حركة خارج السرب | حرّيّة الضّمير في تونس
حرّيّة الضّمير في تونس
2019-07-16 | 2045 مشاهدة
د.رجاء ين سلامة
مقالات

كثيرا ما نخلط في العالم العربيّ بين حرّيّة المعتقد وحرّيّة الضّمير، والحال أنّ حرّية الضّمير أشمل من حرّيّة المعتقد، وأهمّ من حيث الاعتراف بالذّات وفرادتها. أذكّر أوّلا بتعريف حرّيّة الضّمير كما جاء في المادّة  18 من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان : “لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه أو معتقده، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة.”

حرّية الضّمير إذن لا تقتصر على حرّيّة التّديّن، بل تشمل حرّيّة العلاقة بالدّين، وتفتح إمكانيّات تغيير الدّين، أو تغيير العلاقة به، أو عدم الاعتقاد في أيّ دين، وتشمل أيضا حرّيّة إظهار هذا المعتقد. وهناك مفارقة في تسمية هذا الحقّ بالفرنسيّة والعربيّة. فهذه الحرّية مرتبطة بالحياة الباطنيّة le for intérieur  في مقابل الحياة الظّاهرة le for extérieur المرتبطة بسلطة الكنيسة على أتباعها، وترجمت بالعربيّة بالإحالة إلى هذه الحياة الباطنة، أي إلى “الضّمير”، وهو في لسان العرب “السّرّ وداخل الخاطر”.

وهذه الباطنيّة يستعملها المحافظون حجّة لجعل هذه الحرّيّة مقصورة على المجال الخاصّ، بحيث أنّ الإنسان يستطيع أن يعتقد ما يشاء شريطة أن لا يجاهر به. وهذا في الحقيقة ما يعبّر عنه مبدأ “إذا عصيتم فاستتروا”، وهو مبدأ لا يسري على الحرّيّات في منظومة حقوق الإنسان، ولا يسري على حرّية الضّمير بالذّات لأنها تشمل إظهار المعتقد كما هو واضح من خلال التّعريف المتقدّم. وهنا يكمن أحد مواطن الالتباس والجدل.

وللمادّة 18 من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان مقدّمات سابقة في إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789. أمّا قبل العصر الحديث، فمن الصّعب العثور على مرادف لهذا الحقّ. ففي القرآن على سبيل المثال آيات تفيد التّخيير في العقيدة، كالآية 256 من سورة البقرة : ” لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغيّ، فمن يكفر بالطّاغوت ويؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، واللّه سميع عليم”، وكذلك الآية 29 من سورة الكهف “وقل الحقّ من ربّكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. إنّا اعتدنا للظّالمين نارا أحاط بهم سرادقها، وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمُهل يشوي الوجوه بئس الشّراب وساءت مُرتفقا.” ومن الواضح أنّ هذه الآيات تميّز على أساس معياريّ بين الإيمان والكفر خلافا لمقتضيات فلسفة حريّة المعتقد وحرّيّة الضّمير. نضيف إلى هذا أنّ استعمال آليّة النّسخ أدّى إلى اعتبار آية السّيف ملغية لكلّ آيات التّسامح النّسبيّ والرّحمة بغير المسلمين.

أمّا في تونس، فما نلاحظه أوّلا هو وجود تراكم وتطوّر في اتّجاه إثبات هذا الحقّ منذ القرن التّاسع عشر إلى اليوم. فبالإضافة إلى أنّ القوانين التونسيّة لا تتضمّن عقوبة الرّدّة، فإنّ وثيقة عهد الأمان، الصّادرة في 10 سبتمبر 1857 نصّت في مادّتها الأولى على” تأكيد الأمان لسائر رعيتنا وسكان إيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان في أبدانهم المكرمة وأموالهم المحرمة وأعراضهم المحترمة إلا بحق يوجبه نظر المجلس بالمشورة ويرفعه إلينا ولنا النظر في الإمضاء أو التخفيف ما أمكن أو الإذن بإعادة النظر”. ثمّ نصّ دستور 1959 في مادّته الخامسة على أنّ “الجمهورية التونسية تضمن حرمة الفرد وحرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالأمن العام.”

