ها قد سقطت ورقة التوت وانفضحت عورة المجتمع البطريكي وعلت أصوات الخوف من النّساء ونحن نشيّع جثامين النّساء إلى مقبرة جماعيّة لتحجب ببشاعتها مجرما قابعا خلف مسرح الجريمة ودموع يتامى خلفتهم فلاحات لقين حتفهن مطحونات مع الدجاج الأبيض المصنّع المصطلج عليه عندنا في تونس “دجاج الماكينة”.
هنّ أيضا لا فرق بينهنّ وبين الماكينة: ماكينة للزّرع وللحرث وللجني ولتقليع الأعشاب الضّارة ولفرز البطاطا وتنضيدها في الصناديق، وما كينة لغسل المواعين إن وجدت وإطعام النعاج إن وجدت وتنظيف البيت والاعتناء بأهله من صغير وكبير. علت أصوات تميز بين بنت المدينة وبنت الريف والفلاحة وعاملة الإدارة والجالسة في قصر قرطاج والعاملة في حقل من الحقول، فهذه تنعت بالشريفة لأنّها لا تضع الزينة وتلك تشتم بأقذع النّعوت لأنّها تنتمي إلى مجال حضري وتلبس ثيابا عصريّة وتحمل عطورا وزينة لافتة. تلك أصوات تعالت تفرق ولا تفسر وتميز وتسيء إلى العاملات في كلّ شبر من الوطن. والمتأمل واجد في حادثة السبالة الأخيرة الّتي خلفت وراءها 15 ضحية من نساء وأطفال ورجال صورة من صور الإفلات من العقاب وغياب الضمير الوازع ولامبالاة المجموعة بكرامة البشر.
فكيف يسمح التونسيون لأنفسهم أن تكون على طرقاتهم شاحنات تقلّ عشرات النّساء والأطفال كبضاعة جامدة لا روح فيها؟؟
أهذه هي الروح الإلهيّة الّتي نفخها الله في الطين فسوّى منه بشرا وأسجد له الملائكة وأغضب لأجله إبليس؟ أهذه هي الكرامة البشرية الّتي نتعلمها مع نطقنا أوّل كلمة عادة تكون كلمة مناداة الأمّ الّتي حملت وأرضعت ووضعت؟؟ أهذه هي الكرامة البشرية الّتي لأجلها تسنّ القوانين وتوضع التّشاريع؟
لماذا نقبل في شوارعنا أن ينقل البشر كالحيوانات وكالأشياء وفي بلاد الحقوق حتّى الحيوانات لا تنقل بشكل يخلّ بحقوق احترام كائن حيّ؟ فما الّذي رخّص الإنسان حتّى غدت قيمته أقلّ من قيمة كيلو بطاطا ممّا يزرعه ويرعاه ويجنيه بيديه؟؟
إنّ المسؤول عن موت ضحايا الدوّار الحزين هم نحن جميعا لأنّنا نرى ونسمع ما يحدث لغيرنا دون أن يتحرّك لنا ساكن، فـ”ضربة في غير جنبك كأنّها في حائط” وهي حكمة تتماشى مع الثّقافة الذكوريّة القائمة على التراتبيّة والتّمييز والهيمنة وتقديم مصالح القويّ على الضّعيف، أتّهم كما يقول الشّابي جذوعنا وأرغب أن أهوي عليها بفأسي مثله تماما لأنّنا تركنا بناء مصيرنا الجماعي القائم على المواطنة والمساواة وفكّر كلّ واحد فينا في خلاصه الفرديّ وتدافعنا لأجل مصالح شخصيّة تاركين العنان لقيم السّوق والغاب تتحكّم بجوهر إنسانيتنا، لأنّنا لا ندين الإفلات من العقاب ولا نحرص على تطبيق القوانين، لأنّنا نسكت عن الظلم الاجتماعيّ ولا نفعل كلّ ما بوسعنا لنقلّص الهوّة بين المدن وأرياف البلاد وبين الأحزمة الفقيرة الّتي تحيط الأرياف والمدن. فنحن مسؤولون جميعا عن حفظ كرامة كلّ مواطن فينا وحفظ حقوق