكيل السائل هو الفضاء الأبرز. والجسد الافتراضي بمثابة الإمكانية غير المتصورة لجسد يفعل ما يشاء بحكم قدراته من واقع العالم الذي يسكنه.
الجسد الافتراضي لا يموت لكونه ذاكرة إلكترونية لها نسيجها الخاص حيث يمكن تجديدها. ذاكرة تختزن في تفاصيله مستقبلاً مفتوحاً لم يأت بعد، حتى أنَّه كلما مر بانحنائه زمانية يجدد وضعه خارج ما هو منظور، نستطيع القول بأن الجسد يقاوم موتاً يحتاج مادة لإفنائه. بينما الواقع الافتراضي يكتسب الحيوات تلو الحيوات كاحتمالٍّ لا ينضب، فقوانينه كامنةٌ داخله لا خارجه.