ثمّ طرحت حرّيّة المعتقد ومعها حرّيّة “التّفكير” في  إطار هيئة 18 أكتوبر التي كانت إطارا سياسيا يجمع أحزاب المعارضة العلمانيّة والإسلاميّة، وتحديدا في “الإعلان المشترك حول العلاقة بين الدّولة والدّين”، وهو ينصّ على ما يلي  :

“إنّ الدّولة الدّيمقراطيّة المنشودة تقوم على مبادئ المواطنة والحرّيّة والمساواة، وبناء على ذلك فهي تسهر على ضمان حرّيّة المعتقد والتّفكير، ومقاومة كلّ أشكال التّمييز بين المواطنين على أساس العقيدة أو الرّأي أو الجنس أو الانتماء الاجتماعيّ أو الجهويّ، كما تضمن للمواطنين جميع الحرّيّات والحقوق الأساسيّة التي تشكّل أساس النّظام الدّيمقراطيّ.”

وهو ما يعني وجود انتقال تدريجيّ من القبول بتعدّد الأديان وضمان التّعايش السّلميّ بين معتنقيها، ومساواتهم في الجباية، إلى حرّيّة المعتقد عموما، إلى حرّيّة الضّمير كما نصّ عليها الفصل السّادس من دستور 27 جانفي 2014، وهذا نصّه :
“الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدّسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي.

يحجّر التّكفير والتّحريض على العنف.”

لكنّ هذا التّطوّر نحو إقرار حرّيّة الضّمير لم يكن نتيجة قرار هادئ من أعضاء المجلس التّأسيسيّ الذي أصبح سلطة مشرّعة إثر ثورة 14 جانفي 2011، ولم يكن علامة على طيّ صفحة الصّراع بين المجدّدين والمحافظين بعد إقراره. كان هذا الفصل أوّلا موضوع معارضة شرسة من ممثّلي المؤسّسات الدّينية الرّسمية آنذاك، وأقصد بذلك مؤسّسة الإفتاء والمجلس الإسلاميّ الأعلى. كما حاولت بعض القوى الدّاعمة لحركة النّهضة تنظيم معارضته في الشّارع. فقد عارضه “ائتلاف دعم الشرعية” في مؤتمر صحفيّ دعا إليه يوم 21 جانفي 2014. ورغم أنّ ثلاثة أرباع أعضاء المجلس التأسيسيّ كانوا من حركة النهضة، فإنّ كفّة المدافعين عن هذا الفصل رجحت. وكان للنّخبة الفكريّة دور في هذا التّرجيح. فقد اعتبر الأستاذ عياض بن عاشور هذا الفصل مكسبا كبيرا : “وعلى هذا الأساس نجزم بأنّ الفصل من مشروع الدّستور، رغم ما فيه من تناقض، لهو أعظم مكسب لتحقيق الثّورة بتحديث المجتمع التونسيّ وتحرير رقابنا من كابوس العبوديّة الفكريّة التي يروم البعض تسليطها علينا وسيبقى علامة فخر واعتزاز للذين صّوتوا عليه وللشعب التونسي عبر القرون المقبلة.”

فميزان القوى المتصارعة داخل المجلس التّأسيسيّ وخارجه فرض هذا الفصل، بالقوّة المعنويّة للنّخبة وللمجتمع المدنيّ، ولكنّه في المقابل فرض تنازلا تمثّل في إضافة مفهوم غامض هو “حماية المقدّسات” : “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدّسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي.

يحجّر التّكفير والتّحريض على العنف.”

كما فرض ميزان القوى أيضا، وبصفة جذريّة، الفصل الأوّل : ” تونس دولة  حرة مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها. لا يجوز تعديل هذا الفصل.”

وهكذا حافظ الدّستور الجديد على مظهر من مظاهر الازدواجيّة بين النموذج التقليدي والنموذج الدّيمقراطيّ. وهو ما يعني، إلى حدّ مّا، ازدواج المرجعية في المرجع الذي يفترض أنّه يوحّد المرجعيات أو يقع في ما بعد أو قبل كلّ مرجعيّة. وهو ما أدّى إلى معارك تأويليّة حول نسبة الإسلام، هل هي إلى الدّولة بأجهزتها المختلفة أم المجتمع،  ينسب إليه الإسلام، وحول طبيعة الإقرار بإسلام الدّولة هل هو وصفيّ أم حكميّ (descriptif ou dispositif).

وتنجرّ عن هذه الازدواجيّة معارك  تأويليّة متجدّدة مع كلّ انتخابات وفي بعض المناسبات الدّينيّة أو الأحداث المرتبطة بالإبداع الفنّيّ والأدبيّ، في غياب محكمة دستوريّة تمثّل هيئة تأويليّة عليا، ومع بقاء بعض القوانين والممارسات القضائيّة خارج المبادئ الدّيمقراطيّة التي جاء بها الدّستور، رغم ازدواجيّة ماقبيليّاته المشار إليها.