الضّعفاء. ولم السكوت عن ظاهرة استرقاق البشر الممثلة في استغلال اليد العاملة النسائيّة الرّخيصة بأبخس الأثمان وعدم توفير تغطية صحيّة ولا نقل آمن لهنّ وعدم الاعتراف بهنّ أيضا في القوانين ورفض مساواتهنّ بالذكور وأكثر من 80 بالمائة منهنّ ينفقن في آخر الاحصائيات على عائلاتهنّ بنسبة تفوق النّصف وتصل إلى الإنفاق بنسبة مائة بالمائة في بعض الحالات. فلم تموت العاملة الّتي تقيت العائلة ولا يعترف حتّى بمواطنتها التامّة وكيف تجرؤون على ترديد أنّ المساواة التامّة والمساواة في المواريث لا تخدم هذه الفئة من النّساء الكادحات؟ إلى متى أيّها المجتمع الّذي سقطت عورته وانكشفت فضيحته تواصل ادّعاءك بأنّ المساواة في المواريث لا تحلّ مشكل هؤلاء العاملات وهنّ تم تفقيرهنّ على مدى السنوات تفقيرا ممنهجا بحرمانهنّ حتّى من نصيبهنّ الضّئيل الّذي خصّصه لهنّ الشّرع من الإرث.
في أصل الخوف من النّساء وتحقيرهنّ:
يروى أنّ المرأة بالنسبة إلى إنسان ما قبل التّاريخ ذلك الّذي عثر على بعض بقاياه في مكان مّا من القصرين قريبا جدّا من سيدي بوزيد وفي جهة الوسط الغربي المنكوب موضوع حبّ ورغبة وخوف ورهبة. فمن جسدها تنشأ الحياة ومن صدرها ينبع حليب وهي كالأرض تماما هاهي المرأة تحبل بالأطفال وتحبل الأرض بالبذور وتجدّد المرأة الحياة وتجدّد الأرض الحياة فهما منشأ للأشياء ومردّ لها. وقد ترك الإنسان الأوّل علامات على عبادة هذه الأنثى الخالقة للحياة، هذه الأنثى الطبيعة، إنّها الأم الكبرى معبودة في كلّ مكان وسابقة لظهور الآلهة الذّكور. هي أنانا السومريّة وعشتار البابليّة وإيزيس المصريّة وعشتروت الفينيقيّة وأرتميس اليونانيّة وديانا الرومانيّة وفينيس الفينيقيّة والعزّى العربيّة. هي تلك الحوتة الّتي تطرد كلّ عين. الّتي تعلقها كلّ امراة وكلّ صبيّة.
كانت الأنثى ترمز للسّلطة والحياة وللموت والظلمة والنّور والولادة وجمعت الأضداد ولذلك كانت مقدّسة لأنّها في نفس الوقت مصدر متعة وألم ورغبة ورهبة. كانت مخيفة مثل كلّ الآلهة ومهابة مثل كلّ الآلهة تقول إيزيس المصريّة: “أنا ما كان وما هو كائن وما سيكون، وما بإنسان بقادر على رفع برقعي” لقد حاول اب نزع برقع إيزيس فأصابه الخبل وانعقد لسانه بقية حياته وهذه القصّة تلخّص الرّهبة من سفور الأنوثة فهي لغز وهي حيرة ولكنّ الثّابت أنّ حول هذه الأنثى العظيمة شُكلت الحضارة وتشكّلت أولى القيم اللاّزمة لكلّ حضارة: القيمة الكبرى والأولى البقاء على قيد الحياة. قيمة الحياة. وقد كان هذا الحضن الأمومي مدعما بعاطفة الأمومة الّتي تبذل نفسها في مشاعة وعدالة ومساواة. فنجد حنينا إلى هذه الأمّ الحياة في تعلّقنا بالجرّار وفي بعض الوشوم وفي بعض المفردات: كأن نقول “وراس الحنينة” ففي هذه المفردات تقديس الأمّ. لذلك نجد خطابا مزدوجا حول النّساء: هؤلاء شريفات وهؤلاء عاهرات..هؤلاء أمّهات وهؤلاء غريبات.