وتتجدّد هذه المعركة خاصّة مع حلول شهر رمضان، حيث تطرح بحدّة حرّيّة الضمير. تغلق وزارة الدّاخليّة المقاهي والمطاعم خارج المناطق السياحية تطبيقا لمرسوم يعود إلى سنة 1981، والكثير من المواطنين والأفراد يطالبون بفتحها، وبحقّهم في التّجاهر بالإفطار. والسّؤال الذي نريد طرحه هو التّالي : هل هذا التّكرار والاستمرار دائريّ، أم يسير في اتّجاه محدّد؟ هل يؤكّد ما ذهبنا إليه من اتّجاه تونس منذ القرن التّاسع عشر إلى التّعلمن وإقرار الحرّيّات أم ينفيه؟ ثمّ ماذا عن الواقع المعيش؟ هل ساعد مبدأ حرّيّة الضّمير، الذي أقرّه الدّستور من توسيع مجالات الحرية الدينية رغم كلّ ما أحيط به من تنازلات تحافظ إلى حدّ ما على ازدواج المرجعيّات؟

فمن حيث أطراف هذا الصّراع واستراتيجيّاته، ظلّ الإسلاميون يولون أهمية قصوى للفصل الأوّل، ولعبارة “حماية المقدّسات” دون غيرها من عناصر الفصل السّادس. وظلّوا يحاولون إفراغ حرّيّة الضّمير من بعدها الحقوقيّ السّياسيّ، بحصرها في المجال الخاصّ، وبجعلها ممارسة فرديّة “شاذّة” ومخالفة لمعتقدات “الأغلبيّة”. لكنّنا نلاحظ أنّهم أصبحوا حذرين، بسبب تجريم التّكفير وبسبب صدمات العنف الدّينيّ التي وصلت إلى حدّ الاغتيال. وحتّى عندما يشيرون إلى انتهاك المقدّسات فإنّهم يمتنعون عن تكفير الأشخاص بصفة صريحة. كما انسحبت حركة النّهضة من السّجال المباشر، وأبدى الكثير من زعمائها مواقف إيجابية من الحريات الفرديّة. وتكفّلت بعض الأطراف التّابعة لها برفع راية حماية المقدّسات. من هذه الأطراف “نقابة الأيمة” التّابعة لمنظّمة نقابيّة إسلاميّة هي “المنظمة التونسية للشغل”.

وإضافة إلى هذا التّراجع للتّكفير، نلاحظ تفكّكا لمن يمثّلون الطّرف المدافع عن الدّين، وتعقّدا للواقع الدّيني نفسه، بوجود فاعلين فيه مختلفين ومتعارضين. فقد ظهرت على ساحة الصّراع التّأويليّ نقابة أخرى للأئمة تابعة للاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل، تميّزت بمواقفها اللّيبراليّة من شتّى القضايا التي تشغل الرّأي العامّ. ففي ما يخصّ حادثة مزج الموسيقى مع الأذان في حفل أقيم يوم 31 مارس 2017 في أحد الملاهي بالحمّامات، استنكر فاضل عاشور كاتب عام نقابة الأئمة التّوظيف السّياسيّ للحادثة، وبيّن أنّ  “هذه الأغنية الّتي تمّ فيها مزج الآذان مع موسيقى الهاوس تعود لسنة 1934 وهي موجودة على موقع اليوتيوب منذ سنة 2006. كما اعتبر أنّ دعوة المجلس النقابي للأئمة وإطارات المساجد إلى إغلاق كلّ الملاهي الليليّة هي دعوة مجانبة للصّواب ومخالفة للشّرع مشيرا أنّ دور الأئمة ليس محاكمة النّاس ومعاقبتهم بل هو الوعظ والإرشاد في المنابر المخصّصة لذلك.”

وقد سمح الانتقال الدّيمقراطيّ عامّة، وإقرار حرّيّة الضّمير خاصّة، بخروج أقلّيات كانت معتّما عليها إلى العلن. فالبهائيّون مازالوا يطالبون بالاعتراف الرّسميّ بمحفلهم الرّوحانيّ، ولكنّهم أصبحوا ناشطين وممثّلين في بعض فعاليّات المجتمع المدنيّ. ففي موفّى سنة 2017، عقد البهائيون ندوة صحفية بمناسبة مرور قرنين على ميلاد بهاء الله. وشاركوا في شهر رمضان من سنة 2018 في ندوة نظّمتها الجمعيّة التونسيّة للّدفاع عن الأقليات حول الصوم في الأديان المختلفة.