لكن كيف يمكن أن يقدّس مجتمعنا “الأمّ” ويحتقر “المرأة الغريبة” كيف أسقطت المرأة من عرش ألوهتها الرمزيّة لتصبح مرادفا للغواية: فهي الحيّة وسبب الشّر والشّيطان والسفيهة والفتنة والنّاقصة ورديف السّقوط والعورة والمرأة المخيفة والمرأة الّتي تهدّد تخيف وترعب الّتي يجب ضبطها وإخفاؤها وتأديبها وضربها وقتلها وإسكاتها وإرغامها على الاختفاء من الفضاء العامّ من النّور ومن الضّوء. وهرسلتها في الفايسبوك لتصمت وتختفي عن الأنظار وإخراس صوتها؟
لكن ذلك غير ممكن أبدا. لأنّ الحياة لا تستقيم بلا أنثى، ولأنّ القيمة الأصليّة المرتبطة بالمرأة هي قيمة الحياة ولأنّ سجن النّساء وإذلالهنّ وقهرهنّ وضربهنّ وحرمانهنّ من حقوقهّن هو عداء للحياة نفسها.
لقد كانت الأنثى معبودة كلّ البشر قديما وتعدّدت قصصهنّ ولم يبق من ذلك التّقديس في ثقافة النّاس الّتي تعود بين الفينة والأخرى لتعيق المساواة بين المواطنين سوى الجانب المظلم للأنثى: جنية الظّلام والغولة والنهالة والسّاحرة والعجوز وعزوزة الستوت الشّريرة وأمّ السيسي الّتي تقطع ذيل القطّ.
لقد تطلّب بناء الجمهوريّة في تونس بعد الاستقلال خروج الكفاءات للعمل والبناء وساهمت النّساء في كلّ المجالات وكنّ حاضرات دائما في تاريخ البلاد المنسيّ والمتروك في الظّلام في الفلاحة طوّرن مخزونا هائلا من التقنيات كتخزين المؤونة والاعتناء بالحيوانات والمؤازرة في الكفاح ضدّ المستعمر ومداواة واستطباب المرضى فضلا عن المهام الموكولة إليهنّ ولكن تاريخهنّ مسكوت عنه وغير معترف به وغير مترجم في القوانين الّتي تمّيز الذّكور عليهنّ. وطالبن بالحقوق السياسية ما إن تعلمنّ ودرسنّ في الجامعات وصار لديهنّ وعي بما كان يعيقهنّ عن المشاركة في الحياة العامّة من حجب مرئيّة وغير مرئيّة لكن كوابح المجتمع عديدة فتستنقص قدراتهنّ ويحملن دائما الأعباء التقليديّة ويعتبرن تهديدا للاقتصاد وللفرص المتاحة أمام الشّباب الباحث عن العمل. ويستنزفن في أعمال شاقّة لا ينلن من ورائها أجرهنّ كاملا ولا ينلن أيضا مواطنتهنّ ولا يتمكّنّ من الوعي بحقوقهنّ بسبب الأميّة والتّجهيل والانقطاع عن التّعليم وتخلي الدولة عن التنمية الاجتماعيّة وترك المدن والقرى والفئات الضعيفة تواجه وحدها رياح العولمة العاتية.