وفي مقابل هذا التّعدّد داخل من يمثّل الدّين والدّفاع عنه، نلاحظ محاولات لتجميع القوى المدافعة عن حرّيّة الضّمير والحرّيّات الفرديّة عموما. ففي يوم 19 جانفي 2016، أعلن عن تأسيس “الائتلاف المدنيّ من أجل الحرّيّات الفرديّة” ضمّ 31 جمعيّة تطالب بوقف انتهاك الحرّيّات الفرديّة. وتمكّن الدّاعون إلى حرّيّة الإفطار والمجاهرة به من تنظيم حملة “موش بالسّيف” التي تضمّنت وقفة احتجاجيّة يوم 18 ماي 2018، رفع فيها شعار “حرّيّة حرّيّة، في دولة مدنيّة”.

وجاء تقرير لجنة الحرّيات والمساواة[6] الذي قدّم إلى رئاسة الجمهوريّة يوم 8 جوان 2018 ليقطع شوطا في حسم المعركة التّأولية النّاتجة عن التباس الفصل الأوّل من الدّستور خاصّة. فحكم بأنّ الإسلام ليس مرجعيّة للدّولة بل ديانة يؤمن بها “معظم التّونسيّين”، أي أنّ هذا الفصل وصفيّ لا معياريّ، ويخصّ المجتمع ولا يلزم الدّولة تشريعيّا :  “الفصل الأوّل القاضي بأنّ “تونس دولة (…) الإسلام دينها (…) قد جاء فقط بتحديد أحد عناصر الانتماء الحضاريّ للدّولة باعتبار أنّ الإسلام هو دين معظم التّونسيّين. لكن ليس في هذا الفصل ما يخضع سلطة الدّولة لأمر من فوقها، وليس فيه ما يقيّد مشيئتها في سنّ القوانين بغير إرادتها. وهو معنى الإعلان الوارد بنفس الفصل من أنّ تونس دولة “ذات سيادة”. بذلك فإنّ الفصل الأوّل من الدّستور لا يحمل ولا يمكن تحميله موقفا معاديا لمبدإ المساواة، ولا يمكن البتّة تفسيره أو تأويله على أنّ فيه مناوءة للتّمييز أو ما قد يشلّ سعي الدّولة ويغلّ إرادتها لإقرار المساواة في الحقوق بين الجميع.” 

وربّما لا يكون هذا المعيش السّجاليّ بصخبه وحملاته سوى ما يظهر من جبل الثّلج. والمخفيّ من جبل الثلج هو المعيش الإيجابيّ الجديد لحرّية الضمير. فهذا المعيش هو نفسه متحوّل وفق زمنيّة أخرى تمثّل إطارا للتحوّلات التي تقع على المدى البعيد وبمنأى عن أنظار الإعلام المنشغل بالحوادث لا بالتّحوّلات البنيويّة العميقة. وفرضيّتنا هي أنّ هذا المعيش يتّجه إلى المزيد من التّحرّر الفردانيّ، رغم كلّ مظاهر التّديّن الظّاهريّ. وأدلتي على هذا آخذها من مجالات ثلاثة :

مجال الدّراسات السوسيولوجية : إذ تدلّ الكثير من الدّراسات السوسيولوجية على أنّ التّديّن أصبح فردانيّا، وينطبق ذلك على الحجاب نفسه. فأنت تجد في الأسرة الواحدة من تتحجّب ومن لا تتحجّب، علاوة على تعدّد وتعقّد معيش الحجاب. ويؤكّد تقرير “الحالة الدّينيّة في تونس 2011-2015” تعلمن التّديّن ونمط الحياة لدى التّونسيّين. فممّا جاء فيه عن “الإدراك الذّاتيّ لدى التّونسيّين للمعايير العامّة التي نفترض أنّها محدّدة في سلوكيّاتهم” ما يلي : “أجاب 4،42 % أنّهم يتبعون منفعتهم، و4،14 % أنّ هاجسهم تجنّب ما يعدّ عيبا في العرف الاجتماعيّ، و7،12 % أنّهم يتبعون ضمائرهم، و 5،47 % أنّ محرّك أفعالهم هو اتّباع الحلال وتجنّب الحرام. من المهمّ أن نلاحظ عدم بلوغ النّسبة الأخيرة نصف المستجوبين، وهو مؤشّر على تراجع اللّغة الدّينيّة والتّبريرات الدّينيّة، ومن ثمّ علمنة السّلوك…”
ممارستي الشّخصيّة والمتواضعة للتحليل النّفسيّ. فالكثير من الشباب الذين استمعت إليهم يتحدّثون عن أهمّية صفحات اللاّدينيين على الفايسبوك في حياتهم وخاصّة بعد الثّورة. من ذلك شابّ يعيش إشكال التّحوّل الجنسيّ ويرى أنّ هذه الصّفحات خلّصته من الشّعور بالذّنب، وشخص آخر له نوازع مثليّة أصبح واعيا بها نتيجة الصّفحات نفسها التي جعلته يبتعد عن معتقداته الدّينيّة الموروثة.
وهنا تلتقي حرّيّة الضمير مع هامشيات أخرى لها علاقة بالاتّجاهات الجنسيّة أو بالهويّات الجنسيّة الرّافضة للأنماط الجندريّة التّقليديّة.

كما نلاحظ أيضا تعدد المرجعيات وأنظمة الحقيقة لدى الشخص الواحد، مما يعبّر عنه بـ”بلقنة النفوس”. فللشّخص الواحد أحيانا خيارات متعارضة، بحيث يؤمن بالعلم ويقصد الطّبيب أو الأخصّائيّ النّفسيّ، كما يذهب إلى العرافة أو المداوي بالرّقية الشّرعيّة. ويحترم بعض الموانع الدّينيّة، فيمتنع عن أكل الخنزير مثلا، لكنّه يقبل على الخمر. وهو ما يعني أنّ الازدواج المعياريّ موجود داخل الذّوات، بل ويستجيب إلى بعض آليّات الدّفاع التي يضيق عن تحليلها مجال هذا المقال.

الكتابات النّابعة من ممارسة حريّة الضّمير والتي شهدت تطوّرا كبيرا في شبكات التّواصل الاجتماعيّ. إنّ شبكة الفايسبوك نفسها أخذت حجما كبيرا في تونس، بحيث وصل عدد حسابات الفايسبوك في تونس سنة 2014 6،4 مليون حسابا.وبيّن بحث ميدانيّ أنجزه المعهد الوطني للاستهلاك ونشرت نتائجه سنة 2016، وشمل 1022 أسرة من الوسط الحضري في تونس، أنّ 88 بالمائة من أسر العينة عندهم على الأقل أحد الأفراد له صفحة فايسبوك، وبيّن أنّ ثلث أفراد أسر العينة من سن 18 فما فوق يقضون معدل 20 ساعة في الأسبوع على الفايسبوك.
وتتميّز الكتابة على هذه الوسائط بقدرتها على تعميق الحرّيّات الفرديّة : فالنّشر فيها فرديّ وسريع ويمكن أن يكون بأسماء مستعارة. وقد شهد عالم الفايسبوك في تونس بعد الثّورة انفجارا للصّفحات المعبّرة عن حرّيّة الضّمير والمستغلّة للهوامش الجديدة. من هذه الصّفحات “صفحة الملحدين التّونسيّين”، وصفحة “جمعيّة حركة المفكّرين الأحرار”، وصفحة “ملحدين توانسة”، وصفحة “المسيح في تونس”، إلخ. وأهمّ المواضيع التي تطرقها هذه الصّفحات تعارض العلم مع الدّين، والإساءة إلى المرأة والعنف الدّينيّ.

إذن هذا هو المعيش الّذي لا تتحدّث عنه وسائل الإعلام عادة، لأنّه لا يرتبط بالأحداث والحوادث المثيرة كالعنف الدّينيّ والإرهاب. ورغم أنّه أهمّ من العنف والإرهاب من النّاحية الكمّية، بما أنّ نسبة المنخرطين في الإيديولوجيا الجهاديّة هو دون الواحد بالمائة. ويتأكّد من خلال هذه الصّفحات ارتباط حريّة الضّمير بحريات أخرى وبهامشيات لم تكن تعبّر عنها إلاّ مع ظهور الوسائط الحديثة: مثال ذلك ارتباط الإلحاد بالمثلية وبالمتحوّلين جنسيّا، والمتحولين دينييّا،  وبأنصار الثقافة الأمازيغيّة، وحتّى بعبادة الشيطان.

هذا ما يجعل حريّة الضّمير قاطرة لكلّ الحرّيات الفرديّة، ونموذجا لها. وهذا ما يجعل الانكباب على المعيش ضروريا إلى جانب الاهتمام بالأفكار والمجادلات الدّينيّة. وهذا ما يؤكّد في المحصّلة أنّ مسار العلمنة فرض نفسه في تونس، سواء تعلّق الأمر بالتّشريع، أم بالسّجال الفكريّ، أم بالمعيش الفرديّ.