إنّ احتجاجات المعطّلين في الحفي وفي قلب القصرين أمام الولاية تشير إلى ارتفاع نسبة النّساء اللّواتي يحملن شهائد ويحرمن حتّى من نصيبهنّ الّذي قد يسمح لهنّ للحصول على قرض وتقديم شيء مقابله كضمان. وإنّ بين عاملات الفلاحة حاملات شهائد عليا ومتخرجات من الجامعة يئسن أن يجدنّ عملا فصبرن أنفسهنّ بعمل يسدّ الرّمق. وهنّ على وعي بأنّه يمتهن كرامتهنّ ولكنّهنّ في شيء من القنوط يقبلن للبقاء على قيد الحياة. إنّ النّساء يواجهن بشكل متزايد ذهنيّة تستنقصهنّ وتعتبرهنّ مصدر خوف ومصدر فتنة ويزاحمن الذّكور في سوق الشّغل ويستكثرون عليهن المطالبة بالمساواة ويعتبرون أنّهنّ حصلن على كلّ حقوقهنّ.
لكنّ النّساء لا يزال أمامهنّ عقبات مجتمع جرحت أبوته وعجز عن توفير الحماية لمنظومة قامت على تمييز الذّكور على الإناث بسلطة القوامة والولاية. فالواقع الصّعب جعل المرأة في أكثر من بيت قوامة بشكل نسبي أو تامّ على ذكور البيت فتعمل وتطعم وتبني وتدرس وهو ما يتناقض مع تصوّرات المجتمع عن الذّكورة والأنوثة. إنّ أصوات الثّقافة الذكوريّة تحجب المسؤول الحقيقي عن المأساة الّتي حدثت ومآسي أخرى تحدث في كلّ شبر من البلاد، وتحجب أيضا أوجاع فقد شبابنا ورعاتنا الأبطال.
إنّ الّذين قتلوا الرّاعي وفصلوا رأسه عن جسمه في بوعمران، والّذين زرعوا اللّغم فانفجر على العريف بلال الزديني منذ أسبوع في الشعانبي والّذين يهرّبون البضائع ويضرون بالبلاد ويخترقون قوانينها وينتشرون بسيارات بلا لوائح منجميّة والّذين يستغلّون فتيات المعامل والفلاّحات وعاملات المناولة، إنّهم المجرمون الحقيقيون: المهرّبون والإرهابيون والهاربون من القانون. وصمتنا مدان وكذلك هذه الأصوات الذكوريّة الّتي تعلو لتخفي مسؤوليّة المجرمين وتحمل النّساء والمنظمات المدنيّة والنسائيّة المسؤوليّة تاركين الإشارة بالبنان إلى المجرم القابع فيهم: إلى ثقافة الأبويّة والهيمنة والقهر، ثقافة التّمييز والحقرة.
وخلاصة القول فإنّ المرأة التونسيّة فاعلة اجتماعيا في الواقع لكن الثورة الحقيقيّة تتحقّق حين نواجه ما ترسّب في لا شعورنا على مدى القرون من احتقار واستعباد للنّساء. عندئذ يولد المجتمع الجديد العادل الّذي يتقلّص فيه شعور المرء بالقهر وتسوده قيم الكرامة والعدالة والمساواة. وعندئذ لن تقبل امرأة ولا رجل أن يحمل كالشّيء في شاحنة ولا أن يداس على كرامته البشريّة.
إنّي أتهم الثقافة البطريكيّة الّتي تمنع شعور النّاس بكرامتهم البشرية وتتلبّس بالأخونة والوهبنة والإسلام السياسيّ العقيم وتبرر التّمييز بالدين فهذه الثّقافة الأبويّة المتغطرسة والمتلبسة بالفقه والوهابية حاجب ثقيل يعلو صوته كلّما اقتربت لحظة مكاشفة التمييز وتداعي أسسه، إنّي أدين ثقافة سقطت أقنعتها وتعرت عورتها وآن لنا الآن أن نثور ضدّها لأنّها ثقافة استعباد الإنسان وإهانته. لأنّها تبدأ من اعتباره عورة ومصدر شرّ ونصفا وتنتهي بمحقه مع دجاج الماكينة كما لو أنه ليس.